وإني لأدرك تمام الإدراك - وهل يمكن أن يكون الأمر غير ذلك؟ - أن النيل منبع حياتنا، وأن مصر ما هي إلا الأراضي الواقعة على ضفتي النهر، وأن ليس لها من حدود إلا المدى الذي تصل إليه مياه النهر.
ومع ذلك فإن المصريين هم الذين خلقوا مصر، تأمل النيل مجتازا آلاف الأميال من خط الاستواء إلى البحر الأبيض، هل تجد على طول مجراه إلا مصرا واحدة؟ إن هبات النيل - كهبات الطبيعة سواء بسواء - طائشة عمياء، إذا ما تركت دون ضبط؛ فإنها تدمر كل شيء، وتخلف مستنقعات الملاريا الوبيلة.
والإنسان وحده هو الذي يستطيع أن يجعل من هذه الهبة نعمة لا نقمة، وقد كان ذلك ما عمله الإنسان في مصر؛ فمصر هبة المصريين.
كيف حدث ذلك؟ إن الأستاذ «أرنولد توينبي» يتحدث عن هذا في معرض كلامه بما سماه «التحدي والاستجابة»، وهذا موجز كلامه: إن هؤلاء المصريين الأوائل - شأنهم في ذلك شأن بعض الشعوب الأخرى - واجهوا بعد نهاية عصر الجليد التحول الطبيعي العميق في مناخ جزء من أفريقية وآسيا نحو الجفاف.
هذا هو التحدي، فماذا كانت الاستجابة؟ من الأقوام الذين واجهوا التحول من لم ينتقل من مكانه، ولم يغير من طرائق معيشته؛ فلقى جزاء إخفاقه في مواجهة تحدي الجفاف؛ الإبادة والزوال، ومنهم من تجنب ترك الموطن، ولكنه استبدل طريقة معيشته بأخرى، وتحولوا من صيادين إلى رعاة رحل، عرفتهم المراعي الأفراسية. ومن هؤلاء من رحل نحو الشمال، وكان لزاما عليهم أن يواجهوا تحدي برد الشمال الموسمي. ومن الأقوام من انتقل صوب الجنوب نحو المنطقة الاستوائية المطيرة، وهنالك أوهن قواهم جو تلك المنطقة المطير الجاري على وتيرة واحدة . وأخيرا منهم أقوام استجابوا لتحدي الجفاف بتغيير موطنهم، وتغيير طرائق معيشتهم معا.
وكان هذا الفعل المزدوج، الذي قل أن نجد له مثيلا، هو العمل الإرادي الذي خلق مصر كما عرفها التاريخ.
هبط أولئك الرواد الأبطال، بدافع الجرأة أو اليأس، إلى مستنقعات قاع الوادي، وأخضعوا طيش الطبيعة لإرادتهم، وحولوا المستنقعات إلى حقول تجري فيها القنوات والجسور، وهكذا استخلصت أرض مصر من الأجمة التي خلقتها الطبيعة، وبدأ المجتمع المصري قصة مغامراته الخالدة؛ لتستقيم له أمور دنياه وأمور أخراه.
ويظن العلماء أن المستنقعات التي تحكم فيها المصريون الأوائل هذا التحكم الحاسم كانت لا تختلف كثيرا عما هو قائم الآن في منطقة السدود في السودان، بل إن العلماء يظنون أن أسلاف القوم الذين يعيشون الآن في تلك المنطقة كانوا يقطنون - فيما مضى - ما يعرف الآن بصحراء ليبيا، جنبا إلى جنب مع مبدعي الحضارة المصرية، عندما استجاب هؤلاء لداعي الجفاف، واختاروا لأنفسهم أن يتخذوا خطة بالغة نهاية الخطورة. والظاهر أن المصريين - حين فعلوا ذلك - آثر جيران لهم اليسرى، وولوا وجوههم نحو الجنوب، نحو بيئة طبيعية تتفق والبيئة التي ألفوها، والتي أصابها من التحول ما ألزمهم إما بمغادرتها وإما بتغيير أساليب حياتهم، وقد اختاروا مغادرة الموطن إلى موطن جديد، يستطيعون فيه ممارسة شئون معاشهم على الوجه الذي ألفوه، وتم لهم هذا في المنطقة الحارة من السودان في دائرة الأمطار الاستوائية، ولا يزال أحفادهم من الدنكة والشلوك وغيرهم يعيشون فيها حتى يومنا هذا، كما كان يعيش آباؤهم الأولون.
وقد أوضح الأستاذ «تشيلد» ما بين هؤلاء القوم المعاصرين وقدماء المصريين من شبه في القوام والسمت، ونسب أجزاء الرأس، واللغة، والملبس، ويضيف إلى ذلك قوله: ويبدو أن النمو الاجتماعي عند القبائل التي تقطن أعالي النيل وقف عند موضع تمكن المصريون من اجتيازه قبل بدء العصور التاريخية، ولدينا الآن في أعالي النيل «متحف حي» يكمل أناسه آثار ما قبل التاريخ في مجموعاتنا الأثرية فيحييها.
ولكن لا يزال علينا أن نسأل: لم اختلف مسلك المصريين الأوائل عن مسلك إخوانهم أسلاف الدنكة والشلوك؟ وفي هذا المقام يتحدث الأستاذ «توينبي» عن نصيب «القلة الخالقة» في نشأة المدنية، ويبدو أننا لا بد أن ننتهي إلى أن نعزو ما حدث إلى اقتران ظرفين؛ أحدهما: كون البيئة التي تحدت الإنسان لم تكن هينة لينة، كما لم تكن قاسية مثبطة، بل كانت بين بين، والآخر: اتفاق وجود الرجل، أو الرجال الموهوبين الذين يقودون شعبهم في الساعة الملائمة إلى مغامرة كبرى من مغامرات الخلق والتكوين.
ناپیژندل شوی مخ