تمهید لتاریخ فلسفه اسلامی
تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية
ژانرونه
التصديق به الذي يسبق إليه القلب عند سماع الشيء مع قرائن أحوال لا تفيد القطع عند المحقق، ولكن يلقي في قلب العوام اعتقادا جازما، كما إذا سمع بالتواتر مرض رئيس البلد ثم ارتفع صراخ وعويل من داره، ثم يسمع من أحد غلمانه أنه قد مات، اعتقد العامي جزما أنه مات، وبنى عليه تدبيره ولا يخطر بباله أن الغلام ربما قال ذلك عن إجاف سمعه، وأن الصراخ والعويل لعله عن غشية أو شدة مرض أو سبب آخر، لكن هذه خواطر بعيدة لا تخطر للعوام؛ فتنطبع في قلوبهم الاعتقادات الجازمة.
وكم من أعرابي نظر إلى أسارير وجه رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وإلى حسن كلامه ولطف شمائله وأخلاقه، فآمن به وصدقه، جزما لم يخالجه ريب من غير أن يطالبه بمعجزة يقيمها أو يذكر وجه دلالتها.
الرتبة السادسة:
أن يسمع القول فيناسب طبعه وأخلاقه فيبادر إلى التصديق لمجرد موافقته لطبعه لا من حسن اعتقاد في قائله، ولا من قرينة تشهد له، لكن لمناسبة ما في طباعه.
فالحريص على موت عدوه وقتله وعزله يصدق جميع ذلك بأدنى إجاف، ويستمر على اعتقاده جازما، ولو أخبر بذلك في حق صديقه أو بشيء يخالف شهوته وهواه، توقف فيه أو أباه كل الإباء، وهذه أضعف التصديقات وأدنى الدرجات؛ لأن ما قبله استند إلى دليل ما، وإن كان ضعيفا، من قرينة أو حسن اعتقاد في المخبر أو نوع من ذلك، وهي أمارات يظنها العامي أدلة فتعمل في حقه عمل الأدلة.
فإذا عرفت مراتب التصديق؛ فاعلم أن مستند إيمان العوام هذه الأسباب، وأعلى الدرجات في حقه أدلة القرآن وما يجري مجراه مما يحرك القلب إلى التصديق، ولا ينبغي أن يجاوز بالعامي إلى ما وراء أدلة القرآن، وما في معناه من الجليات المسكنة للقلوب، المستجرة لها إلى الطمأنينة والتصديق، وما وراء ذلك ليس على قدر طاقته.
وأكثر الناس آمنوا في الصبا، وكان سبب تصديقهم مجرد التقليد للآباء والمعلمين، لحسن ظنهم بهم وكثرة ثنائهم على أنفسهم، وثناء غيرهم عليهم، وتشديدهم النكير بين أيديهم على مخالفيهم، وحكايات أنواع النكال النازل بمن لا يعتقد اعتقادهم، وقولهم إن فلانا اليهودي في قبره مسخ كلبا وفلانا الرافضي انقلب خنزيرا، وحكايات منامات وأحوال من هذا الجنس تغرس في نفوس الصبيان النفرة عنه والميل إلى ضده؛ حتى ينزع الشك بالكلية عن قلبه.
فالتعلم في الصغر كالنقش في الحجر، ثم يقع نشؤه عليه ولا يزال يؤكد ذلك في نفسه، فإذا بلغ استمر على اعتقاده الجازم وتصديقه المحكم الذي لا يخالجه فيه ريب؛ ولذلك ترى أولاد النصارى والروافض والمجوس والمسلمين كلهم لا يبلغون إلا على عقائد آبائهم، واعتقاداتهم في الباطل والحق جازمة لو قطعوا إربا إربا لما رجعوا عنها، وهم قط لم يسمعوا عليه دليلا لا حقيقيا ولا رسميا، وكذا ترى العبيد والإماء يسبون من المشرك ولا يعرفون الإسلام، فإذا وقعوا في أسر المسلمين وصحبوهم مدة ورأوا ميلهم إلى الإسلام، مالوا معهم واعتقدوا اعتقادهم، وتخلقوا بأخلاقهم، كل ذلك لمجرد التقليد والتشبه بالمتبوعين، والطبائع مجبولة على التشبيه، لا سيما طباع الصبيان وأهل الشباب؛ فبهذا يعرف أن التصديق الجازم غير موقوف على البحث وتحرير الأدلة.
فصل: لعلك تقول: لا أنكر حصول التصديق الجازم في قلوب العوام بهذه الأسباب، ولكن ليس ذلك من المعرفة في شيء، وقد كلف الناس المعرفة الحقيقية دون اعتقاد هو من جنس الجهل الذي لا يتميز فيه الباطل عن الحق، فالجواب أن هذا غلط ممن ذهب إليه، بل سعادة الخلق في أن يعتقدوا الشيء على ما هو عليه اعتقادا جازما؛ لتنتفش قلوبهم بالصورة الموافقة لحقيقة الحق، حتى إذا ماتوا وانكشف لهم الغطاء فشاهدوا الأمور على ما اعتقدوها لم يفتضحوا، ولم يحترقوا بنار الخزي والخجلة ولا بنار جهنم ثانيا.
ناپیژندل شوی مخ