تاريخ ابن خلدون

شکیب ارسلان d. 1368 AH
140

تاريخ ابن خلدون

تاريخ ابن خلدون

ژانرونه

وتولى بعد مراد الثالث محمد الثالث، وكانت أمه من البندقية (يافه) ولما تولى محمد الثالث كان له تسعة عشر أخا فقتلهم جميعا، وبرغم من هذه الفعلة الغريبة كان حسن العقيدة صارما في إحقاق الحقوق مهتما بتنفيذ الشريعة الغراء، وفي زمانه تولى الأمور سنان باشا وحسن باشا وسيكار زاده، وعسفوا الرعية وأثقلوا كواهل الأهالي بالضرائب، ولم يقدر السلطان على إصلاح الحال، وكانت الحرب مستمرة وكانت العساكر العثمانية غير موفقة في بلاد الفلاخ حيث اتفق أمير الفلاخ مع أمير ملدافيا وأمير ترانسلفانيا، والإمبراطور وداف الثاني، فزحف سنان باشا واستولى على بخارست سنة 1595، إلا أن ميشيل أمير الفلاخ عاد فهزم العثمانيين، وقتل أسرى الأتراك بالخازوق، وشوى علي باشا وكدجي بك على النار، وصار الفلاخيون يتقدمون كل يوم إلى الأمام، ولكن الدولة العثمانية لم تكن تستغني عن بلاد الفلاخ لما كانت تستدره من أخلافها وتنعم به من خيراتها، وبينما هي تفكر في استرداد بلاد الفلاخ التي هي في هذا العصر مصاص مملكة رومانيا، مات الأمير ميشيل هذا فتخلصت الدولة العثمانية من شره.

وأما النمسا فكانت جيوشها استولت على غران ويسغراد وبابقشة وكليس فهاجت خواطر العثمانيين جدا، واضطر السلطان أن يخرج بنفسه إلى الحرب سائرا على خطة أجداده الأوائل، فوقع المصاف في سهل كيرستس في 26 أكتوبر 1596 ودارت الدائرة على النمسويين والمجر، وخسروا خمسين ألف مقاتل في تلك الموقعة، إلا أن العثمانيين لم يحسنوا الاستفادة من هذا الظفر العظيم وفي سنة 1598 رجعت النمسا وهاجمت مدينة راب، وعرضت على ساتورجي باشا تسليم البدلة فرفض، ولما وقع في أيدي النمسويين قطعوه إربا، والتجأ ثلاث مئة من العثمانيين إلى القلعة، ووضعوا النار في البارود فانفجر مخزن البارود، وقتل فيه المحاصرون والمحصورون واستولى النمسويون بعد ذلك على دولا ويسيريم وبابا، وانكسر حافظ أحمد باشا في نيقوبوليس ثم في بود ، فزحف الصدر الأعظم إبراهيم باشا وأنقذ بود واستولى على كانيشة سنة 1600، واستعمل إبراهيم باشا حسن السياسة مع الصرب والفلاخيين فانقادوا إلى الطاعة.

وأما حالة السلطنة في الداخل فقد كانت من أسوأ ما يكون، فلم تكن تسكن ثورة في جهة حتى تثور ثورة في جهة أخرى، وأهمها ثورة «قرة يزيدجي عبد الحليم» في الأناضول، وكان استولى على «أورفة» ثم اتفق مع أخيه الدلي حسن والي بغداد وادعى السلطنة، ولم تتغلب الدولة عليه إلا بعد جهاد طويل، وثار والي ديار بكر ووالي الشام ووالي حلب ووالي كوتاهية ووالي بغداد الدلي حسن المذكور، فتغلبت الدولة عليهم بعد عناء لا يوصف ونقلت والي بغداد إلى بوسنة.

ولكن أوجاق السباهية ثار على الحكومة بسبب تأخر أرزاقه، ولو شاركه أوجاق الانكشارية لقلبوا الحكومة والسلطان معا، ولكن الانشكارية حافظوا على الأمانة وفي أثناء ذلك مات محمد الثالث.

السلطان أحمد الأول

وخلفه ابنه أحمد الأول وهو لم يتجاوز الرابعة عشر من العمر، وكانت السلطنة منهوكة القوى بكثرة الفتن، وهي تحارب النمسا في أوروبا والعجم في آسيا لأن الشاه إسماعيل كان أعلن الحرب، واسترجع تبريز ووان وإيروان، بينما العصاة في أكثر بلاد الأناضول قد رفعوا رءوسهم، وفي ذلك الوقت عصى الأكراد تحت قيادة «جان بولاد» في حلب وعصى الدروز الذين تحت قيادة الأمير فخر الدين المعنى، فاسترضى مراد باشا الصدر الأعظم جمعا من رؤساء العصاة، وأرسلو جان بولاد واليا على طمشوار في البلقان، وأرضوا قلندر أوغلي بولاية أنقرة، فرفضت أنقرة قبول الثائر، فعاد إلى العصيان، فزحف إليه مراد باشا فهزمه وأرسل من فتك بموصلى شاويش وهو من رؤساء العصاة، كما استجلب إليه يوسف باشا والي منشة وآيدجين الذي كان عاصيا أيضا، فلما حصل في يده خنقه. وفر الأمير فخر الدين المعني إلى البادية. والخلاصة أن مراد باشا أتى بخوارق العادات من الحزم والدهاء حتى استأصل جراثيم الفتن التي كادت تقضي على كيان السلطنة العثمانية فلقبوه بمجدد السلطنة، وما انتهى من قمع الفتن الداخلية حتى وجه همته لمحاربة العجم.

ومن أغرب الأمور أن هذا الشيخ قام بجميع تلك العزائم والعظائم وهو في سن التسعين، أي كان أسن من موسى بن نصير يوم فتح الأندلس، ولكن أثر فيه التعب، وفي 5 آب 1611 انتقل إلى رحمة باريه، فاستدعى السلطان أحمد للصدارة الوزير نصوح باشا والي ديار بكر، فعقد الصلح مع العجم، وأعاد لهم البلاد التي كانت الدولة أخذتها منهم، فأما من جهة النمسا فإنه كان وقع بينها وبين المجر خلاف نفع العثمانيين، وبايع المجر ملكا اسمه بوسكاي، فدخل تحت حماية السلطان، وزحف لالا محمد باشا بجيش استرجع غران ويسغراد ويسيريم، فعادت النمسا فصالحت بوسكاي ملك المجر، وبقيت عساكر الدولة وحدها تحارب النمسا، وكانت الدولة مضطرة إلى الصلح تطفي نيرن الفتن المشتعلة في الأناضول، فانعدقت بين الدولة وبين النمسا معاهدة «سيتفاتوروك

Sitvotorok » سنة 1606، فنزلت الدولة عن الجزية السنوية التي كانت تدفعها لها النمسا وهي ثلاثون ألف دوكة، واكتفت بقبض مئتي ألف ريال غرامة حربية، وأعاد كل من الفريقين الأسرى الذين في يده، وبقيت للدولة غران وابرلو وكانيشه، وبقيت في يد النمسا راب وكورنون، وهذه المعاهدة هي أول معاهدة حصلت بها المساواة بين الدولة العثمانية والدول الأوروبية، لأنه إلى حد ذلك الوقت كانت الدولة العثمانية تعامل الدول الأوروبية معاملة الأعلى للأدنى، وتتقاضى الأوروبيين جزية سنوية وإتاوات متنوعة، وبهذه المعاهدة حصلت ترانسلفانيا على نصف استقلال، وتخلصت مملكة المجر من دفع الجزية عن القسم الذي لم يكن العثمانيون يحتلونه.

ومن خصائص تلك المعاهدة أن الدول المسيحية أمكنها أن تناقش الدولة العثمانية في كيفية تحرير الصك، وقبل ذلك كانت الدولة تملي مثل هذه المعاهدات باللغة التركية وتبلغها أعداءها، وكان عليهم أن لا يراجعوا فيها. وبالاختصار كانت هذه المعاهدة أعظم إرهاص بين يدي تقهقر آل عثمان.

هذا وقد رفض أهالي ترانسيلفانيا الدخول في طاعة النمسا، فرجع الباب العالي عما تقرر في العاهدة، وزعم أن بوسكاي لم يكن له حق بالتصرف بالإمارة بدون رضى الأهالي، فولى أمراء آخرين من قبله منهم بيتلنغابور وكان من أشداء أعداء النمسا، فاعترضت النمسا على ذلك ، فأجاب الصدر الأعظم بأن المتاركة غير شرعية لأنه لم يكن وقع عليها مفتي السلطنة، فثارت إمارة مولدافيا وطرد الأهالي طومزة الأمير الذي كان من قبل الباب العالي، إلا أن إسكندر باشا جاء فقمع الثورة وأعاد طومزة إلى مكانه، ثم نشبت الحرب في تلك المدينة بين الدولة وإسبانيا، وجاءت سفن فرسان مالطة وصارت تعيث في سواحل الدولة، وغنمت أساطيل الطليان عدة سفن حربية عثمانية، فوجهت الدولة قوتها البحرية إلى البحر المتوسط، وانتهز القوزاق هذه الفرصة ونزلوا في سينوب ونهبوها، فغضب السلطان على الصدر الأعظم نصوح باشا وأمر بخنقه، وفي سنة 1604 تجددت العهود التي كانت بين الدولة وفرنسا، وربما زيد فيها وشددت الدولة في منع الأعمال القرصانية في البحر المتوسط، وعزلت والي تونس وخنقت والي الجزائر، ثم تجددت العهود بين الدولة وبولونيا وتعهدت بولونيا بمنع القوزاق، من الغارة على مولدافيا كما تعهد الباب العالي بمنع التتار من الغارة على بولونيا وفي سنة 1612 انعقدت معاهدة تجارية بين هولاندا والباب العالي.

ناپیژندل شوی مخ