عصر انبثاق: د عربي ملت تاریخ (لومړی برخه)
عصر الانبثاق: تاريخ الأمة العربية (الجزء الأول)
ژانرونه
ولم يستقر «سرجون» في عاصمة واحدة؛ فاتخذ مدينة «آشور» عاصمة له، ثم انتقل إلى «كالح» ثم إلى «نينوى»، ثم بنى مدينة جديدة سماها «دور شيروكين» أي مدينة الملك الصالح شمالي مدينة نينوى، وقد تفنن في بنائها على شكل مربع ضلعه ألفا ياردة، وجعل لها سورا ذا أبراج عالية تنيف على المائة والخمسين، وجعل لها ثمانية أبواب كبرى، كل باب يحمل اسما من أسماء الآلهة الآشورية، وزين جوانب الأبواب بصور ثيران مجنحة ذات رءوس بشرية، وجعل شوارع مدينته مستقيمة واسعة، وشيد في وسطها قصره الفخم العظيم، وبجواره ثلاثة معابد صغيرة، وصرح مدرج «زقوره»، ولكنه لم يتمتع بذلك طويلا؛ إذ اغتيل بعد سنتين، فخلفه ابنه «سنحاريب»، وكان فتى عسكريا صارما عاقلا، وأول عمل قام به هو عودته إلى «نينوى» العاصمة القديمة إرضاء لرجال الدين الذين نقموا على أبيه لانتقاله عنهم، وما استقر في نينوى حتى أخذ يرتب أموره، وينظم شئون الدولة، ويعمر المدينة، ويبني لنفسه قصرا ضخما زينه بكثير من النقوش والتماثيل الجليلة التي نقلها من مدينة أبيه «دور شيروكين»، كما شاد كثيرا من الأمكنة العامة التي جعلت عاصمته زينة مدن الدنيا في عهده، ولكنه لم يتمتع بالأمن والسكينة طويلا؛ إذ فوجئ بقيام الثائر «مردوخ بلادان» عليه وإعلان الثورة في بابل، فخرج سنحاريب لمحاربته، واحتل بابل، ولاحق مردوخ الذي التجأ إلى إقليم الأهوار حتى قضى عليه، ثم قضى على الفتن التي قامت في الأقاليم الخاضعة لسلطانه في بلاد قليقية، وفينيقية، وسوريا، وفلسطين، وكان سنحاريب شديد العنف والقسوة في أعماله الحربية، وبخاصة في حرب بابل ويهودا بفلسطين، فقد لاقى أهل هذين البلدين منه ظلما شديدا.
ولما هلك خلفه ابنه «أسر حدون» وكان سياسيا حكيما، فاتبع طريقة الحكمة واللطف والسياسة، وأعاد بناء بابل، ونظم البلاد تنظيما عمرانيا حسنا، حتى استقرت الأوضاع العامة في عهده استقرارا جعله يفكر في توسيع ملكه، وفتح ديار مصر التي تنافسه في فينيقية وسوريا وفلسطين، فسار يريد الاستيلاء عليها، ومر بطريقه على صيدا التي أعلنت ثورتها عليه فدمرها، ثم سار نحو مصر في سنة 674 قبل الميلاد، ولكنه لم يوفق في حملته هذه؛ فرجع وأخذ يهيئ نفسه لحملات أكبر، وظل ثلاث سنوات يهيئ نفسه وجيشه، وسار إليها في سنة 671 قبل الميلاد، فدخل أرض مصر، واستولى على عاصمتها «منفيس»، وألحق الدولة المصرية بالإمبراطورية الآشورية.
ولما مات خلفه ابنه «آشور بانيبال» العظيم الذي وطد أقدام الإمبراطورية، وأخمد ثورات المصريين، وأعاد جميع بلادهم إلى سلطته بعد أن قل نفوذه في بعض بلادهم، واستولى على مصر من الدلتا إلى أعالي النيل، واحتل مدينتي «طيبة» و«الأقصر» في الجنوب، وغنم غنائم كثيرة، ثم رجع إلى مصر الشمالية، ورحل إلى بلاده بعد أن أقام في مصر جيشا كبيرا، ولكن تكاليف هذا الجيش الضخم والثورات العديدة التي كانت تقوم في أنحاء الإمبراطورية الواسعة أضعفت مركزه؛ فأخذت الدولة تتقلص، وكان لحملات «الماديين» في الشرق، و «الكلدانيين» في الغرب أثر قوي في ضعضعة الإمبراطورية وانكسارها.
وقد استطاع ملك الكلدانيين «بنو يولاسر» في سنة 612 قبل الميلاد أن يستولي على نينوى، ويقضي على الإمبراطورية الآشورية العظمى.
إن الآشوريين خلفوا من ورائهم حضارة جليلة لا تقل عن أخواتها السابقات اللواتي قمن في وادي الرافدين، وقد كان لملوك هذه الدولة وبخاصة «آشور بانيبال» أثر قوي في نشر روح العلم وإحياء العرفان؛ لما كان يتمتع به من حب الأدب والمعرفة، وقد جمع في قصره كثيرا من الآثار الأدبية، والكتب العلمية المختلفة، وقد عثر النقابون في سنة 1853م في حضائر قصره الفخم الذي شيده في نينوى على خزانة كتبه المملوءة بالسجلات والوثائق والبحوث العلمية والأدبية المدونة على رقم الطين، والتي يبلغ عددها عشرات الآلاف، كما عثروا على كثير من المنحوتات والتماثيل الفنية الرائعة، وأواني الزينة والتجميل والحلي البديعة. قال البروفسور ديورانت في الفصل النفيس الذي عقده في كتابه قصة الحضارة عن مكتبة آشور بانيبال: أهم ما يخلد ذكر آشور في تاريخ الحضارة هو مكتباتها؛ فقد كانت مكتبة آشور بانيبال تحتوي على ثلاثين ألف لوحة من الطين مصنفة ومفهرسة، وعلى كل واحدة منها رقعة يسهل الاستدلال بها عليها، وكان على كثير منها تلك العبارة التي كانت من شارات الملك الخاصة: «فليحل غضب آشور وبليت ... على كل من ينقل هذا اللوح من مكانه ... وليمحوا اسمه واسم أبنائه من على ظهر الأرض.» وكثير من هذه الألواح منسوخة من أخرى أقدم منها لم يبين تاريخها، وتكشف أعمال الحفر في كل يوم.
وقد أعلن آشور بانيبال أنه أنشأ مكتبة ليمنع الآداب البابلية أن يجر عليها النسيان ذيله، ولكن الألواح التي يصح أن تسمى الآن أدبا لا تتجاوز عددا قليلا منها، أما معظمها فسجلات رسمية وأرصاد يقصد بها التنجيم والفأل والطيرة والتنبؤ بالمستقبل، ووصفات طبية، وتقارير ورقى سحرية، وترانيم وصلوات، وأنساب الملوك والآلهة. وأقل هذه الألواح مدعاة إلى الملل لوحان يعترف فيهما آشور بانيبال بحب الكتب والمعرفة، وهو اعتراف يزري به في أعين مواطنيه، والغريب أن يكرر فيهما هذا الاعتراف، ويعبر عليه إصرارا: «أنا آشور بانيبال، فهمت حكمة نابو، ووصلت إلى فهم جميع فنون كتابة الألواح، وعرفت كيف أضرب القوس، وأركب الخيل والعربات، وأمسك أعنتها ... وحباني مردوخ حكيم الآلهة بالعلم والفهم هدية منه، ووهب لي إثورت وشرجال الرجولة والقوة والبأس الذي لا نظير له، وعرفت صنعة آداب الحكم، وما في فن المكتبة كله من أسرار خفية، وقرأت في بناء الأرض والسماء وتدبرته، وشهدت اجتماعات الكتبة، وراقبت البشائر والنذر، وشرحت السموات مع الكهنة العلماء، وسمعت عمليات الضرب والقسمة المعقدة التي لا تتضح لأول وهلة. وكان من أسباب سروري أن أكرر الكتابات الجميلة الغامضة المدونة باللغة السومرية، والكتابات الأكدية التي تصعب قراءتها، وامتطيت الأمهار، وأطلقت السهم، وتلك سمة المحارب، ورميت الحراب المرتجفة كأنها رماح قصيرة ... وأمسكت بالأعنة كسائق المركبات ... ووجهت ناسجي دروع الغاب وبحنانه، كما يفعل الرائد، وعرفت العلوم التي يعرفها الكتبة على اختلاف أصنافهم حينما يحين وقت نضجهم، وتعلمت في الوقت نفسه ما يتفق مع السيطرة والسيادة، وسرت في طرائقي الملكية ...»
7
ولم يكن آشور بانيبال وحده من ملوك آشور الذين سلكوا مسلك العلم وإحياء الفنون، بل كان أكثر ملوك هذه الدولة من أهل المعرفة وحب الفضائل، وقد قربوا العلماء، وساروا على النهج الصالح الذي سنه البابليون في علوم الدين والسياسة والآداب والفنون، والتشريع والنسخ والترجمة.
وليس هذا وحده ما خلفه الآشوريون من أثر علمي، بل إنهم اشتغلوا أشغالا علمية ميزت حضارتهم، ويمكننا إجمال ذلك بالنقاط الآتية: (1)
اعتنوا عناية شديدة بعلم الطب وعقاقيره ونباتاته، وقد حفظت لنا الرقم الطينية التي خلفوها كثيرا من بحوثهم في هذا الباب، وتجاربهم في العلاج، وقد كان عملهم هذا البداية الصالحة لعلم التاريخ الطبيعي، وقد أفاد اليونان والرومان أجل الفوائد من بحوثهم هذه. (2)
ناپیژندل شوی مخ