واصطلحوا على شريعةٍ من الجدل، للتعاون على إظهار صواب القول والعمل، ضبطوا بها قوانين الاستدلال، لتسلم عن الانتشار والانحلال. فطرائقهم وإن كانت بالنسبة إلى طرائق الأولين غير وافية بمقصود الدين، لكنها غير خارجةٍ عنها بالكلية، ولا مشتملةٍ على ما لا يؤثر في القضية. وربما كسوها من جودة العبادة، وتقريب الإشارة، وحسن الصياغة، وصنوف البلاغة ما يُحلِّيها عند الناظرين، ويُنَفّقها عند المتناظرين، مع ما اشتملت عليه من الأدلة السمعية والمعاني الشرعية، والتحاكم فيها إلى حاكم الشرع الذي لا يُعزَل، وشاهد العقل المزكَّى المعدَّل.
وبالجملة؛ لا تكاد تشتمل على باطل محض ونُكْرٍ صرف، بل لابدَّ فيها من مخيل للحق، ومشتمل على عرف» (^١).
وهذه المرحلة أو الطريقة نَسَبها ابنُ خلدون (ت ٨٠٨) إلى البزدوي (^٢)، قال: «وهي خاصة بالأدلة الشرعية من النص والإجماع والاستدلال» (^٣).
ولعل هذه النسبة تعود إلى أنه أول من ألَّف فيها، أو أول من اشتهر بها، لكنَّا نجد علماء آخرين يخالفون هذا الرأي؛ فيذكر النووي (ت ٦٧٦) في «تهذيب الأسماء واللغات» (^٤) أن أول من ألَّف فيها أبو علي الطبري
_________
(^١) «العقود» (ص ٤٨ - ٤٩)، و«تنبيه الرجل العاقل» (ص ٥ - ٦).
(^٢) هو: علي بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم، فخر الإسلام أبو الحسن الفقيه الحنفي، صاحب المختصر المشهور في الأصول (ت ٤٨٢)، ترجمته في «تاج التراجم» (ص ٢٠٥)، و«الفوائد البهية» (ص ١٢٤ - ١٢٥).
(^٣) «المقدمة» (ص ٥٠٦).
(^٤) (٣/ ٤٨).
المقدمة / 38