فنقول: إنه يجب أن تكون صناعة المديح مستوفية لغايات فعلها، أعنى أن تبلغ من التشبيه والمحاكاة الغاية التى فى طباعها أن تبلغه. وذلك يكون بأشياء: أحدها أن يكون للقصيدة عظم ما محدود تكون به كلا وكاملة. والكل والكامل هو ما كان له مبدأ ووسط وآخر. والمبدأ «قبل»، وليس يجب أن يكون «مع» الأشياء التى هو لها مبدأ. والآخر هو «مع» الأشياء التى هو لها آخر وليس هو «قبل». والوسط هو «قبل» و«مع» ، فهو أفضل من الطرفين إذ كان الوسط فى المكان قبل وبعد، فان الشجعان هم الذين مكانهم فى الحرب ما بين مكان الجبناء ومكان المتهورين، وهو المكان الوسط. وكذلك الحد الفاصل فى التركيب هو الوسط، وهو الذى يتركب من الأطراف ولا تتركب الأطراف منه. وليس يجب أن يكون المتوسط وسطا، أى خيارا فى التركيب والترتيب فقط بل وفى المقدار. وإذا كان ذلك كذلك، فقد يجب أن يكون للقصيدة أول ووسط وآخر، وأن يكون كل واحد من هذه الأجزاء وسطا فى المقدار، وكذلك يجب فى الجملة المركبة منها أن تكون بقدر محدود، لا أن تكون بأى عظم اتفق. وذلك أن الجودة فى المركب تكون من قبل شيئين: أحدهما الترتيب، والثانى المقدار؛ ولهذا لا يقال فى الحيوان الصغير الجثة يالإضافة إلى أشخاص نوعه إنه جيد. والحال فى المخاطبة الشعرية فى ذلك كالحال فى التعليم البرهانى، أعنى أن التعليم إن كان قصير المدة لم يكن الفهم جيدا، ولا إن كان أطول مما ينبغى لأنه يلحق المتعلم فى ذلك النسيان. والحال فى ذلك كالحال فى النظر إلى المحسوس، أعنى أن النظر إلى المحسوس إنما يكون جيدا إذا كان بين الناظر وبينه بعد متوسط، لا إذا كان بعيدا منه جدا ولا إذا كان قريبا منه جدا، والذى يعرض فى التعليم بعينه يعرض فى الأقاويل الشعرية، أعنى أنه إن كانت للقصيدة قصيرة لم تستوف أجزاء المديح؛ وإن كانت طويلة لم يمكن أن تحفظ فى ذكر السامعين أجزاؤها، فيعرض لهم إذا سمعوا الأجزاء الأخيرة أن يكونوا قد نسوا الأولى. وأما الأقاويل الخطبية التى تستعمل فى المناظرة فليس لها قدر محدود بالطبع، ولذلك احتاج الناس أن يقدروا زمان المناظرة بين الخصوم إما بآلة الماء على ما جرت به العادة عند اليونانيين إذ كانوا إنما يعتمدون الضمائر فقط، وإما بتأجيل الأيام كالحال عندنا، إذ كان المعتمد فى الخصومات عندنا إنما هى الأشياء المقنعة التى من خارج. ولذلك لو كانت صناعة المديح بالمناظرة لكان يحتاج فيها إلى تقدير زمان المناظرة بساعات المساء أو غيرها. لكن لما لم يكن الأمر كذلك، وجب أن يكون لصناعة الشعر حد طبيعى كالحال فى الأقدار الطبيعية للأمور الموجودة. وذلك أنه كما أن جميع المتكونات إذا لم يعقها فى حال الكون سوء البخت صارت إلى عظم محدود بالطبع. كذلك يجب أن تكون الحال فى الأقاويل الشعرية، وبخاصة فى صنفى المحاكاة، أعنى التى ينتقل فيها من الضد إلى الضد، أو يحاكى فيها الشىء نفسه من غير أن ينتقل إلى ضده.
قال: ومما يحسن به قوام الشعر ألا يطول فيه بذكر الأشياء الكثيرة التى تعرض للشىء الواحد المقصود بالشعر. فان الشىء الواحد تعرض له أشياء كثيرة. وكذلك يوجد للشىء الواحد المشار إليه أفعال كثيرة.
قال: ويشبه أن يكون جميع الشعراء لا يتحفظون بهذا، بل ينتقلون من شىء إلى شىء ولا يلزمون غرضا واحدا بعينه، ما عدا أوميرش.
وأنت تجد هذا كثيرا ما يعرض فى أشعار العرب والمحدثين وبخاصة عند المدح، أعنى أنه إذا عن لهم شىء مامن أسباب الممدوح — مثل سيف أوقوس — اشتغلوا بمحاكاته وأضربوا عن ذكر الممدوح.
وبالجملة، فيجب أن تكون الصناعة تشبه بالطبيعة، أعنى أن تكون إنما تفعل جميع ما تفعله من أجل غرض واحد وغاية واحدة. وإذا كان ذلك كذلك، فواجب أن يكون التشبيه والمحاكاة لواحد ومقصودا به غرض واحد، وأن يكون لأجزائه عظم محدود وأن يكون فيها مبدأ ووسط وآخر، وأن يكون الوسط أفضلها. فان الموجودات التى وجودها فى الترتيب وحسن النظام، إذا عدمت ترتيبها لم يوجد لها الفعل الخاص بها.
مخ ۲۱۳