غير أن الإسلام في أصله يفترق عن غيره من الملل بأن الخلافة فيه وإن أشبهت الملك من جهة الأمر والنهي - على شرط مشاورة أهل الحل والعقد - فهي لا تشبه الملك في مزايا الترف وخصائص الابهة التي يجيزها ملوك الأمم الأخرى. وقد سبق لنا أن تعرضنا لهذا المقام في «حاضر العالم الإسلامى» فقلنا في صفحة 240 من الجزء الأول: «الخلافة في الإسلام ليست بملك ولا سلطنة، وإنما هي رعاية عامة للأمة لإقامتها على الشرع الحنيف، وردع القوي عن الضعيف في الداخل، وصيانة الإسلام ودفع المعتدي عليه من الخارج. وهي لا تنعقد إلا بإرادة الأمة، والسلطان الذي يؤتاه صاحب الخلافة هو من الأمة لا سلطان له عليها إلا منها. وقد فهم لوثروب ستودارد هذا الباب حق الفهم، وعرف الخلافة التعريف الصحيح، بخلاف كثير من الأوروبيين الذين يتبجحون بزعمهم أن مبدأ كون السلطان القومي من الأمة إنما هو من الأوضاع الغربية الأوروبية، قاتلهم الله ما أجهلهم بتاريخ الشرائع، وما أجرأهم على الخلط.
ومن أغرب الأمور أن كثيرا من الشرقيين - ومن المسلمين أنفسهم - يتابعون الإفرنج متابعة عمياء في هذا الوهم ولا يعلمون قاعدة الإسلام في هذا الموضوع. ولو تأملوا ما كان علية الخلفاء الراشدون الأربعة - وهو أشد صور الحكم الإسلامى انطباقا على الشرع - لرأوه أمرا شعبيا محضا، ووضعا ديمقراطيا بحتا، وأبعد شيء عن السلطان المطلق والقرآن الكريم في هذا صريح بقوله تعالى:
وشاورهم في الأمر
وقوله:
وأمرهم شورى بينهم . نعم إن الخلفاء الراشدين لم يقع انتخابهم إلى أجل مسمى نظير رؤساء الجمهوريات اليوم، ولم يكن العرب لذلك العهد - بسذاجة البداوة - يعرفون هذا الضرب من الترتيب، ولكنه لا جدال في أن الخليفة لم يكن شخصا مقدسا غير مسئول كما هو عند الأوروبيين، ولم تكن له مزية شخصية على سائر الأمة، وكان إذا أخطأ يقيد من نفسه. ولم يخطر ببال أحد من الخلفاء الراشدين أن يورث أولاده الخلافة، بل كانوا يلقونها على ظهورهم إلقاء من يريد الخلاص من تبعها، فإذا كان الإنسان يريد أن يعرف ثمار شجرة الإسلام فليتأمل في سيرة الخلفاء الراشدين، فإنها المرآة الحقيقية لروح الإسلام.
ويناسب أن نذكر هنا بعض الآثار الواردة في ما كان الخلفاء الراشدون يفهمون من هذا الأمر، جاء في «الطبقات الكبرى» لمحمد بن سعد: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني قيس بن الربيع عن عطاء بن السائب عن زاذان عن سلمان أن عمر قال له: أملك أنا أم خليفة؟ فقال له سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهما أو أقل أو أكثر ثم وضعته في غير حقه فأنت ملك غير خليفة. فاستعبر عمر. ثم قال أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني عبد الله بن الحارث عن أبيه عن سفيان بن أبي العرجاء قال: قال عمر بن الخطاب: والله ما أدري أخليفة أنا أم ملك؟ فإن كنت ملكا فهذا أمر عظيم. قال قائل: يا أمير المؤمنين، إن بينهما فرقا. قال: ما هو؟ قال: الخليفة لا يأخذ إلا حقا ولا يضعه إلا في حق، فأنت بحمد الله كذلك، والملك يسعف الناس فيأخذ من هذا ويعطي هذا. فسكت عمر. ولما بويع أبو بكر قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد فإني وليت هذا الأمر وأنا له كاره، والله لوددت أن بعضكم كفانيه، ألا وإنكم إن كلفتموني أن أعمل فيكم بمثل عمل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لم أقم به؛ كان رسول الله عبدا أكرمه الله بالوحي، وعصمه به ألا وإنما أنا بشر ولست بخير من أحد منكم، فراعوني، فإذا رأيتموني استقمت فاتبعوني وإن رأيتموني زغت فقوموني.» إلى آخر ما ذكرنا في «حاضر العالم الإسلامى».
ومنه يظهر أن الخليفة ليس معصوما عند أهل السنة، وأنه لا يمتاز عن غيره من الرعية، وأنه مقيد بالشورى، وأنه ليس له أن يستبد بالأمر. ولعل قائلا يقول: إن ملوك العصر الحاضر أيضا مقيدون بالدساتير التي وضعتها الأمم التي يلون أمورها وليس لهم أن يستبدوا في شيء. وهذا لا جدال فيه وإن الأمم الحديثة قيدت الملوك، ولكن يبقى بينهم وبين الخلفاء الراشدين الفرق العظيم بأن ملوك الأعصر الأخيرة هم غير مسئولين في أحوالهم الشخصية، وأن الخلفاء في الإسلام هم مسئولون كسائر الرعية. ويبقى فرق آخر بأن الخلفاء كانوا من السذاجة والتقشف في معيشتهم ما لم يكن أحد قبلهم ولا بعدهم، ولم يكونوا يأخذون من بيت المال إلا ما يسد عوزهم الضروري، والحال أن الملوك ورؤساء الجمهوريات في الأعصر الأخيرة يتمتعون بالجرايات الوافرة ويعيشون في ترف عظيم لا ينازع فيه أحد.
وكذلك الملوك في هذا العصر ينتقل الملك منهم إلى أولادهم فأحفادهم، والخلفاء الراشدون كانوا يعهدون إلى ذوي الكفاية من الأمة دون أولادهم، فروح الإسلام الحقيقي هي مراعاة الكفاية والأهلية دون أي اعتبار آخر. ولهذا لم أكن ممن يذهب إلى اشتراط القرشية في الخلافة ولو كان هو مذهب الجمهور، فإن حصر الإمامة في أسرة أو عائلة أو عشيرة لا ينطبق على هدي الخلفاء الراشدين الذين كان يمكن كل منهم أن يعهد بالأمر لولده، والحال أنهم لم يفعلوا ذلك، فلا أبو بكر فكر في العهد لمحمد بن أبى بكر، ولا عمر فكر في العهد لعبد الله بن عمر، ولولا خروج معاوية على علي لكان علي أيضا اقتدى بهما في اختيار من هو الأصلح لأمر الأمة. ولو كان حصر الإمامة في قريش محتما ما كان عمر يقول: لو أدركني أحد رجلين فجعلت هذا الأمر إليه لوثقت به؛ سالم مولى أبى حذيفة، وأبى عبيدة بن الجراح. وقد كان سالم مولى أبى حذيفة من الأعاجم كما لا يخفى! وقد رد على هذا الدليل بأن عمر صحابى، وأن مذهب الصحابي ليس بحجة. ولكن يرد على هذا بأن عمر بن الخطاب وإن لم يكن معصوما فهو الذي روي عن الرسول
ناپیژندل شوی مخ