وقال لهم: «إنى أردت أن أرحل إلى ممس (1) فأنزلها، فإن هذه المدينة فيها خلق عظيم من المسلمين ولهم علينا عهد، فلا نغدر بهم ونحن نخاف إذا التحم القتال أن يثبوا علينا، ولكن ننزل ممس على ماء كثير يحمل عسكرنا، فإن معنا خلقا عظيما فإن هزمناهم دخلنا معهم إلى طرابلس وقطعنا دابرهم من الدنيا؛ تكون لنا إفريقية دارا إلى آخر الدهر، وإن هزمونا كان الجبل منا قريبا الشعراء [ه] فنرجو ألا نهلك ولا يفقد منا إلا قليل فوافقوه فرحل إلى ممس فنزلها.
وبلغ ذلك زهير فلم يدخل القيروان ونزل على باب سالم وأقام ثلاثة أيام حتى استراح وأراح من معه وزحف فى اليوم الرابع، ووقف على كسيلة وعسكره آخر النهار فأمر الناس بالنزول، فنزلوا وبات الناس على مصافهم، ووقفت خيول القوم بعضهم إلى بعض طول الليل فلما اصبح صلى مغلسا ثم زحف إليه. وأقبل كسيلة ومن معه والتحموا فى القتال ونزل الصبر وكثر القتل فى الفريقين، حتى يئس الناس من الحياة فلم يزالوا كذلك حتى انهزم كسيلة، وقتل بممس ولم يجاوزها.
ومضى الناس فى طلب الروم والبربر، فلحقوا كثيرا منهم بمزرعة «ملمجنة» وألحوا فيهم وجدوا فى طلبهم، حتى سقوا خيلهم من الوادى المعروف بملوية من المغرب، ففى تلك الواقعة هلك رجال الروم والمشركين من البربر وفرسانهم وأشرافهم، ففزع منه أهل إفريقية، واشتد خوفهم، فلجأوا إلى الحصون والقلاع، ثم إن زهيرا رأى بإفريقية ملكا عظيما فخاف أن يقيم، وقال: «إنى قدمت إلى الجهاد، وأخاف أن تميل بى الدنيا فأهلك، ولست أرضى بملكها ورغد عيشها». وكان من رؤساء العابدين وكبراء الزاهدين- رضى الله عنهم- فنزل القيروان وأقام بها كثير من اصحابه.
ورحل زهير قافلا إلى المشرق فى خلق عظيم، وقد كان بلغ الروم خروج زهير من برقة إلى إفريقية لقتال الروم، فأمكنهم ما يريدون فخرجوا إليها فى مراكب كثيرة ، فأغاروا على
مخ ۴۵