غير أن محاولاته النبيلة تبوء بالفشل؛ لأنها موجهة إلى تاسو «الإنسان»، إلى تاسو «الشاعر»، ولأنها تطبق معيارا يصلح للقاعدة لا للاستثناء، وللكل لا للفرد، ولو استمع «تاسو» إلى نصحه، لما كان هو «تاسو» ولا كان من حقنا أن نتحدث عن مأساته. فإذا كانت قوة «أنطونيو» في خضوعه للنظام والتزامه بالأصول والحدود؛ فإن قوة «تاسو» وضعفه في آن واحد في تمرده على كل المقاييس والأشكال، وخضوعه لضرورة الخلق والإبداع.
وإذن فقد ظل صادقا مع طبيعته كشاعر وإنسان فريد، ولو أحنى رأسه، لأصبح واحدا من مئات الشعراء الذين ازدحم بهم الأدب العالمي (والأدب العربي بوجه خاص) وعاشوا وماتوا كالشحاذين على صدقات الأمراء والسلاطين.
إن من أعز أشواق الإنسانية أن يحيا الشاعر والفنان مع المجتمع في وئام. ولكن لا ينبغي أن ننسى أن الشاعر والفنان لا يستطيع إلا أن يكون شاعرا وفنانا، أعني أن يعيش في صراع دائم مع القيود والحدود، ويحيا في عالم خاص به يبعده بوجه من الوجوه عن المجتمع ويبعد المجتمع عنه.
فكل من جعل من الإليزيوم (جنة الخالدين) وطنه ومسكنه، لا بد له أن يحيا غريبا على الأرض مثل «تاسو». ومع أن بلاط «فرار» قد قدم لشاعرنا أقصى ما يقدم من واجبات الضيافة والرعاية، فقد أوضح مع ذلك بصورة مفزعة أن التفاهم بين الشاعر والمجتمع يقوم دائما على سوء تفاهم ضخم؛ لذلك تحسن المجتمعات صنعا، إذا تركت للشعراء حرية الرفض والاحتجاج وكفلت لهم حق التفرغ والاعتزال؛ ذلك لأنهم لا يحتجون عليها إلا حبا فيها، ولا ينعزلون عنها إلا ليزدادوا قربا منها ومعرفة بها. كان هذا هو حق القواد والرواد دائما ، ومن أحق بالقيادة والريادة من الفنانين والشعراء؟!
لا بد أن يكون لدى الشاعر أو الفنان ما يقوله. ولعل «جوته». لم يرد بمسرحيته «تاسو» أكثر من أن يقول إن وجود الشاعر عذاب. لقد صور فيها حالة نفس مريضة ولكنه لم يقصد تصوير المرض النفسي لذاته، بل ليوضح من خلاله طبيعة الإحساس الشعري بالحياة، وهو إحساس يستمد قوته من ضعفه وتعرضه الدائم للخطر والدمار؛ فالشعر هنا والفن عموما ليس هو الحالة السوية. بل هو شيء غريب، مضيع ومريض. ولا شك أن هذه نظرة رومانتيكية أو عاطفية. ولا شك أيضا أنها أثرت في تصور الرومانتيكية للشاعر والفنان كما عبرت في السنوات الأخيرة عن نفسها أوضح تعبير في أعمال كاتب كبير، مثل «توماس مان». وطبيعي أن يكون «جوته» قد صور في مسرحيته جانبا من حياته وآلامه الشخصية، وإن لم يمنع هذا من أن تنفرد الصورة بحقيقتها المستقلة. لقد سبق أن فعل ذلك في رواية شبابه «فرتر»، فكانت تسجيلا لعذابه وخلاصا من هذا العذاب في وقت واحد. وهو قد فعل الشيء نفسه في «تاسو»، فتجاوز همومه إلى هموم الشعراء بوجه عام، وبين أن الشاعرية في صميمها نوع من العذاب الذي يكابده الشاعر في العالم وفي ذاته، ينشأ عن إفراط في الخيال وتفريط في الواقع. فمن طبيعة المخيلة أن تعلو وتتجاوز باستمرار، وتتحرك حركة جارفة متدفقة تتخطى «الهنا» و«الآن»، ولا تعترف إلا بالماضي أو المستقبل. وقد أورد «إكرمان» حديثا له مع «جوته» في اليوم الثامن من شهر مارس سنة 1831م، أي قبل وفاته بسنة واحدة، يمكن أن ينطبق على «تاسو» بصورة مباشرة؛ فقد قال له «جوته»: «إنه لا شك أن في الشعر وبالأخص في غير الشعوري منه، شيئا شيطانيا لا يدركه الفهم ولا العقل، ويؤثر من أجل ذلك تأثيرا لا يمكن تصور مداه». ولا بد أن «جوته» قد أراد أن يحد من خطر رومانتيكي كان يتهدده ويغريه بالانسياق وراء الخيال الجامح والبعد عن الأرض ونظمها وأشكالها. ولا بد أنه وصل بذلك إلى الهدوء والاتزان الذي تميز به في حياته وأعماله.
ولكن هل وصل «تاسو» نفسه إلى شيء من هذا الهدوء والاتزان؟ هل وجد في النهاية بعض العزاء عن حزنه المنكسر الأليم؟ وهل كان في قدرته على التعبير عن هذا الحزن أو في شاعريته نفسها، ما يعوضه عن فشله وهوانه في العمل والحياة؟
لا بد أنه أحس بما يشبه العزاء الميتافيزيقي عن تحطم وجوده التعيس، حين قال عن نفسه في نغمة لا تخلو من الفخر والكبرياء إن الله قد أعطاه القدرة على التعبير عن عذابه، حين حرم غيره من هذه القدرة وتركه أخرس من الألم:
لم يبق إلا شيء واحد: الدموع التي أعطتها لنا الطبيعة
وصرخة الألم التي يطلقها الإنسان
حين يعجز عن الاحتمال.
ناپیژندل شوی مخ