» وكان الناس في أوروبا يعتقدون أنه من ذرية السلطان، ثم إن فرسان مالطة بعد هذه الغنيمة عرجوا على قندية من جزيرة أقريطش ونزلوا على البنادقة هناك فأكرموهم، فوصل هذا الخبر إلى السلطان فجن جنونه وأصدر أمره بادئ ذي بدء باستئصال جميع المسيحيين ، إلا أن شيخ الإسلام عارضه بشدة فتوقف عن إنقاذ هذا الأمر، وأمر بقتل جميع الإفرنج، فجاء الوزراء وأبدوا وأعادوا حتى أرجعوه عن أمره هذا، وحسنوا الاكتفاء بقتل كهنة الكاثوليك، ولكنه رجع عن هذا أيضا وإنما اعتقل سفراء الدول المسيحية كلهم، وأرسل يقول لهم إنه يجعلهم مسئولين عن الإهانة التي لحقت به، فأجابه سفراء البندقية وإنجلترا وهولاندا بأنه لا يوجد في فرسان مالطة واحد من تبعة حكوماتهم، وأن جميع فرسان مالطة هم فرنسيس، فهاج غضب السلطان إبراهيم علي الفرنسيس، وبينما هو يريد الانتقام منهم أغراه الصدر الأعظم بفتح جزيرة كريت أو قريطش، وفي 24 يونيو 1645 كان الأسطول العثماني المؤلف من ثلاث مئة وثمان وأربعين سفينة أمام هذه الجزيرة، وأنزل إلى خانيا خمسين ألف مقاتل، فجاء أسطول البنداقة متأخرا فأخذوا ثأرهم بإحراق باتراس وكورون ومورون وأخذوا خمسة آلاف أسير من العثمانيين، فلما اتصل الخبر بالسلطان اشتد غضبه وأصدر أمرا جديدا بنقل المسيحيين في السلطنة، ورجع المفتي فعارضه أيضا بشدة، وفتح العثمانيون ريتمو وأبو كورونو وكسانون من مدن أقريطش ولكن امتنعت عليهم قندية.
وكان السلطان مسترسلا إلى شهواته البدنية منقادا لجواريه الحسان يفعل لهن ما يشأن، فاستنزفن خزانة السلطنة، وأسفت الرعية من هذه الحالة التي عليها السلطان، وكثر القال والقيل فعزم السلطان على البطش بقواد الانكشارية والباهية، فتجمعوا وانضم إليهم العلماء وقرروا خلع السلطان ومبايعة ابنه محمد الرابع - وهو طفل - ووقع ذلك في 8 آب 1648، وما مضى أسبوع على هذا العمل حتى قام السباهية يطلبون إرجاع السلطان إبراهيم إلى العرش، فخاف المفتي والعلماء على أنفسهم إذا رجع وجاءوا بالجلاد قره على ودخلوا على السلطان، فأخذ السلطان يستغيث وقال للمفتي: كان يوسف باشا سول لي قتلك وأنا لم أقبل منه واستحييتك، وأنت الآن تريد قتلي أفلا تلوت القرآن وعلمت كيف يكون حكم الظالمين؟ وبينما يقول هذه الكلمات إذ وضع الجلادون الحبل في عنقه وشدوه فأزهقوا روحه.
السلطان محمد الرابع
وبقي السلطان محمد الرابع على عرشه وهو ابن سبع سنوات ورجعت الفوضى كما كانت قبل أيام مراد الرابع، واضطر العثمانيون لرفع الحصار عن قندية وانكسر الأسطول العثماني، فقتل الوزير صوفي محمد باشا بسبب هذه الهزيمة، وزحف الثوار من الأناضول صوب القسطنطينية وقابلهم الصدر الأعظم قره مراد فهزموا وكادوا يستولون على الأستانة، إلا أن الخلف وقع بينهم فتفرقوا وتمكنت الدولة من الايقاع بهم ومن استرضاء بعضهم.
وفي سنة 1651 ثار الانكشارية طالبين عزل شيخ الإسلام «بهائي» لأنه أفتى بجواز الدخان والقهوة، وكانت الصدور العظام لا تستقر في الدسوت إلا أياما قلائل، وفي سنة 1656 ثار الانكشارية والسباهية بسبب تأخر رواتبهم وطلبوا عقاب الوزراء، فاضطر السلطان لإرضائهم، ولحسن الحظ كانت النمسا مشغولة بحرب الثلاثين سنة فلم تقدر أن تسترجع بلاد المجر، ولكن الحرب بين البندقية والدولة العثمانية لم تكن سعيدة الطالع للدولة، وتغلب الأسطول البندقي على الأسطول العثماني بإزاء الدردنيل، واستولى على تيندوس وعلى لمني، وبينما الحالة هي في الدرجة القصوى من الخلل تولى زمام الصدارة الوزير «محمد باشا الكوبر لي الشهير» ولم يقبل الصدارة إلا على شرط إطلاق يده في العمل، فوعدته السلطانة الوالدة بعدم معارضته بشيء، وأول ما بدأ به من الأعمال أنه ألغى الأمر الصادر بقتل سلفه، ثم ثار العكسر فأنزل بهم العقاب الصارم ورمى في البحر أربعة آلاف جثة، وبدت خيانة من بطريرك الروم فشنقه، ثم جدد الحرب على البنادقة بشدة عظيمة واسترجع تيندوس ولمنى، وجاء رسل شارل غوستاف ملك السويد يعرضون على الباب العالي محالفة دفاع وهجوم على بولونيا، فرفض الكوبرلي وألقى في السجن معتمدي أمير ترانسلفانيا راكوشي الذي تحالف مع السويديين ومع القوزاق على البولنيين، ثم عزله الكوبرلي وأقام مكانه رجلا يونانيا. وانقرضت بذلك عائلة باسارابيه التي نبغ منها عدة أمراء، فثار راكوشي على الدولة وانتصر في أول الأمر إلا أن الكوبرلي تغلب عليه، ووقعت معارك في بلاد رومانيا أوقع بها المسيحيون بالمسلمين الذين هناك، فزحف الكوبرلي على بلاد الفلاخ وظاهره التتار فزحفوا إلى مولدافيا وقهروا الرومانين وأقاموا أميرا من قبلهم على تلك البلاد.
ثم إن التتار تجاوزوا حدود مملكة النمسا فوقعت الحرب بين النمسا والدولة من أجل ذلك، فصارت الحرب بين الدولة من جهة النمسا والبندقية من جهة أخرى وكادت تقع مع فرنسا أيضا، وكانت امتيازات فرنسا في المملكة العثمانية مقررة ومسكوكاتها مقبولة، وما عدا الإنجليز والبنادقة فكل الامم لأجل أن تتجر في البلاد العثمانية يجب عليها رفع العلم الفرنسي، وكان الفرنسيس لا يؤدون شيئا من الضرائب في بلاد الدولة، وكان قرصان الجزائر لا يقدرون أن يمسوا بسوء السفن الفرنسية، وكان للفرنسيس حتى اصطياد الصدف في سواحل الجزائر، وأكثر من وطد هذه الامتيازات لفرنسا هو السفير سافاري دو بريف، ولكن بعد انقضاء أيام هذا السفير أخذت المحبة بين فرنسا والباب العالي بالنقصان ولا سيما في زمان مراد الرابع.
وكان الإنجليز والهولنديون أقنعوا السلطان بطرد الجزويت، وجاء سفير لفرنسا اسمه «هنري دوغورنيه
de Gournay » فأساء السياسة، فصدر الأمر بإغلاق كنائس غلطة التي كانت تحت حماية فرنسا، وبمنع الفرنسيين من حمل السلاح وبإجبارهم على دفع الرسوم والضرائب، ثم إن الأروام في القدس الشريف حصلوا على الإذن بحراسة الأماكن المقدسة، وقد كانت من قبل في أيدي الفرنسيسكان، وأخذ قرصان الجزائر يعتدون عى مراكب الفرنسيس، وانضم إلى ذلك أن سفير فرنسا عندما تولى الصدارة محمد باشا الكوبرلي لم يقدم له الهدايا المعتادة، وقد كانت هذه سنة متبعة، ثم رأى السفير الموسيو دولا هاي أن هذا الصدر الأعظم طالت أيامه فقدم له الهدايا اللازمة وعوض ما فرط، ولكن كانت سخيمة الصدر الأعظم تمكنت من قبله فصار يترصد الفرصة ليوقع بين فرنسا والدولة.
وكانت الحرب لا تزال مشتعلة بين البنادقة والدولة على أقريطش، وفي سنة 1659 جاء فرنسي اسمه فيرتامون إلى الصدر الأعظم وسلمه رسائل واردة من جيش البنادقة في قندية باسم المسيو دولاهاي سفير فرنسا في الأستانة، وكان هذا الفرنسي خائنا لقومه فسئل السفير عن ذلك، وكان طريح الفراش بمرض الحصى، وكان الصدر الأعظم وقتئذ في أدرنة، فأرسل السفير ابنه ينوب عنه، فبينما كان الصدر الأعظم يسأل ابن السفير عن معنى هذه المكاتيب لأنها كانت محررة بالأرقام، أجابه الولد بغلظة فأمر الصدر بحبسه وقال: لا نتحمل من ابن سفير ما يجوز أن نتحمله من سفير. فقام السفير من فراشه وذهب إلى أدرنة يحاول تخليص ابنه، فسأل الصدر السفير عن معنى هذه المكاتيب، فأبى السفير أن يجيب بشيء، فبقي الولد في الحبس، وأرسل الكردينال «مازارين» الماريشال «بلونديل» ومعه مكتوب من ملك فرنسا إلى السلطان يطلب فيه عزل الصدر الأعظم، فلم يلتفت الكوبرلي لمعتمد فرنسا ولا أذن له بمقابلة السلطان، فتحمل الكردينال مازارين هذه الإهانة وانتقم لفرنسا بإرسال متطوعين يساعدون البنادق في أقريطش، وكان أمر الكوبرلي يغلظ يوما فيوما، وكلما ازدادت سنه علوا ازداد بطشا وعتوا، وحصلت بعض فتوق في أيامه فسدها بدهائه وحزمه، وأطفأ ثورة حصلت في مصر، وقبل أن يموت سأله السلطان عن الشخص الذ يليق بأن يخلفه، فأشار عليه بابنه «أحمد باشا الكوبرلي» وكان كأبيه في الدهاء والحزم.
ولما تولى هذا الصدارة عرضت النمسا والبنادقة الصلح فلم يجب أحمد باشا الكوبرلي هاتين الدولتين إلى الصلح، وزحف وعبر الطونة عند غران وهزم الكونت دوفورغاكس، وضيق الحصار على بلدة نوهيزل
ناپیژندل شوی مخ