الجنود الآتية في البحر لا تنزل إلى البر، بل تعود من حيث أتت.
وها نحن في انتظار الإفادة لغاية يوم الأربعاء 11 أكتوبر الساعة الخامسة بعد الظهر، وإذا لم يأتنا رد مرض في الميعاد المحدد نعتبر ذلك بمثابة إعلان حرب تعود مسئوليتها على الحكومة البريطانية، ونكون نحن بريئين من تبعتها.
فأرسل في الحال السير ألفريد ملنر هذا البلاغ على جناح البرق إلى حكومته، فكان له وقع سيئ في نفوس جميع الإنكليز، حتى إن الحزب الذي كان يدافع عنهم في إنكلترا أمسك عن اعتراضه، وعد ذلك عنادا وإهانة. وفي 10 أكتوبر الساعة العاشرة والدقيقة الخامسة والأربعين مساء بعث المستر شامبرلن إلى السير ألفريد ملنر تلغرافا يقول فيه: «بلغ حكومة الترنسفال أن تلغرافهم عرض على جلالة الملكة، فرفضت قبوله.»
وفي 11 أكتوبر تحرك جيش الترنسفال بقيادة الجنرال جوبير، وسار إلى مستعمرة الناتال وحاصر مدينة لادي سميث، وكان قائد حاميتها الكولونيل كيكوينش، وكان معه نجل اللورد سالسبوري والمستر سسل رودس عدو البوير ، وحاصر مدينة مفكنج، وكان قائد حاميتها الكولونيل بادن بول (هو اليوم ميجر جنرال )، ثم تطوع لجيش الترنسفال عشرون ألفا من البوير الخاضعين لإنكلترا في مستعمرة الكاب والناتال، وأعلن الرئيس كروجر بأنه يعطي مكافأة قدرها عشرون ألف جنيه لمن يأتي بالمستر سسل رودس حيا أو ميتا.
ولما تطايرت إلى لندرا أخبار حصار المدن الثلاث أمرت الحكومة الجنرال السير ردفرس بولر بالذهاب إلى جنوب أفريقيا لاستلام القيادة العامة للجيش البريطاني، فأبحر إلى هناك مع أركان حربه في 15 أكتوبر سنة 1899، وفي 20 منه حدثت واقعة جلانكوي حيث أصيب الجنرال سيمونس برصاصة في أمعائه، وقبل أن يفارق الحياة أخذ أسيرا، فحينما رأت الجند أن هذا البطل العظيم أصيب وأسر هجموا على البوير قائلين: «فلننتقم لقائدنا.» فأخذوا منهم قمم دندي وهزموهم، فارتد البوير خاسرين ومعهم الجنرال سيمونس يتألم من جروحه، ويهنئ نفسه بفوز جنوده. وفي الساعة الخامسة من مساء 26 أكتوبر فارق الحياة الدنيا مأسوفا عليه، وكان لخبر وفاته وقع سيئ في قلوب جميع الإنكليز، وأرسلت جلالة الملكة رسالة إلى اللادي سيمونس تعزيها على فقد زوجها.
وحينما وصل الجنرال بولر إلى الناتال كان موضوع خطته الحربية خلاص لادي سميث من الحصار أولا، ثم المدن الباقية بعدها، وبعد وصوله ظلت إنكلترا تنتظر أخبار النصر حتى مضت الأيام الطوال، ولم يأتهم ما يفرج كربهم، بل كانت أخبار الكسرات المتوالية تطن في كل وقت، حتى تخيل لكل أحد أن الدولة الإنكليزية ستقضي نحبها في هذه الحرب، وصارت الدول المعادية لها تظهر الشماتة والازدراء، ولم يزل الأمر على هذا الحال والحكومة الإنكليزية ترسل الجنود والعدد الحربية من وقت إلى آخر، ولكن بدون فائدة حتى خافت العاقبة بعكس البوير الذين كانوا ثملين بخمرة الانتصارات العديدة في جميع وقائعهم.
وفي 17 ديسمبر سنة 1899 اجتمع البرلمان الإنكليزي وقرر زيادة الجيش إلى مائة ألف مقاتل، وتعيين اللورد روبرتس قائدا عاما، واللورد كتشنر بطل الخرطوم رئيسا لأركان حربه، وجعل الجنرال بولر قائدا حرا على ثلث الجيش فقط، منعا لمس إحساساته، وحينما وصلت الأوامر إلى اللورد كتشنر في مصر قام في الحال في 27 ديسمبر إلى جبل طارق حيث تقابل مع اللورد روبرتس، وفي 10 يناير سنة 1900 وصلا إلى مدينة الرأس، فعند وصولهم عزم اللورد روبرتس على تغيير الخطة التي سار عليها الجنرال بولر، فأمر الجنرال فرنش أن يقود ثلاثة ألوية من الفرسان والطبجية والبيادة، ويسير بهم شرقا عابرا نهر مدر حتى يصل إلى أورنج، ثم أمر فريق الجنرال طوكر واللورد كتشنر أن يقوما بإثره وألحق بهم الجنرال كليكني، فعبروا نهر مدر من جهة معبر كليب، فصادفوا البوير في طريقهم، فتغلبوا عليهم، وفي 11 فبراير سنة 1900 استولوا على ثلاثة معسكرات، وفي 16 منه دخل الجنرال فرنش مدينة كمبرلي بعدما رفع عنها الحصار، فقوبل بالدعاء والسرور العظيم.
أما الجنرال كرونجي الذي كان محاصرا لكمبرلي، فتقهقر برجاله قاصدا بلوم فنتين ليحصنها ويرد هجمات الإنكليز عنها، فجد الجنرال كليكني واللورد كتشنر في إثره، وفي 17 فبراير سنة 1900 غنم الإنكليز منه 95 مركبة محملة بالذخيرة، وفي اليوم المذكور كان التعب قد أنهك قوى البوير، فوقف الجنرال كرونجي في نقطة اسمها باردي برج بالقرب من نهر مدر في أرض منبسطة، وصف المركبات الباقية معه على شكل دائرة حول جنوده، وأخذ بإطلاق الرصاص على الإنكليز فجاوبتهم بالمثل، وفي 18 منه جاء الجنرال فرنش ليساعد الجنرال كليكني واللورد كتشنر، ثم لحقه اللورد روبرتس، وفي 19 منه أحاطت الجنود الإنكليزية بجيش الجنرال كرونجي من كل جانب، ولما تيقن هذا الأخير بعدم الخلاص وقد فقد من جيشه 800 مقاتل وكثيرا من الخيل، أرسل إلى اللورد كتشنر يطلب هدنة ليدفن القتلى، فرد عليه بقوله: «لا أوقف القتال حتى تسلم.» فأبى كرونجي التسليم وأصر على القتال حتى يقتل، وفي مساء 26 فبراير هجمت الإنكليز على خنادق البوير وحمي وطيس القتال في هذه الليلة، حتى تمزقت القلوب، ولما لاح الفجر أتى رسول من البوير رافعا راية بيضاء وبيده كتاب التسليم بدون شرط من الجنرال كرونجي، فأوقف القتال، وتم الفوز في هذا اليوم للإنكليز الذي في مثله من سنة 1880 كسروا على تل ماجوبا، وقد محا هذا النصر الأخير ذكر الانكسار السيئ . وفي 3 مارس 1900 أبحر الجنرال كرونجي ومن معه إلى جزيرة القديسة هيلانة.
وبينما كان اللورد روبرتس يحارب البوير شرقا في باردي برج، كان الجنرال بولر يحاربهم غربا عند نهر توجلا، وقد انتصر عليهم وهزمهم ورفع الحصار عن لادي سميث، وكان فرح الأمة الإنكليزية عموميا لا يوصف لما أحرزوه من النصر المتوالي، ووردت رسائل التهاني إلى جلالة الملكة، كما أن جلالتها أرسلت التهاني أيضا لجميع قوادها في جنوب أفريقيا.
وفي 6 مارس سنة 1900 أرسل الرئيسان كروجر وستين رسالة برقية إلى اللورد سالسبوري يطلبان منه الصلح على شروط أهمها حفظ استقلالهما، فأجابهما في 11 منه يقول: «إن حكومة جلالة الملكة لا يمكنها إجابتكم إلا بالرفض القطعي وعدم الرضاء باستقلالكما.» فأرسل الرئيسان إلى جميع الدول يستغيثان بها ويطلبان منها التداخل في أمرهما، فرفضت طلبهما، فانتخب البوير وفدا منهم برئاسة المستر فلورنزا رئيس وزارة أورنج، والمستر فيشر رئيس وزارة الترنسفال، وقام الوفد المذكور في 12 مارس قاصدا الذهاب إلى عواصم أوروبا لإلقاء الخطب وتهييج الرأي العام للأخذ بناصرهم.
ناپیژندل شوی مخ