مصر هبة المصريين
الاستمرار والتغيير في تاريخ مصر
الحكومة والمجتمع في مصر
الإنسان والمجتمع في مصر
المدينة والريف في تاريخ مصر
مصر والعهد القديم
مصر والهيلينية
مصر والمسيحية
مصر والإسلام
مصر والغرب
مصر هبة المصريين
الاستمرار والتغيير في تاريخ مصر
الحكومة والمجتمع في مصر
الإنسان والمجتمع في مصر
المدينة والريف في تاريخ مصر
مصر والعهد القديم
مصر والهيلينية
مصر والمسيحية
مصر والإسلام
مصر والغرب
تكوين مصر
تكوين مصر
تأليف
محمد شفيق غربال
ترجمة
محمد شفيق غربال
محمد رفعت
مصر هبة المصريين
هذا الحديث بداية سلسلة من الأحاديث ترمي إلى عرض متصل لتاريخ مصر خلال العصور الماضية، وموضوعها تكوين مصر، وسوف نسلك إلى ذلك طريقين:
وسنحاول - أول الأمر - أن نعالج نواحي مختارة، وموضوعات منتخبة، مثال ذلك: التفاعل في تاريخ مصر بين مبدأي الاستمرار والتغير، وعوامل التماسك الاجتماعي، ومكان الفرد في المجتمع، وأوجه التباين بين المدينة والريف.
ثم نعود فنعالج الموضوع بطريقة أخرى؛ أي من ناحية دراسة اتصالات مصر بالمجتمعات الأخرى الكبيرة، وكيف أثرت مصر في عالم العهد القديم، وفي الحضارة الهيلينية والمسيحية، ثم الإسلام فالعالم الغربي، وكيف تأثرت بكل هؤلاء.
وقد اتخذت عنوانا لحديثي الأول: «مصر هبة المصريين»، وليس مرد ذلك إلى معارضة القول المشهور لأبي التاريخ - هيرودوت - حبا في المعارضة؛ ولكن لتوكيد الناحية، أو الزاوية التي سوف نعالج منها الموضوع؛ ذلك أنني أريد أن أؤكد عمليات الخلق والنمو، والمحافظة التي نوجزها في العنوان: «تكوين مصر». كما أريد أن أؤكد أن هذا «التكوين» كان من صنع جماعة من الناس - المصريين - ومن ثم كان العنوان: «مصر هبة المصريين». وأخيرا أريد أن أؤكد ما في هذا النتاج، نتاج هذا الخلق - مصر - من صفات الشخصية والرسوخ والانفراد بالذات، هذا النتاج الذي أثر بدوره في تكوين المصريين، ولن تكون مصر التي نعني بها مصر في عصر معين، بل خلال العصور كلها، وهذا على الرغم من أنني أعرف أنه ليس في مقدور الرجل منا أن يحيط بالأدوات والدراسات كافة، اللازمة لكل قسم من أقسام تاريخ مصر المعروفة: ألا وهي العصر الفرعوني، ثم اليوناني والروماني فالإسلامي، ثم العصر الحديث، دع عنك الإحاطة بها جميعا، بيد أن الإخصائي، والقارئ غير الإخصائي، كلاهما يجد متعة ذهنية ومغنما في آن واحد لو حاد بين الفينة والفينة عن طريق التخصص؛ الطريق الضيق، واضعا نصب عينيه أن هناك «مصر» دائما، وأنها تسمو فوق هامات الحقب والعصور.
ولكن هل هناك حقا شيء كهذا؟ هل هناك ما يبرر استخدامنا مدلولات: «مصر» و«الصين» وما إليها؟ وهل استخدام تلك المدلولات لكي تمثل شيئا ماديا أمر مشروع؟ أو أن ذلك لا يعدو أن يكون مجرد تسمية، أو يكون من نسج الخيال، أو الوهم؟
ليس هنالك شيء من ذلك، إن مصر أرض شكلتها الطبيعة، وشكلها الإنسان شيئا له ذاتيته وأهميته، وهي وطن مجتمع من بني الإنسان تربط بعضهم ببعض روابط مادية وأدبية، إنها وطن مجتمع مغاير لمجتمعات بشرية أخرى.
ولنتناول الآن «المصريين» الذين قلت: إن مصر كانت هبتهم.
لن ألقي بالا للمسائل المتعلقة بأصلهم أو جنسهم؛ ذلك لأني أعني بالمصري كل رجل يصف نفسه بهذا الوصف، ولا يحس بشيء ما يربطه بشعب آخر، ولا يعرف وطنا له غير هذا الوطن، مهما كان أسلافه غرباء عن مصر في واقع الأمر.
ومما هو جدير بالذكر أنه مهما تعددت الأصول فقد كان هناك طابع «مصري» تشكل في هذه البيئة المصرية، ولست أعني بالطابع السمات الجسمانية، بل أعني موقفا معينا من الحياة.
فلا يعنيني إذن أن أبحث في بقعة ما من بقاع مصر عمن يسمونهم ذراري قدماء المصريين، وبعض من يعنيهم هذا البحث يظنون أنهم يعثرون عليهم في ريف مصر، على افتراض أن الريف كان أقل نواحي المجتمع المصري تأثرا بالتغير والتبدل، أو لأن الريف كان الأرض المنعزلة التي يلجأ إليها القوم ابتغاء النجاة من الغزاة الأجانب. ولكن الحقيقة هي أن الريف كان على عكس ذلك تماما، فهو البقعة التي استوطن فيها مرتزقة المحاربين من الإغريق، وكذلك رجال القبائل من العرب، وبدو الصحراء، وأن الريف - كما سأشير إليه فيما بعد - كان على الدوام المفترس للبشرية المصرية، المفترس النهم الذي لا يشبع.
وآخرون - ممن يعنيهم هذا البحث - يظنون أنهم يجدون بغيتهم في طائفة «أقباط» مصر، واحتمال وجودهم في هؤلاء، مثل احتمال وجودهم في غيرهم.
وليكن المصريون الأوائل من يكونون، وليكن تأثر سلالتهم بمن وفد على بلادهم، واختلط بهم كثيرا أو قليلا؛ فالذي يعنينا الآن أن نبين أن «مصر هبة المصريين».
وإني لأدرك تمام الإدراك - وهل يمكن أن يكون الأمر غير ذلك؟ - أن النيل منبع حياتنا، وأن مصر ما هي إلا الأراضي الواقعة على ضفتي النهر، وأن ليس لها من حدود إلا المدى الذي تصل إليه مياه النهر.
ومع ذلك فإن المصريين هم الذين خلقوا مصر، تأمل النيل مجتازا آلاف الأميال من خط الاستواء إلى البحر الأبيض، هل تجد على طول مجراه إلا مصرا واحدة؟ إن هبات النيل - كهبات الطبيعة سواء بسواء - طائشة عمياء، إذا ما تركت دون ضبط؛ فإنها تدمر كل شيء، وتخلف مستنقعات الملاريا الوبيلة.
والإنسان وحده هو الذي يستطيع أن يجعل من هذه الهبة نعمة لا نقمة، وقد كان ذلك ما عمله الإنسان في مصر؛ فمصر هبة المصريين.
كيف حدث ذلك؟ إن الأستاذ «أرنولد توينبي» يتحدث عن هذا في معرض كلامه بما سماه «التحدي والاستجابة»، وهذا موجز كلامه: إن هؤلاء المصريين الأوائل - شأنهم في ذلك شأن بعض الشعوب الأخرى - واجهوا بعد نهاية عصر الجليد التحول الطبيعي العميق في مناخ جزء من أفريقية وآسيا نحو الجفاف.
هذا هو التحدي، فماذا كانت الاستجابة؟ من الأقوام الذين واجهوا التحول من لم ينتقل من مكانه، ولم يغير من طرائق معيشته؛ فلقى جزاء إخفاقه في مواجهة تحدي الجفاف؛ الإبادة والزوال، ومنهم من تجنب ترك الموطن، ولكنه استبدل طريقة معيشته بأخرى، وتحولوا من صيادين إلى رعاة رحل، عرفتهم المراعي الأفراسية. ومن هؤلاء من رحل نحو الشمال، وكان لزاما عليهم أن يواجهوا تحدي برد الشمال الموسمي. ومن الأقوام من انتقل صوب الجنوب نحو المنطقة الاستوائية المطيرة، وهنالك أوهن قواهم جو تلك المنطقة المطير الجاري على وتيرة واحدة . وأخيرا منهم أقوام استجابوا لتحدي الجفاف بتغيير موطنهم، وتغيير طرائق معيشتهم معا.
وكان هذا الفعل المزدوج، الذي قل أن نجد له مثيلا، هو العمل الإرادي الذي خلق مصر كما عرفها التاريخ.
هبط أولئك الرواد الأبطال، بدافع الجرأة أو اليأس، إلى مستنقعات قاع الوادي، وأخضعوا طيش الطبيعة لإرادتهم، وحولوا المستنقعات إلى حقول تجري فيها القنوات والجسور، وهكذا استخلصت أرض مصر من الأجمة التي خلقتها الطبيعة، وبدأ المجتمع المصري قصة مغامراته الخالدة؛ لتستقيم له أمور دنياه وأمور أخراه.
ويظن العلماء أن المستنقعات التي تحكم فيها المصريون الأوائل هذا التحكم الحاسم كانت لا تختلف كثيرا عما هو قائم الآن في منطقة السدود في السودان، بل إن العلماء يظنون أن أسلاف القوم الذين يعيشون الآن في تلك المنطقة كانوا يقطنون - فيما مضى - ما يعرف الآن بصحراء ليبيا، جنبا إلى جنب مع مبدعي الحضارة المصرية، عندما استجاب هؤلاء لداعي الجفاف، واختاروا لأنفسهم أن يتخذوا خطة بالغة نهاية الخطورة. والظاهر أن المصريين - حين فعلوا ذلك - آثر جيران لهم اليسرى، وولوا وجوههم نحو الجنوب، نحو بيئة طبيعية تتفق والبيئة التي ألفوها، والتي أصابها من التحول ما ألزمهم إما بمغادرتها وإما بتغيير أساليب حياتهم، وقد اختاروا مغادرة الموطن إلى موطن جديد، يستطيعون فيه ممارسة شئون معاشهم على الوجه الذي ألفوه، وتم لهم هذا في المنطقة الحارة من السودان في دائرة الأمطار الاستوائية، ولا يزال أحفادهم من الدنكة والشلوك وغيرهم يعيشون فيها حتى يومنا هذا، كما كان يعيش آباؤهم الأولون.
وقد أوضح الأستاذ «تشيلد» ما بين هؤلاء القوم المعاصرين وقدماء المصريين من شبه في القوام والسمت، ونسب أجزاء الرأس، واللغة، والملبس، ويضيف إلى ذلك قوله: ويبدو أن النمو الاجتماعي عند القبائل التي تقطن أعالي النيل وقف عند موضع تمكن المصريون من اجتيازه قبل بدء العصور التاريخية، ولدينا الآن في أعالي النيل «متحف حي» يكمل أناسه آثار ما قبل التاريخ في مجموعاتنا الأثرية فيحييها.
ولكن لا يزال علينا أن نسأل: لم اختلف مسلك المصريين الأوائل عن مسلك إخوانهم أسلاف الدنكة والشلوك؟ وفي هذا المقام يتحدث الأستاذ «توينبي» عن نصيب «القلة الخالقة» في نشأة المدنية، ويبدو أننا لا بد أن ننتهي إلى أن نعزو ما حدث إلى اقتران ظرفين؛ أحدهما: كون البيئة التي تحدت الإنسان لم تكن هينة لينة، كما لم تكن قاسية مثبطة، بل كانت بين بين، والآخر: اتفاق وجود الرجل، أو الرجال الموهوبين الذين يقودون شعبهم في الساعة الملائمة إلى مغامرة كبرى من مغامرات الخلق والتكوين.
وليكن التفسير ما يكون، فإن مصر؛ مصر التي تشكلت على هذا النحو المفاجئ المثير، قد سيطرت هي أيضا على مصائر أبنائها، واقتضتهم ثمن بقائها على الشكل الذي صنعوه.
هذا هو موضوعنا.
الاستمرار والتغيير في تاريخ مصر
«إن التفاعل الحادث بين المبدأين المتقابلين - مبدأ الاستمرار ومبدأ التغيير - يكون مادة التاريخ، فما يبدو في التاريخ مستمرا لا يخلو أبدا من تغيير خفي دقيق، وما من انقلاب - مهما كان فجائيا، ومهما كان عنيفا - استطاع أن يقطع تماما صلة الاستمرار بين الماضي والحاضر.» هذه فقرة مقتبسة من بحث للأستاذ «كار» في تقدير صلة الثورة الروسية بالتاريخ الروسي.
وإنا لنجد تأييدا لما ذهب إليه الأستاذ «كار» في بحثه هذا إذا ما ألقينا نظرة فاحصة سريعة على تفاعل هذين المبدأين في تاريخ مصر.
والتغيرات التي سنعرض لها في حديثنا الحالي كانت - في أغلب الأمر - اجتماعية وثقافية، وبما أننا سندرسها في مجتمع معين - هو مصر - فلسنا في حاجة إلى أن ندخل في نطاق البحث ما تصوره بعض فلاسفة العصور القديمة والوسطى والحديثة من أطوار كبرى مرت فيها البشرية، من قبيل تصوير «هسيود» لعصور الذهب والفضة والحديد، أو ذاك النسق الذي رسمه «أوجست كونت» لتقدم الجنس البشري من طور إلى آخر، أو أكوار الكون والفساد المشهورة التي تخيلها المفكرون اليونان، تلك التصورات والتخيلات لها قيمتها من حيث كونها وسائل لترتيب الحقائق والظواهر في شكل منظم، ولكنها لا تعين كثيرا على إيضاح المشكلات المتعلقة بمجتمع معين.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى لن أتخذ من الاستمرار والتحول مرادفا لارتقاء المدنية أو السلطان وتدهورهما، أو كما عبر «شبنجلر» بقوله: «مولد المدنية ثم نموها، فنضوجها، وأخيرا انحلالها فزوالها». وقد سما الأستاذ «توينبي» بدراسته التغير ومظاهره إلى أرفع مراتب المجاهدة الروحية، ولكنه لا يقبل أن يكون ما سماه «دول العصبيات المحلية» مجالات صالحة لعمل المؤرخ، ولكن هل نستطيع حقا أن نغفلها على هذا النحو السهل؟ وبعد، هل يوجد ماض يعتد به شعب من الشعوب سوى ماضيه، ماضي وطنه، ماضي عصبيته المحلية مهما كان شأنه ضئيلا بالنسبة إلى ماضي الإنسانية، ومهما كان أفقه محدودا ضيقا؟
أما عن منهجي فلا أرى بأسا في ألا أستخدم مفتاحا واحدا ألج به عالم التغير في التاريخ، وإليك بعض ما قالوه في هذا:
من ذلك ما لاحظ الأستاذ «سبروت» حديثا عن اتجاه بعض المفكرين إلى اعتبار التقدم الإنساني ظواهر حتمية لعملية باطنة؛ عملية تتخذ طريقها، وتسير فيه مستقلة عما يريده الناس، ولو أنها تتأثر به. هذا بينما يربط الأستاذ «باريتو» ما بين التغير الاجتماعي والتغير في نوع الصفوة التي تقود الجماعة. أما النظرية الماركسية فتبرز التغير في أساليب الإنتاج وطرائقه، والصراع بين الطبقات، وما إلى ذلك.
ومن الخير أن نعرف ما ذهب إليه أولئك الاجتماعيون وغيرهم، على أن ننهج منهجا آخر لفهم التفاعل بين الاستمرار والتغير في تاريخ مصر، نهجا يصح أن أسميه «ملازمة الوقائع» وهو يقوم على السعي إلى عزل أو فصل النواة الأساسية للثقافة المصرية، ثم ملاحظة تأثر تلك النواة بما طرأ من مؤثرات في الحياة المصرية، ترتبت على وصل مصر طوعا وكرها بالمدنيات والجماعات المتعاقبة غير المصرية، ودرجة هذا التأثر هي مقياس التفاعل بين الاستمرار والتغير.
ومن فوائد منهجي هذا أنه يتيح لنا استقامة النظر في أمر الثقافة المصرية، فقد كان القوم ينزعون إلى النظر إليها، كما لو كانت شيئا انبعث كامل النمو انبعاث «مينرفا» من «رأس زفس»؛ ولهذا النظر ما يبرره، فإن الإغريق عندما اتصلوا أول الأمر بتلك الثقافة كانت قد شاخت، واشتعل رأسها شيبا، وفاض حكمة. فكيف يمكنهم أن يتصوروها أيام شبابها؟ وبدت تلك الثقافة لبني إسرائيل واثقة بنفسها أكمل وثوق، لا يتطرق إلى نظرتها لنفسها شيء من التشكك أو الحيرة، ولما جاء علماء الآثار أو الحفارون - بمعنى أدق - إلى مصر، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، كان همهم العثور على الآثار المكتملة الصنع - آثار الخلق الفني - وقد عثروا عليها بالفعل، وأكد لهم ما عثروا عليه الصورة التي خلقتها كتابات الإغريق وبني إسرائيل.
طاف «ماربيت» بالمسيو «رينان» في مناطق اكتشافاته في «سقارة» و«طيبة»، وعبر لنا «المسيو رينان» عما تركته في نفسه آثار الحضارة المصرية بقوله: «إن مصر هي صين أخرى ولدت مكتملة النمو، وكأنما ولدت شيخا هرما، وإنها كانت تتسم بسمات من الشيخوخة والطفولة معا، انعكستا على صفحة تاريخها، وفي آثارها.»
ويضيف إلى ذلك قوله: «إنه لمن الطبيعي، ومن الملائم أيضا، ألا يبقى الإنسان شابا طول عمره، ولكن ليس من الطبيعي ولا من الملائم ألا يمر الإنسان بمرحلة الشباب.»
وبعد، فماذا تدل عليه آثار مصر؟ تدل على أن لا ابتكار ولا شعراء، ولا مؤرخين، ولا ثورات، ولا «سقراط» يتلقى عنه «إكسينوفون»، ويتخذه «أفلاطون» مثلا أعلى، ويسخر منه «أرستوفان». •••
أبديت تلك الملاحظات عندما كانت مصر تعد نفسها للارتباط بعجلة الأداة الأوروبية، وهي - كما نعرف - عجلة سريعة الدوران، وربما كان للتباين الشديد بين سكون الشرق وحركة الغرب ما يزيد الشرق سكونا، والغرب حركة في عين الناظر.
وهكذا يبدو الفلاح المصري في القرن التاسع عشر، وكأنما يعيش كما كان يعيش أجداده في عصر الأهرام، وتبدو كذلك أسس الرخاء، والحكومة الصالحة واحدة في الماضي، وفي الحاضر، وترددت على الأفواه عبارات التوراة، فالوزير الماهر هو «يوسف» آخر، والإمعان في الاستئثار بما في أيدي المصريين لم يفتر منذ أيام «فرعون».
ثم بدأ طور جديد من أطوار البحث العلمي يظهر إلى الوجود عالما تختلف حقائقه كل الاختلاف عما كان مألوفا معروفا، فأظهر لنا الكشف عن عصر ما قبل التاريخ، وعصر ما قبل الأسرة المالكة؛ نشأة الحضارة المصرية وشبابها، كما كشفت لنا النقوش الدينية عن شقاق كامن في جسم المجتمع، وفي نفس الفرد، وكان هذا عندما نظروا في تلك الكتابات بروح العطف، وبصيرة الإنصاف. وإنا لنعرف الآن كيف طرأت على المجتمع الذي بناه قادة عصر الأهرام عوامل من الضغط، وأن هذه العوامل فعلت ما فعلت مصحوبة بمشاهد من العنف، وكيف قام قادة آخرون ببناء صرح المجتمع المتداعي على أسس جديدة، وبذا نصل إلى مجتمع الدولة المتوسطة، ثم أدى قدوم «الهكسوس» وطردهم - فيما بعد - إلى طور آخر من أطوار التاريخ، هو عصر الإمبراطورية.
وظاهر الأمر أن الإمبراطورية رأبت الصدع الملحوظ في بناء المجتمع، وحاولت أن تخلق جوا من الاطمئنان والثقة، ولكن هيهات؟ فلا يستطيع إنسان شاهد، مثلا، المناظر المنقوشة على جدران «قبر سيتي» أن يعتقد أن نفس الإنسان - في ذاك العصر - قد نعمت حقا بالهدوء والطمأنينة، ولو كان الجو حقا من الثقة واليقين بالدرجة التي أحبوا أن يتوهموها لما كانت ثورة «أخناتون» الدينية، وفيها ما فيها من معاني المجاهدة الروحية والتجديد في كل شيء.
وعندما نصل إلى الأسرات الملكية الأخيرة نبدأ فنلاحظ وجود نواة متحجرة داخل إطار التاريخ، ولعلنا نطلع على سر تحجرها إذا ميزنا بين عاملين أحدثاه:
أحدهما: نظام اجتماعي ثابت يقوم على ضبط النيل.
والآخر: إنسانية نمت في جو مصري خالص.
وفي هذه الأثناء كان العالم خارج النظام المصري يتبدل على أيدي شعوب أخرى. •••
فماذا يكون حال النواة المصرية بإزاء المؤثرات المادية والأدبية الجديدة؟
وقبل أن نحاول الإجابة على هذا السؤال يجب أن نلاحظ حقيقة طريفة، هي أن ما لدينا من معلومات عن حال مصر وموقف مصر إنما مصدرها جانب واحد، جانب أجنبي، فإن الإغريق واليهود، ومن إليهم من الغرباء، هم الذين رووا عن المصريين ما رووا، وهذا - في رأيي حقيقة - يجدر بنا أن نضعها موضع الاعتبار، وكانت الصورة التي رسموها صورة شعب متجهم عبوس عنيد محافظ، يكره كل ما هو غريب عنه.
ولكن أكان هؤلاء الإغريق وهؤلاء اليهود حقا أقل انطواء على أنفسهم؟
لقد نظر الأقدمون جميعا إلى كل شيء، بعين العصبية القومية، بل كان لكل قوم ربهم، الذي لا هم له إلا رعايتهم وتدليلهم، وماذا كان في استطاعة المصريين أن يفعلوه مع شعب الله المصطفى!
ترى كم من الناس مر في خاطره ذلك الحلم الذي داعب خيال «الإسكندر الأكبر» وحدا به إلى رؤيا عالم روحه الوئام، أو الإنسانية المنبثقة من أخوة بني الإنسان، وعلى كل حال فإن المصريين تعلقوا بالإسكندر، وضموه إلى أنفسهم، بيد أن خلفاء «الإسكندر» في مصر لم يثرهم شيء من ذلك الحلم الجميل، ولم يفعلوا شيئا لكي تتفاعل الروح المصرية بالروح الهيلينية، بل الأصح أنهم كرهوا هذا، وعملوا ضده.
فلا نعجب إذن إذا وجدنا عهد البطالمة عهد تهجين، وعهد استغلال نافذ شامل، وعهد كراهية، وحرب بين الأجناس، ونصل - على هذا النحو - إلى حقبة من التاريخ، لا تفيد الحكومة فيها إلا معنى واحدا هو كونها المالك الكبير ...
وخلف الرومان البطالمة، وساروا بمنهج سابقيهم إلى أبعد مدى يستطيعونه، فلا عجب أن صار المصريون أكثر تجهما، وأكثر عنادا وصلابة.
وجاءت المسيحية فخلصت الروح المصرية مما شابها من قتام وعبوس وصلابة، بيد أن اعتناق المصريين المسيحية، ثم الإسلام بعد ذلك، حدث في عالم مصري منشق على نفسه، ولقد تحرر الإنسان حقا بفضل المسيحية والإسلام التحرر الحقيقي من رق الخرافة والعبودية لغير الخالق، وتحرر الشعب من رق المقدونيين والرومان. ومع ذلك فإن الفرد المتحرر لم ينل الحرية التي تتيح له فرص اكتمال شخصيته، فقد بقي التمييز والتفرقة ما بين الحاكم والمحكوم قائما، وحال ذلك دون تمتع الفرد بنصيبه الكامل من الجزاء والمسئولية، ولكن التحرر الذي أتى بفضل الديانتين الجديدتين - المسيحية والإسلام - كان تحررا لا شك فيه ولا ريب. فلنتأمل مثلا مصر المسيحية تخلق فنا جديدا، وتقيم كنيسة قومية، وتصنع لنفسها أداة لغوية جديدة، ولنتأمل عمق حياتها الدينية وتنوعها، ولكنها - مع ذلك - شقيت بالنزاع مع «بيزنطة»، وقد كان هذا النزاع مبعث كثير من العداوة والجدب الفكري، والدمار الذي حل بالعصور البيزنطية المتأخرة.
وبدخول القوم في الإسلام اتسع الأفق المصري، وامتد إلى محيط دار الإسلام. وما ثقافة مصر - في عهد الإسلام - إلا الثقافة الإسلامية معدلة، لتلائم ظروف مصر، وهنا حدث فعلا تكافؤ بين الاستمرار وبين التغير، ولم نشهد رجحان كفة مبدأ التغير إلا عند استهلال القرن التاسع عشر، وبدء الاتصال بالغرب.
وبعد، فماذا نقول بعد أن لازمنا نواة الحضارة المصرية خلال عصور التطور والتبدل المتعاقبة، نقول: إننا نستطيع أن نقدر مدى تأثر عقل المصري وإرادته. ولكن، ما الحكم على رفيق العقل والإرادة المستقر في أعماق النفس؟
سؤال ليس له من مجيب.
الحكومة والمجتمع في مصر
قد عرف المجتمع بأنه: «نسيج من العلاقات الإنسانية المتداخلة أو المتفاعلة بعضها مع بعضها الآخر.» وعرفت الحكومة بأنها: «ممارسة السلطة من جانب صاحب السلطان، ووكلائه أو مندوبيه؛ لتنظيم تلك العلاقات أو التفاعلات في مجتمع ما.» وهناك ارتباط وثيق بين أوضاع الحكم وأغراضه في مجتمع معين، وبين ما يعتنقه أعضاؤه من آراء ومعتقدات عن أصل مجتمعهم، فإذا اعتقد قوم - مثلا - أن مجتمعهم هو من صنع الآلهة، عندئذ يكون للآلهة أو سلالة الآلهة السلطان الأعلى عليهم، ويكون زمام الحكم في أيديهم.
تلك كانت عقيدة قدماء المصريين عن أصل مجتمعهم، وهكذا كان السلطان والحكم في أيدي الملوك الآلهة، وسادت في مصر بعد اعتناق أهلها المسيحية مذاهب أخرى، وتغيرت - تبعا لذلك - مدلولات كلمتي المجتمع والحكومة.
ومنذ سنوات وضع الأستاذ «ديبوار بشار» - من أساتذة كلية الحقوق بالجامعة المصرية - بحثا ممتعا، مثيرا للتأمل، في موضوع: «تطور الحكم وأصوله في مصر، منذ أقدم عصورها»، ونشره له المعهد المصري، وقد فرق الأستاذ «ديبوار بشار» بين أطوار ثلاثة:
أولها:
ظهور حكومة الملوك الآلهة، سواء الفراعنة الأصليون، أو خلفاؤهم البطالمة المقدونيون والقياصرة الرومان.
وثانيها:
طور الحكومة، يسودها قانون مستمد من شريعة سماوية، مسيحية كانت أو إسلامية.
وينتهي هذا الطور في عصر الثورة الفرنسية.
أما الطور الثالث أو الحالي فهو:
طور الحكم على قواعد من وضع العقل البشري.
وهذا التمييز مفيد، وإن كان مما يحتمل الجدل أن مجتمعا ما أو حكما ما يخضع خضوعا خالصا للعقل وحده، ويكون كل تصرف فيه مما يمكن وصفه بأنه تصرف معقول، فلنتبع - بعد هذا التقديم - أطوار المجتمع والحكومة على وجه الإجمال، ولنحاول أن نحذو حذو «أرسطاطاليس» في منهجه التحليلي التسلسلي، ولعلكم تذكرون كيف بدأ بالمنزل، وانتقل منه إلى القرية، ثم المدينة.
والمدينة تتوج التسلسل، وفيها وحدها يتاح للإنسان آخر مجال لاكتمال طبيعته، فهي «طبيعية» بالنسبة إليه، وهو مدني بالطبع، وبينما المدينة وليدة مقتضيات الحياة، فإن بقاءها مما تقتضيه الحياة الطيبة. هذا، وإذا أوغلنا - في أقدم ما تمليه الحيطة من عصورنا التاريخية - وراء تحديد نقطة البدء في حياتنا المدنية؛ وجدناها في مواطن الجماعات المصرية الأولى التي أصبحت فيما بعد «كور» مصر في الاصطلاح اليوناني، ثم العربي المصري، أو مديرياتها - إلى حد ما - في اصطلاحنا نحن المعاصرين، ويجب علينا أن نتذكر دائما أن كل واحدة منها كانت موطن جماعة من الناس تربطهم بعضهم إلى بعض صلات نسب، ومصالح، وأنها بدأت واستمرت متميزة بعضها عن بعض، عقيدة وموقعا ومصالح، وأن مصر كانت ثمرة اتحادها، فغلبت عليها بعد الاتحاد صفة كونها أقساما إدارية في مملكة.
وليس من اليسير علينا أن نقدر الآن أثر تحدر جماعات الكور الأولين من سلالة بشرية واحدة في التقريب فيما بينها، والثابت: أنها تعرضت من حيث تكوينها الجنسي لمؤثرات مختلفة، فالمواطن التي تتاخم البادية - مثلا - أو التي تقع على خطوط المواصلات الكبرى أو قرب قلب أفريقية زاد اختلاط أهليها - بعناصر بدوية، أو أفريقية، أو أسيوية، أو غير ذلك - عن غيرها، وهكذا. وفضلا عن ذلك كان لأنواع البيئات المصرية أثره في إيجاد فروق كبيرة بين الجماعات، فالدلتا غير الصعيد، وما جاور البحيرات أو البحر أو الصحراء له أثره العميق، بالإضافة إلى اختلاف عناصر المناخ، ومزايا الموقع الجغرافي الحربية والتجارية، وما إلى ذلك.
ومهما كان الأصل أو المنشأ أو الظروف فإن نصيب «الكور» في تكوين المجتمع المصري أمر بالغ غاية الأهمية، بل إن اتحاد مصر لم يبطل تأثيرها العظيم، وآية ذلك التأثير أن انتقال الحكم من أسرة أو من مجموعة من الأسرات إلى مجموعة أخرى إن هو إلا توكيد متصل؛ لاحتفاظ نواحي المملكة بعصبية محلية قوية تستند إلى أساس من التقاليد والواقع، وأن هذه العصبية المحلية تعمل - إذا ما واتتها الظروف - على أن يمتد نشاطها إلى المملكة بأسرها.
وقد تم تكوين الوحدة المصرية، أو المجتمع المصري عن طريق الفتح، والمشهور أن الأمر استقر على تكوين مملكتين، وانتهى بإيجاد المملكتين أو الأرضين.
وكلمة «فتح» قد نسيء فهمها؛ فالغالب أن الفتح لم يعد أن يكون حمل جماعة من الجماعات، على أن تقبل ارتباطا ظهرت مزاياه لها ولغيرها، ولا شك في أنه بعد أن اتخذت الأقلية الخالقة «التي أشرت إليها في الحلقة الأولى تلك الخطوة الحاسمة؛ خطوة الاستجابة لتحدي الجفاف بمغادرة المرتفعات الآخذة في الجفاف والجدب، والاستقرار في مستنقعات الأحراش في أسفل الوادي، وتحويل تلك المستنقعات إلى النسق الذي نألفه، من حقول مزروعة تشقها مجاري الري والصرف، لم يكن أمامها مناص من وضع النهر كله تحت إشراف موحد مركز، ويصح جدا أن تكون القوة هي التي استخدمت لبلوغ هذا، ولكن القوة كانت - بالنسبة إلى عملية التوحيد والاتحاد - كلها أقل الوسائل المستخدمة أهمية.
وقد آمن المصريون بأن تكوين مصر على النحو الذي به تكونت، وتوحيدها على النحو الذي به توحدت، لأعظم من أن يكون أثرا من آثار عبقرية فرد أو طائفة، بل هما أجل قدرا من أن يتما إلا على أيدي الآلهة؛ فالآلهة هي التي عملت بالفعل، ولم تكتف - كما يصح أن نتصور - بإلهام البشر أو هدايتهم، وما الملوك البشريون إلا سلالتهم.
ومما ينبغي ألا نغفل عنه، أن وحدة مصر اتخذت مظهر التركيب أو المزاوجة، فالتاج تركيب من تاجين، ومن الآلهة تتركب تراكيب ثنائية أو ثلاثية أو تساعية، وما إلى ذلك، وهذا كله له دلالته، وله أيضا آفته؛ فإن ما تركب يجوز أن يتفرق ويتحلل، فكان لا بد من خلق أدوات تصون المجتمع، ومن أهمها إنشاء الخدمات العامة التي تدعو إلى العجب والإعجاب.
واختراع الكتابة، ومحاولة بلوغ الوحدانية على نحو يجمع - في مهارة وحذق، وفي سذاجة وطيبة أيضا - بين الولاء المحلي، والولاء القومي الدينيين.
وقد قارن «المسيو رينان» بأسلوب لا يخلو من الفكاهة، حكومة مصر الفرعونية بحكم تمارسه أكاديمية العلوم السياسية والخلقية، والأصح أن نقول: إنها كانت حكومة الفنيين، والفنيون يكونون إذن أول طوائف مجتمعنا المصري.
ولكن يجب أن نلاحظ أن هؤلاء الفنيين لم يقتصروا على ممارسة فنون المادة، بل مارسوا أيضا فنون الروح - إن صح التعبير - وهم جميعا كهنة؛ فلم يكن الكاهن رجل دين فقط بالمعنى الذي نعرفه، بل كان كل ذي شأن كاهنا من نوع ما: من الملك إلى من هو أدنى؛ ولذا فإن لي أن أقسم المجتمع المصري بين قلة من الحكام الكهنة الفنيين، ورعية تعمل في الإنتاج، كما أن لي أن أسمي حكم مصر بحكم الملك الإله، يمارس حكمه بواسطة فنية.
ومما لا شك فيه أنه كان من الطبيعي أن يحاول أولئك الفنيون أن يتألهوا وأن يؤبدوا نفوذهم في ذريتهم، وأن يوصدوا الأبواب دون الدخلاء، إلا أن ثمة عاملين حالا دون ذلك:
أولها:
عامل الاختيار والفناء الطبيعيين، وهو يحول دائما دون إيصاد الأبواب في وجه الدخلاء من الخارج.
والعامل الثاني:
هو أن «فرعون» كان يعمل دائما على أن يبقى هو وحده «منبع التشريعات كلها، ومنبع الهبات كلها»، وعلى هذا الأساس كان جد حريص على أن يرفع حديثي النعمة - كما نقول اليوم - كلما أمكن له ذلك.
ومما هو جدير بالنظر أن هؤلاء الفنيين عملوا على ألا يسمحوا لأنفسهم بحرية استخدام مواهبهم - طبيعية كانت أو مكتسبة - للتجديد أو الابتكار المطلق إلا في فترات الثورات، كما لم يكن لهم أن يخرجوا عن ممارسة الوظائف المخصصة لهم وفقا للقواعد «السائدة».
هذا شأن القلة، أما الرعية من المنتجين، فخير ما نفعل لمعرفة شأنهم، هو أن نتصورهم جماعات منظمة من الفلاحين والصناع يعملون في ضياع التاج، أو المعابد أو ما إلى ذلك.
وقد عنيت الحكومة أدق عناية بحاجاتهم الروحية؛ فنظمت شئون العبادات العامة، ووضعت القوانين الخلقية المستفيضة؛ لكفالة حسن السلوك والسيرة القويم، ولم يترك لهم - في الواقع - إلا متاع الحياة العائلية، وكانوا في فترات اليسر والرخاء راضين قانعين، وأظن أن هذا كان كل ما هنالك.
ولقد كان في وسع مجتمع مشيد على هذا النحو أن يشهد أيام عظمة ومجد ورخاء، وأن يخلف ميراثا من جليل الأعمال، ولكنه كان في معظم الأحايين، كما لو ذاق الموت.
ولما اعتلى البطالمة والقياصرة الرومان عرش «فرعون» تفككت عرى المجتمع المصري كما وصفناه؛ فالمجتمع في الظاهر هو هو، وفي الباطن شيء آخر، فقد استقر الأغراب من الإغريق واليهود في القرى والمدائن هنا وهناك، ومارسوا شئون تجارة السلع وتجارة الفكر، ومبادلتها مع البلدان الأخرى وفقا لمبادئ غير مصرية، واستنزفت دماء الأهلين إلى آخر قطرة، وهذا كله بالإضافة إلى عوامل أخرى جعل من المحال استمرار النظام القديم، وسلبت السلطة من يد الملك الإله، أو من يد الإله القيصر الغائب عن البلاد، ونشأ عهد إقطاع، وتكونت الضياع الكبيرة، وقويت نقابات أرباب الحرف، وعلا شأنها في المدن، ولم يبق في الأسر التليدة إلا أهل الريف، وهكذا ظل الريف يأكل ويهضم الغذاء الإنساني الذي يقدم إليه، ولا يشبع نهمه.
وجاءت المسيحية بشيرة بالخلاص، بشيرة - على الأقل - برفع نير اليأس، ودان لها الحاكمون البيزنطيون، والمحكومون المصريون على السواء، ولكن الفرج لم يأت بعد؛ فالحكام أجانب، وأجانب لا يستغلون الموارد فحسب، ولكن يعملون أيضا على فرض مذهب ديني معين، ونظام كنسي معين على الرعية، وانتصر المصريون فاحتفظوا بشخصيتهم، وشادوا بأنفسهم - ولأنفسهم فقط - صروح الفن واللغة والآداب والكنيسة، ولكن مجتمعهم انتقل من النظام الموحد - الذي عرفه آباؤهم - إلى مجتمع يقوم على الطوائف والهيئات: سكان القرى، وسكان المدن، والطبقة الوسطى، والقساوسة والرهبان، تربطهم جميعا رابطة من الدين والتقاليد.
وفي سطوع نور الإسلام نصل إلى العصر الثاني من عصري الحكم، الذي يسوده قانون مستمد من شريعة سماوية، وقد ظل المجتمع قائما على تنوع الطوائف والهيئات - كما كان من قبل - إلا أن ما بين تلك الطوائف والهيئات من فوارق وفواصل أوهنه وأضعفه إحساس قوي بالانتماء إلى «الأمة»، الأمة الواحدة، وهو أحساس سرى حقا في كل فرد وفي كل جماعة، أما في دائرة الحكم فقد كانت مصر الإسلامية - شأنها في ذلك شأن غيرها من البلاد الإسلامية - تعترف بالحقيقة القائمة على التمييز بين الحكومة الشرعية حقا وحكومة الواقع.
وبهذا كانت تخضع عن طواعية إلى انتقال السلطة من أسرة حاكمة إلى أخرى، أو من عصبية إلى أخرى، بيد أن الاعتراف بسيادة «الشريعة» كفل للعدالة وجودا، كما أن الإحساس القوي - الذي أشرنا إليه - بالانتماء للأمة، ويقظة الهيئة الدينية الشرعية أوجدا أداة عملية ناجزة لإحقاق الحق.
وبالإضافة إلى هذا كله كان للمجتمع الإسلامي أن يعتز بأنه هيأ لغير المسلمين مكانا منه، يتبوءونه عن حق ومشاركة جدية في نواحي الحكم والاقتصاد والثقافة.
وأخيرا نصل إلى طور «الحكم وفقا لأحكام العقل»، وسنتناول ذلك في الفصل الأخير الخاص بمصر والغرب، ونكتفي الآن بأن نذكر أن الظروف، التي أوجدت ذلك الطور من أطوار الحكم، أدت إلى الانتقاض على المجتمع الإسلامي كما ورثناه، وإلى محاولة بناء مجتمع مصري جديد عن طريق التجريب، وعن طريق الارتجال، وأحيانا تحت حكم الأهواء، وهذا ما يجب أن يكون، ما دمنا قد نصبنا العقل الإنساني على عرش السلطان.
الإنسان والمجتمع في مصر
هل خلق الفرد من أجل الجماعة، أو خلقت الجماعة من أجل الفرد؟ وهل الإنسان والنحل والنمل، وسائر الهوام في الحياة الاجتماعية سواء بسواء، أو أن للإنسانية - من حيث هي - معنى أجل خطرا من إنسانية المواطن أو العامل في الإنتاج؟
إننا لو نظرنا إلى طبيعة الإنسان نظرا يحده أفق الحياة الدنيا وحدها، لتحتم علينا أن نقول: إن كل معاني الوجود الإنساني تحصرها دائرة التاريخ، وفي هذه الحالة لا يكون الفرد من بني الإنسان إلا جزءا من ذلك المجتمع الذي هو أحد أعضائه، وفي هذه الحالة كذلك يكون الشيء الذي يهم هو النمو الاجتماعي للجماعات.
ولكننا لو نظرنا - من جهة أخرى - إلى طبيعة الإنسان ومصيره، نظرا مركزا في حياته الآخرة وحدها، لتعين علينا أن نقول: إن كل معاني الوجود الإنساني تقع خارج دائرة التاريخ، وفي هذه الحالة يكون العالم بلا معنى، وكله شر، وينحصر - في هذه الحالة - كذلك سعي الإنسان في حمل المجتمع كرها، وفي الابتعاد عنه. وهكذا نجد المجتمع - حسب النظر الأول - يبتلع الفرد - إن صح هذا التعبير - وحسب النظر الثاني نجده عدوه اللدود؛ فالنظر الأول يغفل أن كل نفس إنسانية لها وجودها الذاتي، أما النظر الآخر فيغفل أن الإنسان - بحكم أنه كائن اجتماعي - لا يستطيع أن يبلغ الكمال الروحي الذي يسمو إليه إلا بعدم الانطواء على نفسه فيخالط الساعين سعيه الروحي، على أساس أن معرفة الله هي - في جوهرها - مسعى اجتماعي.
هذا ولم يتأثر المصريون في أدوار تاريخهم كثيرا بالنوع الأول من النظر في طبيعة الإنسان، ولكنهم - على العكس - غلب عليهم النوع الثاني من النظر، وذلك في ظل وثنيتهم ومسيحيتهم وإسلامهم، فلا نعجب إذن إذا أدركنا أن العقيدة الدينية لم ترجح كفة الفرد كما كان ينبغي لها أن تفعل، ولم ترفع عنه عبء ما أوجبه المجتمع عليه بحكم ضرورات لازمت المجتمع المصري ملازمة تكاد تكون دائمة.
وهذه الضرورات - التي سوف أتناولها الآن بالشرح - أدت إلى نوعين من النتائج: الحط من قدر الفرد وإلزامه بألا يخرج عمله عن التكرار من جهة، وحصر السلطان في قلة متسلطة، كانت الجماعات تشقى وتكدح لتوفير وسائل الراحة والمتعة والرفاهية لها من جهة أخرى.
وترجع الضرورات التي أشرنا إليها إلى عوامل طبيعية معينة مستقرة في أسس الحياة المصرية، وهي عوامل تعمل بانتظام، وتواصل عملها عاما بعد عام دون تغير جوهري فيها - أو على الأقل - دون تغير ملحوظ منذ فجر التاريخ على ما نعرفه، ومداه قصير نسبيا، فتوالي الفصول واختلافها والحرارة والرطوبة، واتجاه الرياح وسرعتها، وفيضان النيل وانخفاضه، كل هذه الظواهر الطبيعية تجري في نسق كامل منتظم الحركة، كما أن ما يحدث من التغيرات يخضع أيضا لنظام دوري رتيب. وإن بيئة هذا شأنها لا بد وأن يجري كدح الإنسان وكده فيها على سنن منتظمة رتيبة، إلا أنه لا بد لهذا الكد من أن يكون ثابتا متواصلا، وأن يجري على نهج نظام تصنعه سلطة عليا واحدة؛ إذ إن كل توقف في الكد والجهد، وكل توان في اليقظة والانتباه ، وكل نزوة من نزوات الفرد، يعقبها الدمار والكوارث.
ويحق لنا إذن أن نقول: إن مصر التي بناها المصريون وشادوها تتقاضى من بناتها ثمن بقائها، وتفرض عليهم نوع الحياة التي يحيونها، وقد بلغ من سيطرة مصر على ساستها وقادة أمرها ورسمها لهم خطط إدارتها واستغلال مواردها، أننا نجد - إذا استعرضنا على سبيل المثال - أعمال أحد سلاطين المماليك أو الولاة الرومان، هي هي أعمال أحد البطالمة نفسها، لم تتغير إلا في الأسماء والأعوام، لقد جعل مؤسسو مصر منها ضيعة، وكان من الضروري من أجل استغلالها أن يخضعوا سكانها لحكم مطلق مركز، فيجنون بذلك ثمرة تنظيمهم لموارد المياه وموارد التربة، فلا تضيع من الماء قطرة، ولا يبقى من الأرض شبر غير منزرع، ويمكن تلخيص مفتاح النظام كله في المبادئ الآتية:
الصلة الوثيقة بين الإدارة العامة وبين الاستغلال الاقتصادي، الأهمية القصوى لعمل الإدارة، الإدارة يجب أن تكون منتظمة يقظة. وما تاريخ مصر إلا مصداق لهذه المبادئ، فلا نعرف بلدا يتأثر أهلوه بالحكم صالحا أو فاسدا كما يتأثر أهل مصر، ولا نعرف بلدا يسرع إليه الخراب إذا ساءت إدارته كمصر، ولا نعرف بلدا تجري فيه العوامل الاقتصادية نحو نتائجها المقدرة دون تمهل ودون انحراف كما هو الحال في مصر، فتستطيع في مصر أن تقدر ما يترتب على رفع ضريبة من ازدياد الإنتاج وازدياد قوة الشراء، وتستطيع - في مصر - أن تحسب ما يساويه مال ينفق على مشروع من مشروعات الري قطنا كان أو قصب سكر.
فمن الجلي إذن أن بيئة مصر الطبيعية والبشرية تنزع نحو إيجاد عاملين، صالحين في الإنتاج، أكثر مما تنزع نحو إيجاد الثروات الفردية المتباينة، والمصري - في التاريخ - إنسان متعلق بقريته أو حقله أو الشارع أو الحي الذي يسكنه أشد تعلق، قريته أو مدينته هي وطنه، يشقى في عمله، ويشق عليه أن يتركه أو يهجره مهما ساءت حاله، ومهما انتابه من كوارث الطبيعة. ولما كانت السنون - في مسالكها - لا تأتي بجديد، فلا معنى للتطلع إلى جديد، وإذا ما امتد البصر إلى ما وراء القرية فما الذي يراه: إما أن يرى قرية أخرى، ولا جديد في ذلك، وإما أن يرى الصحراء، وما الصحراء إلا الجدب والموت، وأهلها رجال نهب وقطع طريق، فلا عجب أن يوليها الفلاح دائما ظهره، ولم يؤثر عن ابن المدينة أنه هام بشيء اسمه الطبيعة، والقروي والحضري كلاهما عرف الأيام الحلوة والأيام المرة، ولكنهما لم يتصورا وجود عصر ذهبي كان فيما مضى من الزمان، ولا يريانه قطعا في حاضرهما، وإن كانا يرجوانه من الله في الآخرة جزاء ما صبرا، ليس العصر الذهبي في الغابر، ولا في الحاضر، فالظاهر أن طيبات الدنيا كانت دائما من نصيب القلة، وكما قال الأستاذ توينبي: «خلال الخمسة أو الستة الآلاف من السنين الماضية استأثر قادة المدنيات المختلفة بثمرة كد الجماعات، وحرموا عبيدهم حقهم فيها دون تردد أو وخز ضمير، كما نفعل بالنحل نسطو على خلاياه وعسله.»
والبلاء قديم قدم إنشاء مصر، فها هو ذا فرعون مصر - الملك الإله - يستعرض ما حوله، ويرى أن ليس في الإمكان أبدع مما كان فيستهويه الخاطر المضلل، فيتوهم أنه هو - وهو وحده - خالق مصر، وفاته أنه لولا تعاون منظم من جانب فلاحيه، ولولا سهولة انقيادهم، لما كان في وسعه أن يخلق شيئا، فمارس السلطان، وتصرف فيما أنتجه المجتمع بأسره - كما لو كان ملكا خاصا له - لا يشاركه فيه أحد، ملكا يخدم أهواءه ومسراته وتمجيده في هذه الدنيا، وخلوده في الآخرة، فلا عجب أن نادى في الملأ
أنا ربكم الأعلى ، ولا عجب أن انحط شأن الفلاحين، فلم يكونوا إلا أدوات إنتاج بشرية. وأخذ المجتمع المصري القديم يتسم بالجمود، والمحافظة على القديم والتقاليد، كما يتسم بالعقم؛ مما ناقض أتم مناقضة ما اتصف به المجتمع نفسه عند مولده وفي صباه من صفات الابتكار والإقدام في لحظة من لحظات البطولة.
وفي أدوار التاريخ المتتالية قد يسمو مستوى الإدارة وقد يهبط، ويعم الرخاء أو البؤس، ولكن يبقى ما بين الحاكم والمحكوم على ما هو عليه، كان الذي بينهما على أسوأ أحواله أيام الرومان، عندما كان الزمام الوحيد الذي يكبح شراهة الحكام وسطوهم على ما في أيدي الناس؛ هو خوفهم من أن البقرة الحلوب قد يجف لبنها تماما.
ثم نصل إلى العصرين المسيحي والإسلامي من تاريخ مصر، وهنا ننظر، ألا يحق لنا أن نتوقع تحولا أساسيا في العلاقات الكائنة بين الإنسان وبين المجتمع؟ ألم تعلن هاتان الديانتان أن الإنسان خلقه الله، وأن لكل مخلوق، ولكل إنسان، ولكل فرد ذاتية يستمدها من الله، ولا يجوز لمجتمع ما، ولا لسلطان ما، أن يدعي أن له أن يمنحها أو أن يستردها، وأن على الإنسان أن يكسب رزقه، وأن يكمل أدبه وأن يعبد ربه، وهذه شئون شخصية قبل أن تكون اجتماعية، ولكن - والحق يقال - لم يتأثر مركز الفرد في المجتمع باعتناقه تلك المبادئ الكبرى للحد الذي يحق لنا أن نتوقعه، ويرجع هذا إلى أسباب: يرجع أولا إلى أن القائمين بأمور الدين كانوا يرون أن نزوع الطبيعة البشرية نحو الشر يقتضي الكبح، وأنه ما دام الشر عنصرا من عناصر الطبيعة البشرية فإن هناك مجالا لسيف قيصر، أو لدرة عمر، ويرجع ثانيا، إلى أن القائمين بأمر الدين كانوا يؤمنون بأن المجتمع لا يمكن أن يقوم إلا على ترتيب الناس مراتب ودرجات.
كانوا يؤمنون مخلصين بالمساواة بين أفراد البشر، ولكن هذا الإيمان لم يقتض - في نظرهم - العمل على إيجاد تكافؤ الفرص بين الأفراد، والشيء الثابت هو تفاوت الأفراد في مواهبهم، ولا يضير المساواة الحقيقية أو ينقصها تفاوتهم في الأرزاق، ويسري في التفكير الإسلامي، قولا وعملا، التمييز الواضح بين العامة والخاصة. على أن ما يحق للتفكير الإسلامي الفخر به قولا وعملا هو أن هذا التمييز لم يقم على أساس الحسب أو السلالة البشرية أو الغنى، ولكنه كان حقيقة واقعة، وكان له أثره، بالإضافة إلى عوامل أخرى في تنظيم المجتمع الإسلامي في مصر على أساس الوظيفة الاجتماعية المخصصة للفرد، والوظيفة الاجتماعية هي التي تعين حقوقه، فللفرد المسلم صفتان: صفته إنسانا مسالما، وصفته فلاحا أو صانعا أو طالب علم أو كاتبا أو جنديا ... إلخ. فالحقوق عامة وخاصة ، والواجبات عامة وخاصة، وقد تطغى الواجبات على الحقوق فتمحوها عمليا، أو تكاد.
إن النظرية الإسلامية لتقرر أن الحكم ينبغي أن يكون في يد أصلح الناس له، ولكن الواقع يوجب - في الوقت نفسه - أن يكون في يد من يملك وسائل فرض الطاعة على الرعية، ومما يؤسف له أن امتلاك الوسائل أصبح في النهاية المبرر الوحيد لممارسة السلطان.
هذا هو تراث الماضي، وقد أثر ما حدث من التغييرات خلال القرن التاسع عشر في ذلك التراث على أربعة أوجه: (1)
اتخاذ الإنسانية المطلقة أساسا للحقوق. (2)
تغليب صفة المواطن على صفة الفرد، فلاحا أو صانعا، أو ما إلى ذلك. (3)
التطلع إلى الخير عن طريق التغييرات الاجتماعية والاقتصادية. (4)
الإيمان بما تستطيع أن تحدثه الأنظمة المختلفة.
والواضح من هذا السرد أننا نركز النظر في مجتمع جديد، وأن عنايتنا بتكوين فرد جديد لا تعدو أن تكون وسيلة لإيجاد المجتمع الجديد المثالي، وهذا ما نستطيع أن نقوله عن الفرد والمجتمع في عصرنا الحاضر.
المدينة والريف في تاريخ مصر
ظلت حضارة مصر حضارة مجتمع ريفي خلال آلاف السنين من تاريخها، حقا كان لمصر مراكز حضرية، وكانت لهذه المراكز مكانتها في حياة البلاد القومية، إلا أن الحضارة - مع ذلك - كانت هي حضارة الريف وسكان الريف.
وإنا لنتساءل الآن: كيف كان طراز تلك الوحدات الحضارية في مصر القديمة؟ كان هناك «بنادر» (الأقاليم اليوم)، ولكنها كانت في الحقيقة قرى كبيرة، وإن قامت بما تقوم به المدينة، إذ كانت مراكز الإدارة المحلية، والعبادات المحلية، وفيها كان يعقد السوق والمواسم، كما كانت هناك قواعد المملكة، وكانت النزعة الغالبة جعل قاعدة البلاد أو العاصمة في إقليم منف؛ أي حيث تلتقي الدلتا بالوادي، وفوائد ذلك واضحة جلية، إلا أن مؤسسي الإمبراطورية الجديدة قاوموا إغراء الاتجاه نحو الشمال، واتخذوا طيبة قاعدة ملكهم القومي والإمبراطوري، وكانت هناك أيضا مدينة الجامعة الشهيرة - أو بمعنى أدق - المدينة الكهنوتية «أون أو عين شمس»، كما كانت هناك المدينة التي أسسها أخناتون «مدينة أخيتاتون» لتكون مركز العقيدة التي فرضها، إلا أن هذه لم يقدر لها أن تعمر طويلا، وما تبقى منها من آثار في «تل العمارنة» يدلنا على وجهة نظر المصريين في فن تخطيط المدن.
وأخيرا أمامنا طراز من المنشآت، يهمنا أمره عند دراسة التطورات الآتية بعد، نعني بذلك مدن المعسكرات المقامة عند الحدود، مثال ذلك «دافني» في شرق الدلتا، و«ماريا» في غربها و«الفانتين» (أو جزيرة الفيلة) جنوبا، و«نوقراطس» الواقعة في الدلتا، وإن كانت على اتصال ملاحي بالبحر الأبيض المتوسط. وقد أتاحت تلك المعسكرات لفراعنة مصر أن يسكتوا العصابات الحربية المتبربرة، كالليبيين مثلا، أو الإغريق، أو اليهود، ممن كانوا يجندون، وكان لزاما عليهم أن يوجدوا مواطن لهم، لا بوصفهم جنودا فحسب، بل بوصفهم جاليات أجنبية تقيم في مصر دون أن تكون من مصر، وكان أهم تلك الجاليات شأنا اليهود والإغريق.
وسنشرح هذا الجانب من تاريخ مصر بعد، بشيء من الإسهاب، إلا أن الثقافة المصرية الكبرى كانت تستقي مادتها دائما من ينبوع الطبيعة الريفية، لا من الحياة الحضارية؛ فأصول الثقافة إنما غذاها التأمل في مظاهر الحياة والموت والنشور، وإن وهن المدينة المصرية المادي ليصور لنا وهنها المعنوي أدق تصوير.
هذا ولما آذن العصر الفرعوني بالزوال بدأت فصول جديدة من التاريخ، كان للمدينة فيها المقام الأول، وكان الإسكندر الأكبر هو أول من أزاح الستار عن ذلك الفصل الجديد من فصول التاريخ، ويوصف ذلك الفصل الجديد إجمالا بأنه حضارة جديدة تكونت من عناصر متباينة، صهرت في بوتقة المدينة المصرية؛ فالمدينة هي حجر الزاوية في الإمبراطورية، كما تصورها الإسكندر الأكبر.
إذ كانت الفرصة في المدينة مواتية لكي تؤثر العناصر الوطنية والعناصر المستوطنة بعضها في بعض، وفيها تستطيع العناصر كافة أن تجد الجو المادي والروحي الذي يمكنها أن تعيش فيه، ومدينة «الإسكندرية» شاهد على ذلك، ويجب علينا أن نذكر أنها عرفت رسميا بأنها «الإسكندرية المتأخمة لمصر» فليست هي مصر أو من مصر.
وقد كان البطالمة حذرين في تنفيذ سياسة نشر الحضارة الإغريقية عن طريق إنشاء المدن، فتعارضت سياستهم في هذا المضمار مع سياسة منافسيهم السلوقيين في سوريا، ويرجع ذلك إلى أن البطالمة كانوا يدركون أن المدينة الهيلينية - من الوجهتين الروحية والمادية - لا بد لها من أن توهن على الأيام الحياة الاقتصادية التقليدية، وتفكك أواصر المجتمع؛ لذلك لم يؤثر عنهم إلا شيئان هما: إعلاء شأن الإسكندرية وإنماؤها حتى ازدهرت وأصبحت مركزا عظيما من مراكز الحضارة الهيلينية، وتأسيس مدينة «توليماس» في الصعيد، وكان البطالمة يفضلون إسكان جندهم في الريف، وإقامتهم زراعا مستعمرين.
وقد كان ذلك بداية ارتباط وثيق بين الريف والمجندين - وكانوا عادة من الأجانب - ذاك الارتباط الذي دام حتى بداية القرن التاسع عشر، وقد اتخذ ذلك الارتباط مظهرين: أحدهما: مرابطة الجند في الريف مثلا. أما المظهر الآخر فهو تخصيص دخل الدولة من الأراضي الزراعية بالذات للإنفاق على القوات المسلحة، ويجدر بنا في هذه الجولة العاجلة أن نلاحظ أن أولي الأمر في إمبراطورية الرومان، رغبة منهم في قهر مقاومة المصريين على التخلي عن قوميتهم، حولوا عواصم الولايات - تلك المدن التي كان يطلق عليها اسم: «متروبوليس» - إلى بلديات ذات حكم ذاتي، وقد تم ذلك في القرن الثالث الميلادي حينما كانت مصر تجتاز ذاك الطور من ثقافتها التي كانت مزيجا من الحضارات المصرية والهيلينية واليهودية، لتصبح ذلك المزيج الفذ: المسيحية «المصرية».
وهنا نقف لحظة لنلقي نظرة إلى الوراء، إلى ثقافة ما قبل المسيحية، وهي التي تسمى عادة حضارة الإسكندرية، وهي تسمية عملية وإن كانت لا تعطي استمرار التقاليد المصرية الخالصة في الريف حقها من الاعتبار، ولا عجب فإن تلك التقاليد خبا نورها إلى جانب ما كان للإسكندرية من بهاء وسناء.
ويمكن للباحث أن يستعرض ثقافة الإسكندرية من وجهتي نظر، هما: وجهة نظر الجماعات الثلاثة التي أسهمت في تكوينها؛ أي من ناحية ما كان لتلك الثقافة من أثر في ازدهار وتنمية التقاليد الخاصة بكل جماعة منها، كما يصح أن يستعرضها من ناحية انبثاقها وبزوغها ثقافة إنسانية عامة بالمعنى الحقيقي لذلك الوصف. ومما لا شك فيه أن كلا من التراث القومي لليهود والهيلينيين كان بفضل ما تم بينهما من اتصال في مدينة الإسكندرية.
وحسبنا أن نشير إلى ما بذل من جهود متواصلة في دراسة روائع الأدب الهيليني الكلاسيكي، وإلى ازدهار الأدب اليهودي في الإسكندرية؛ مما يبرهن على أن الحضارات القومية المتصلة اتصالا حيويا بالحضارات الأخرى تكون دائما بمنأى عن خطر الاضمحلال أو الفناء، وبينما كانت التقاليد الثقافية القومية المختلفة تتفاعل على هذا النحو تفاعلا مثمرا فيما بينها، حدث في الوقت نفسه بزوغ اتجاه عام جديد نحو معالجة الشئون الكبرى لحياة البشرية في هذا العالم، كان هذا الاتجاه في بعض الأحايين غير مباشر، ومثاله البحث العلمي الذي مارسه الإسكندريون، وكان هدفهم منه جمع الحقائق وتنسيقها، سواء التي تتعلق بالفلك، أو بالطبيعة، أو بعلوم الأحياء والجغرافيا، أو بغيرها. وكان هذا الاتجاه في أحيان أخرى يهدف إلى معالجة الشئون الكبرى باتخاذ أقصر الطرق، ومثال ذلك إنشاء إله أو معبود واحد (هوسيرابيس) تركيبا من آراء دينية مصرية وإغريقية، وفي أحيان أخرى كانت تلك الشئون تعالج من الناحية التصوفية والفلسفية. وكانت المشكلة التي تشغل بال الإغريق واليهود، ومن بعدهم المسيحيين في الإسكندرية، هي مسألة علاقة الله بالكون، وبخاصة بالإنسان.
ولم يقم المصريون بنصيبهم في صخب الحياة الروحية وغمارها وخضمها إلا بعد انتشار المسيحية، وتفتت الصخرة الصلبة صلابة الجرانيت في قلب المجتمع المصري القديم، وكانت ثمرة روحانيتهم المسيحية نظام الرهبنة، والنظام في صميمه ولبه ثورة الفلاحين المصريين، هي في ظاهرها ثورة على الحياة الدنيوية، ولكنها - في حقيقتها وواقعها - ثورة على المدينة، وكل ما ترمز له المدن وحياة المدن، وقد تردت في وهاد الجدب والعقم والعنف والرذيلة.
هذا، وقد أعاد انتشار الإسلام «للمدينة» مكانتها المسيطرة المهيمنة في المجتمع المصري، فثقافة مصر الإسلامية ثقافة حضارية، وقد شهدت القاهرة - ولمدى أقل بعض المدن في الأقاليم - ازدهار تلك الثقافة ازدهارا كاملا، وتبوأت القاهرة مكانة ممتازة بين مراكز الحضارة الإسلامية، وذلك في ميادين الفنون ونشر العلم ومرفهات الحياة، هذا وقد درج بعض علماء الغرب على أن ينكروا على المدينة الإسلامية الصفة الحقيقية التي تتسم بها المدينة، ومن رأيي أن ما حدا بهم إلى اتخاذ ذلك الرأي يرجع إلى أن المدينة الإسلامية تفتقر إلى مراسيم إنشاء الأنظمة المدنية، ولكن - مع ذلك - لا مراء في أن مدينة القاهرة الإسلامية قامت بنصيبها الأوفى في بناء مصر السياسي، وكان هذا بفضل هيئاتها المدنية، ومعاهدها الدينية، مضافا إلى ذلك - وهذا ما لا يصح إغفاله - الفتن الشعبية، فنصيب القاهرة في الأحداث لا يمكن تجاهله.
هذا وبفضل نمو الطوائف الصوفية، وتمسك الشعب عامة بالقصص الشعبي، خلقت الصلات التي كانت تربط الريف بالمدينة، تلك الصلات التي بقيت إلى يومنا هذا.
هذا وقد شهد عصرنا الاتجاه نحو إدماج المدينة والريف في فكرة المواطنة المشتركة، ونمو فكرة الدولة، ولكن ما زال أمامنا طريق طويل، علينا أن نسكله قبل أن نصل إلى موازنة صالحة بين الاثنين من وجهة النظر الثقافية.
مصر والعهد القديم
ما هي طبيعة علاقات مصر «ببني إسرائيل»، أولئك القوم الذين تحدث عنهم العهد القديم، وعن أحداث تاريخهم وجهودهم الروحية بتلك الروعة وذاك السناء؟ هل أسهموا في تكوين مصر إسهام الحضارة الهيلينية والمسيحية والإسلام والغرب فيه؟
إننا نعرف أنه كان هناك مصريون مندمجون في الإغريقية، وإغريق «متمصرون»، كما كانت هناك مصر المسيحية ومصر الإسلامية، ونعرف أن الغرب قد سيطر على مصر، وأن مصر اتجهت إلى الغرب حينا، كما أشاحت بوجهها عنه أحيانا، وكان ذلك في الحالين عن وعي وإدراك.
ولكن ترى هل كانت مصر على علاقات مماثلة مع بني إسرائيل؟ ولكي أجيب عن هذا السؤال يجدر بي أن أميز بين نوعين رئيسيين من الصلات بين الشعبين:
فأما النوع الأول:
فيرجع إلى فترة ما بين بداية كتب العهد القديم الرسمية ونهايتها؛ أي حتى ذلك الحين الذي كانت فيه مصر وفلسطين مندمجتين في إمبراطورية الفرس وفي إبان الأحداث الخطيرة التي ترتبت على فتوح الإسكندر في القرن الرابع قبل الميلاد.
وأما النوع الثاني:
فيبدأ عندئذ؛ أي عندما أخذ اليهود في الاستيطان في مصر، وقد قدر لليهود أن يكون لهم أثرهم في حياة البلاد الاقتصادية والثقافية، ولكنهم كانوا في هذه الحالة عاملا من عوامل تكوين مصر المسيحية والإسلامية ثم مصر المتصلة بالغرب، فيجدر بنا إذن أن نترك أمرهم لأحاديثنا في تلك الموضوعات، وأن نخصص الحديث الحالي لعلاقات مصر بيهود العهد القديم.
ومن رأيي أن تفسيري لتلك العلاقات يكون أوضح وأبين لو اخترت وقائع وحوادث معينة ورتبتها ترتيبا زمنيا، ولنبدأ بزيارة إبراهيم، وقد وقعت تحت ضغط المجاعة، وهي تبدو لنا مثلا قديما جدا للعلاقات بين الأقوام من رعاة الصحراء أو ما يشبه الصحراء وبين وادي النيل، ويرى بعض الثقات أن قدوم إبراهيم حدث في عهد الأسرة الثانية عشرة، كما أن بعضهم يوقتها بعد ذلك. ويجب علينا أن نلاحظ أنه كان لسارة - زوجة إبراهيم - جارية مصرية، هي هاجر أم إسماعيل، وقد أسكنها إبراهيم ببلاد العرب كما هو معروف، كما يجب علينا ألا ننسى قدوم يوسف إلى مصر، وما صادفه من تقلبات الحظ بين سعد ونحس، حتى آل به الأمر إلى توليه السلطة كوزير لفرعون مصر، ولقد أثرى هو وشعبه ثراء عجيبا، وابتسم لهم الحظ.
ويقول بعض المؤرخين، ويعارضهم آخرون: إن ذلك حدث في عهد الغزاة الأجانب، الذين كانوا يسمون بالهكسوس، والهكسوس في الواقع فتحوا أبواب البلاد لأخلاط من الناس، وفدوا عليها من الشرق، ويبدو أنه في أيامهم ازداد اليهود، الذين كانوا يعيشون في مصر، عددا وثراء، وامتلأت خزائنهم وحظائر ماشيتهم، كما اكتسبوا مهارة في ميادين الفنون المختلفة المعروفة عند المصريين، كصناعة المعادن، والحفر على الأحجار الكريمة والصباغة والنسيج، وكان يجمعهم نظام يرأسه «شيوخ» من أنفسهم، وعلينا أن نذكر أنهم عندما غادروا مصر كان رحيلهم على شكل حشد ونظام عسكري؛ أي رحيل أولئك الذين لم يؤثروا البقاء بعد انتهاء حكم الهكسوس.
وتنتقل بنا القصة إلى ما قامت به الأسرة الثامنة عشرة من أعمال عسكرية باهرة وانتصارات في آسيا، وإلى إعادة تنظيم الإمبراطورية، وإلى الآثار الكبرى التي شادوها، وإلى ذلك الحدث المفاجئ: ثورة أخناتون الدينية، وهذه العبادة التي فرضها أخناتون - عبادة قرص الشمس تحت اسم أتون - يمكن أن تعتبر - على وجه ضيق - شكلا من الأشكال المتعددة لعبادة الشمس، ولكنها كانت تقوم على الإيمان بإله واحد قوي حي؛ وبذا نشأ نوع من التقارب بين هذا التطور في عقيدة المصريين وبين توحيد اليهود.
والآن نتساءل: ما أثر العقيدتين إحداهما في الأخرى؟ وليست الإجابة على هذا السؤال بالأمر الهين، فإن العمل الجليل الذي قام به أخناتون، كان يتسم بطابع الابتكار الشخصي في طموحه وتحقيقه، ولكن تشابه الأفكار - ودع التشابه اللفظي جانبا - بين أناشيد أخناتون وبين بعض المزامير يسترعي من النظر والفكر ما يدعو إلى دقة وزنه وتقديره حق قدره.
ولن تدهش إذا كان زوال سلطة عبدة أتون مرتبطا بعض الارتباط باضطهاد بني إسرائيل في عهد الأسرة التاسعة عشرة - كما يرى المؤرخون عامة - وقد يكون هذا الاضطهاد قد بدأ قبل ذلك، وأنه نبت في كراهية المصريين للهكسوس وشيعتهم وأذنابهم، وقد يكون رد الفعل الذي أعقب وفاة أخناتون قد أدى إلى النفور من جميع عباد المعبودات غير المصرية، ثم حدث أن فراعنة الأسرة التاسعة عشرة - وقد كان من بينهم فرعون بني إسرائيل (ولا نعرف من هو) - اهتموا بتشييد العمائر الضخمة - مدنية وعسكرية - ولم يسخروا في تشييدها - كما كان يفاخر رمسيس الثاني - إلا عناصر من غير الأهلين، ونصل بذلك إلى المرحلة التالية، والشخصية البارزة فيها هي شخصية موسى، الذي أخفته أمه في بردي النهر؛ لتنقذه من ذلك الأمر القاسي الذي أصدره فرعون بذبح المواليد الذكور كافة، وتبنته امرأة فرعون، ونما موسى وترعرع في كنف ثقافة مصرية، ولكن قدر له أن يثور عليها، وقد ورد في القرآن الكريم ذلك العتاب المؤثر الذي وجهه فرعون لموسى:
ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين .
ثم هرب موسى إلى مدين، ثم كان أن اختاره الله، وأمره بالذهاب إلى فرعون؛ ليكف عن تعذيب بني إسرائيل؛ وليسمح لهم بالخروج من مصر، وتمكن موسى - آخر الأمر - من أن يخرج بقومه، وفي رواية العهد القديم وصف البحر الذي عبروه بأنه: «بحر مليء بالحشائش والعشب»، كما لم يرد فيها نص على أن فرعون نفسه كان ممن هلكوا، وقد حمل اليهود معهم أمتعتهم ومقتنياتهم وجثة يوسف، ومما هو جدير بالذكر أنه لم يرد ذكر شيء من هذا كله في النصوص التاريخية المصرية، وسأعود إلى هذا مرة أخرى.
والآن تنتقل القصة إلى الحوادث المتصلة بالتيه والوصايا العشر، والاستيلاء على أرض كنعان، ثم قصة يوشع وعهد القضاة، ثم قصة صمويل والمملكة حتى حكم سليمان، وما امتاز به من ضخامة وعظمة.
ومن هنا - حتى نهاية العصر الذي حددناه - نتناول شرح ما يجوز تسميته بسياسة توازن القوى.
ننتقل الآن إلى سوريا وفلسطين، مقسمة بين دويلات ومدن متناهية في الصغر، وتحيط بها دول ملكية قوية تمارس بنشاط وهمة سياسة التغلب؛ ولذا فإننا نجدها تحاول أن تملك أو تسود الأراضي الفلسطينية السورية، وكانت بمثابة الجسور والمعابر ما بين مصر وغربي آسيا، ومن ثم اهتمت مصر اهتماما عظيما بشئون جيرانها، ولما لم تكن من القوة والسلطان بحيث تستطيع الاستيلاء على أرضهم أو ضمها إليها إلا فترات قصيرة من الزمن، فإنها وجهت جهودها للحيلولة دون وقوع تلك البلاد في أيدي أعدائها، ولو حدث وسقطت تلك البلاد بالفعل في أيديهم، فإن مصر كانت تعمل على إثارة المتاعب لمحتلها، وقد كان هذا قصارى جهدها في ذاك الحين؛ إذ كانت قوتها قد أخذت في النقصان، بيد أن أثرها في الثقافة اليهودية كان ملحوظا في عصر سليمان، فنشأت صلات تجارية بين البلدين، وكانت مركبات الحرب والخيل أهم صادرات مصر، كما أننا نشاهد نفوذ مصر في ازدياد المظاهر الملكية عند اليهود، وترجع فخامة العمارة وأبهتها في عصر سليمان بعض الشيء إلى محاكاته المصريين دون شك، فشكل المعبد ذاته في جملته بأبهائه ومدخله، والعمودان البارزان القائمان كالمسلتين أمام المدخل، وكذلك الأسدان القائمان على عرش سليمان، كل ذلك يحمل الطابع المصري، وفي الحقيقة كان نظام ملكه منقولا عن الإمبراطورية المصرية الكبرى.
والآن كيف نقارن بين هذين الشعبين؟ لقد كانا على طرفي نقيض في كل شيء، كان أحدهما يمثل مجتمعا مستقرا، متماسك الأطراف، مترابط الصلات، تحت سلطان حكومة دينية دنيوية، أما الآخر فشعب قلق مضطرب يسعى إلى بلوغ اليقين ولا يكاد يبلغه. ولم يكن بينهما يوما من الأيام ود موصول. قال المؤرخ المصري مانيتون: إن اليهود انحدروا من شطر من الشعب المصري طرد من مصر على أثر إصابته بالبرص والقراع، ولكن كم من الناس يقرأ مانيتون؟
وعلى أية حال فإن كتبه قد ضاعت، ولم يرد ذكر إسرائيل كثيرا في سجلات تاريخ مصر، ولكن إذا أردت النظر إلى الجانب الآخر، رأيت أن العقيدة اليهودية قد لقحت بالمسيحية، وأن العهد القديم جزء من الكتابات الدينية المسيحية، وأن الصورة التي وردت عن مصر والمصريين فيها قد انطبعت في عقل كل طفل، وكل رجل وامرأة في العالم المسيحي جيلا بعد جيل، بحيث لا يمكن أن تحل محلها أية صورة أخرى تخالفها، زد على ذلك أنها ترد في كتب سماوية، وعلى أساس ما كان لتلك الصورة اليهودية من أثر في عقول الملايين من اليهود والمسيحيين، وفي موقفهم العقلي والعاطفي لا من مصر الفرعونية فحسب، بل من مصر عموما، يمكن القول بأن كتب العهد القديم قد عملت هي أيضا في تكوين مصر، وإن كان ذلك على نحو خاص بها.
مصر والهيلينية
ما هي الهيلينية؟ يرى بعض المؤرخين أنها ثقافة جديدة، تتركب من عناصر إغريقية وعناصر شرقية، بينما يرى آخرون أنها امتداد الحضارة الإغريقية إلى الشرقيين، وفي نظر فريق ما هي إلا استمرار المدنية الإغريقية الأصلية، وهناك فريق آخر يرى فيها المدنية الأصلية نفسها معدلة بظروف جديدة.
ولندع هذا وذاك، ونقول مع المؤرخ «تارن»: إن «الهيلينية» ما هي إلا وصف موجز لمدنية القرون الثلاثة التي بدأت بفتوحات الإسكندر الأكبر، والتي انتشرت فيها الثقافة الإغريقية بعيدا عن موطنها الأصلي، ولهذا الرأي ميزته، وهي تناول الموضوع موحدا، ولكن ينبغي علينا أن نتذكر دائما أن القرون الثلاثة التي حددها الدكتور «تارن»، كانت اتصالا لحركة توسع واسعة النطاق، لا من جانب إغريق بحر إيجه فحسب، بل من جانب أقوام آخرين اتصفوا بالإقدام والمخاطرة، وبخاصة الفينيقيين والأتروريين، كما يجب علينا أن نستذكر أنه حدث بعد تلك القرون الثلاثة أحداث تكون جزءا لا يتجزأ من قصة الحضارة الهيلينية، ألا وهي: إنشاء الإمبراطورية الرومانية، ونشر الديانة المسيحية.
أما الشطر الثاني من تعريف الدكتور «تارن»، وهو إشعاع الحضارة الإغريقية من موطنها الأصلي، فهذا أيضا مما يجب إدراكه جليا، وأود أن أشرح في هذا الحديث حقيقة ما كان من أمر هذا الإشعاع واتجاهاته وحدوده. وفي الحق سوف نلاحظ أن إشعاع الحضارة الهيلينية كان أبلغ أثرا وأجدى ثمرة، بعد انقضاء القرون الثلاثة للعصر الهيليني بأمد طويل، وفي أوضاع لم تخطر على بال الأسرات اليونانية المالكة التي ورثت الإسكندر، وكذلك لم تخطر على بال الأباطرة الرومانيين، ولا في مواطن لم تصل إليها جيوشهم: لا في فارس تحت حكم الساسانيين، ولا في العراق تحت حكم الخلفاء العباسيين، ولا في ظل مدارس التفكير الإسلامية والمسيحية، ولا في فنون الساسانيين والشرق الأقصى والفنون القبطية، كما لم ينبعث هذا الإشعاع المثمر من الإسكندرية أو أنطاكية، اللتين ظلتا تحت سلطان الإغريق والرومان قرابة ألف سنة، بل انبعث من مدن غير مطروقة لا تخطر على بال، كجنديسابور في غربي فارس، أو واحة مرو في حوض نهري سيحون وجيحون، أو من حران مدينة الصابئة في الجزيرة.
وأدوار الحضارة الهيلينية الأولى - كما حددتها - تتوافق مع زوال عصر الإمبراطوريات القديمة، إن لم تكن قد ترتبت عليه، أفلت فيه نجوم وبزغت أخرى، ودرست الإمبراطوريات المصرية والأشورية والبابلية الجديدة، ودخلت في خبر كان، وعلا شأن شعوب فتية، هم الإغريق، والفينيقيون، والأتروريون، والميديون، واليهود، والآراميون، والرومان. وقد امتد نشاط هذه الشعوب إلى ميادين أوسع وأرحب من تلك الإمبراطوريات القديمة، وانطلقوا في البحر والبر على السواء، ولم يقفوا عند حد إقامة دولة قوية فحسب، ولم تكن فتوحاتهم عملا حربيا صرفا، بل أضافوا إلى تاريخ الإنسانية فصلا أكثر غنى بحوادثه، وأكثر إثارة للتأمل مما سبقه من الفصول.
إلى جانب هؤلاء أتى قومنا المصريون، وقد تقدمت بهم السنون، وأثقلت كواهلهم أحداث الماضي، ولم يبدءوا حياة جديدة قادرة على الخلق والابتكار، ولم يتلقوا رسالة من الأمل إلا عند مقدم المسيحية وظهور الإسلام.
وكان أول ما تلاقت مصر بالهيلينية عندما قدم المغامرون الإغريق إلى مصر، تجارا وملاحين، وجنودا مرتزقة، وقد استخدمهم الفرعون «بساماتيك» وحلفاؤه برا وبحرا في قتال الأشوريين والفرس وحلفائهم من بعدهم، وفي قتال الفينيقيين، وفي فتنهم وحروبهم الداخلية، وقد استقر هؤلاء الإغريق في مدن عسكرية، وفي مدينة «نوقراطس»، وفي بعض أحيان المدن المصرية الصميمة، ومنحوا حرية تنظيم مدنهم وأحيائهم وفقا لأسلوب معاشهم الخاص، وفي ظل قوانينهم وأنظمتهم، وكانوا تجارا - أو على الأصح وسطاء - كما كانوا جندا وملاحين، وكانوا يمارسون مختلف الصناعات، ولم يكن بينهم وبين المصريين ود موصول، بل كانت تثور العداوة بينهم أحيانا، ولا عجب، فالإغريق في نظر المصريين لا يكادون يستقرون على حال، أطفال قلقلون، وليسوا - في الغالب - رجالا يمكن الوثوق بهم أو الاعتماد عليهم، والمصريون في نظر الإغريق يرزحون تحت عبء الكهولة والوقار والخزعبلات الموروثة، وكان شعور الإغريق نحو مضيفيهم الذين لم يرحبوا بهم ترحيبا كثيرا، هو شعور التطلع والاستغراب المتفكه الذي لا يخلو من الاحتقار، وقد زار مصر مشاهير الإغريق، كأفلاطون، وسولون، وهيرودوت، ولكن يجدر بنا ألا نغالي فيما أثمره هذا اللقاء، من أثر ثقافي متبادل.
وفي هذه الأثناء كان سلطان فارس يمتد سريعا، وهكذا بينما نشهد انتشار الهيلينية من الغرب نحو مهاد المدنيات القديمة، كان الفرس بنو عمومة الإغريق الأباعد، يبسطون سلطانهم على ما يقع غربي بلادهم. وقد كان هذا التوسع الفارسي نقطة البداية للتبادل الثقافي المثمر مع شتى الشعوب في سوريا، فعاد اليهود إلى أوطانهم من المنفى، واتسع المجال لانتشار الثقافة الآرامية، وزاول الفينيقيون نشاطهم التجاري في إمبراطورية فارس، ثم حدث أن إمبراطورية فارس جاورت المدن الإغريقية في آسيا الصغرى، ولم ترتح لجوارها، فكان أن تشعبت الحروب المشهورة بين الفرس والإغريق. في الوقت نفسه كان حلفاء فارس - وهم الفينيقيون - يشنون حربا شعواء، ويصارعون الإغريق صراع حياة أو موت، وذلك في أنحاء حوض البحر الأبيض المتوسط كافة، وكانوا في ذلك الصراع متحالفين مع الأتروريين.
وقد أدى ذلك كله إلى امتلاك فارس لمصر، ولكنها أخفقت في إخضاع المدن اليونانية ، بينما اضطر الإغريق إلى الانسحاب من غربي البحر الأبيض، وتركه لسيادة قرطاجنة، وهي المستعمرة الفينيقية الذائعة الصيت.
ولكن الآية لم تلبث أن انعكست تماما، واستطاع الإسكندر الأكبر في خمس سنوات فقط أن يحطم إمبراطورية فارس، وأن يقود جحافله إلى الهند، وكان هذا إيذانا بفتح صفحة جديدة في قصة الحضارة الهيلينية، وفي تاريخ مصر. وآن لمصر أن تعرف الإغريق حكاما عليها، لا جندا مرتزقة أو تجارا صغارا، بيد أن الحضارة الهيلينية التي دخلت مصر تحت حكم البطالمة وخلفائهم الرومان، لم تكن الحضارة الأصيلة التي ترد على خاطرنا كلما ذكرنا تلك الأسماء الخالدة: بركليس وأفلاطون وسوفوكليس. لا، لم يكن شيء من هذا، فالبطالمة لم يسمحوا بإنشاء النظم الحرة بين رعاياهم الإغريق، ولم يتيحوا لرعاياهم المصريين فرصة المواطنة الحقة في دولة ذات قومية حقيقية، بل على العكس من ذلك، بقي الإغريق منعزلين وظلوا طائفة مميزة، وهو أسوأ ما يمكن أن يحيق - آخر الأمر - بأية طبقة من طبقات الشعوب.
وظل المصريون يعملون - كما في التعبير الإنجليزي - «حطابين محتطبين ومالئي الدلاء»، يعاملون معاملة الأجناس المستعبدة، يكدون ويكدحون حتى يسقطوا من الإعياء، حرموا من أن ينهض بينهم زعماء منهم، وتركوا نهبا لقساوستهم المتعصبين، وقد أبقى الملوك البطالمة وقياصرة روما على السخافات والمساخر الدينية، عن سوء قصد ونية، وأصروا على الإمعان فيها، وهم في قرارة أنفسهم يحتقرونها بكل جوارحهم.
وماذا كانت نتيجة هذا كله؟
كانت نتيجته تكوين مصر، يصفها المؤرخ الروماني «ناسيتوس» فيما يلي بقوله:
هي ولاية من العسير الوصول إليها، تنتج الغلال، مشتتة الفكر والخواطر، وسريعة الاستجابة لدواعي الفتن تحت تأثير الخرافات والفوضى، تجهل القانون، ولا تعرف خطط القضاء والحكم!
وتكلم «بوليبيوس»، مؤرخ روماني آخر، عن شعب الإسكندرية فوصفه بالشعب الهجين.
ووصف «دون كريزوستوم» المتبحر في علوم البيان والجدل والسفسطة، الإسكندرية بأنها مدينة قد جنت بالطرب وسباق الخيل، لا تشتغل بأي شيء جدير بعظمتها ومكانتها.
وإنه لأمر يسترعي النظر أنه مهما كد القارئ في البحث عن تأثير مصر والمصريين في أدباء الإسكندرية اليونانيين لم يجد شيئا يعتد به، لا في منثورهم، ولا في منظومهم على حد سواء.
هذا وإن كانت قد نشأت في ريف البلاد جاليات مختلطة من المصريين والإغريق، متأثرة فعلا بالحضارة الإغريقية، فإن هذه الجاليات كانت من ضعة القدر والمكانة، بحيث لم تستطع أن تنتج أو تثمر تلقيح الحضارة المصرية بالحضارة الهيلينية. وقد تأثر اليهود - أيضا - بالحضارة الإغريقية تأثرا اقتضى أن تترجم كتبهم الدينية إلى اليونانية؛ لكي يستطيعوا فهمها والانتفاع بها، ولكن اليهود - كعادتهم - شغلتهم أنفسهم عن أي شيء آخر، حقا كان العصر كله عصر استغلال وأثرة وعداوات للشعوب، ولم يبد أي فريق ممن برزوا على مسرح التاريخ خلاله أحسن ما عنده.
وجاءت الثورة من الطبقات الدنيا، فاضطر البطالمة - وهم يرزحون تحت ضغط الإعياء الاقتصادي، ووقف تدفق المهاجرين الإغريق، وفي سبيل مواصلة حروبهم مع الأسرات المقدونية المالكة الأخرى - إلى استخدام رعاياهم المصريين جنودا، ولذا شرعوا في التخفيف من وطأة حكمهم وأنظمتهم، وأضاف مقدم الرومان عمرا جديدا إلى ذلك الطراز البغيض من الحضارة الهيلينية، ولكن الثورة التي بقيت تعمل في الأعماق، تمكنت في النهاية من أن تقضي على ذلك الصرح الشامخ الذي شيده قياصرة روما، وكانت هذه هي مهمة المسيحية، وما حققته من عمل مجيد.
أما عن تحرر مصر من الكابوس الهيليني الروماني، فهذا ما سأتناوله في حديثي المقبل. وسنرى عندئذ أن الحضارة الهيلينية لم تعمل في تكوين مصر عملا نافعا خيرا، إلا عن طريق ذلك العنصر الإغريقي الكامن في المسيحية.
مصر والمسيحية
يدخل في تكوين مصر عنصر مسيحي هام كل الأهمية، وليس مرد ذلك إلى أن المسيحية عقيدة فريق من أبنائها فحسب؛ بل لأن المسيحية في عالم مسيحي، هي التي كونت النظرة الروحية لأبنائها كافة.
وقد كانت مصر التي حمل إليها يوحنا مرقص المبشر بالإنجيل رسالة المسيحية - كما جاء في الرواية المتواترة - خليطا من طرازين مختلفين من البيئة؛ فمن ناحية كان هناك سكان المدن الذين يتكلمون باليونانية وبخاصة في الإسكندرية، وهم من الإغريق والمصريين المشبهين بالإغريق واليهود، وهؤلاء جميعا تأثروا بالمؤثرات الدينية والثقافية السائدة في المدن الهيلينية في القرن الأول من العهد المسيحي، وتأثروا من الناحية الأخرى بطراز البيئة المصرية الصميم.
أما في البيئة الحضارية التي كانت تضم ذلك الخليط من الطوائف الذين ذكرناهم، فقد كان القوم في تلك الآونة ينشدون تلك الوحدة التي كانت لأمراء يستمدون وجودهم من وراء مختلف الآلهة وعباداتهم، كما كان القوم يسعون أيضا نحو الحصول على طهارة الأنفس، وقد احتوت الديانة المسيحية - بالإضافة إلى شخصية السيد المسيح - على شيئين حيويين خلت منهما الديانة الهيلينية، ففي تلك الديانة بوجه عام، لم يكن يؤمن بعقيدة الخلود في عالم آخر إلا قلة من الأخيار المحسنين، أو جماعة من المطلعين على أسرار بعض الديانات ذات الطقوس السرية، التي تعلق بها الناس إذ ذاك؛ أي لم تكن عقيدة الإنسانية عامة، ولم يكن حب الإنسانية أساس أية عقيدة هيلينية، كما لم تحمل واحدة منها رسالة إلى البائس، والمسكين، والخاطئ، والمسيء.
وقد كان مذهب الرواقيين أقرب المذاهب إلى ذلك المثل الأعلى الإنساني، ولكننا لا نجده يفسح مكانا للمحبة، ولذا لم يكن للعاملين المرهقين المثقلين إلا أن يضعوا الرجاء في شيء آخر، لم تستطع العقائد الهيلينية أن تقدمه إليهم، ولكن ينبغي علينا أن نذكر في الوقت نفسه إسهام التفكير الإغريقي والتفكير اليهودي بنصيب وافر في ميدان الفلسفة والتصوف، في المحاولة التي قام بها الآباء المسيحيون الأولون في مدينة الإسكندرية وغيرها، لعرض الحقائق المسيحية، إسهاما يقوم على النظر العقلي، ويستسيغه العقل، لا لتعليم المؤمنين المسيحية فحسب، بل لتعليمها الوثنيين الذين أشربوا الفلسفة اليونانية أيضا.
ويكفينا أن نذكر في هذا الصدد مدرسة التعليم الديني الشهيرة بالإسكندرية، والاسمين اللذين طبقت شهرتهما الآفاق: «كليمنت وأوريجين»، ويجدر بنا ألا نغفل أهمية ما أسدته اللغة اليونانية في سبيل نشر المسيحية، فالكلمات الأساسية كافة في العقيدة المسيحية يونانية الأصل: المسيح (كريست)، والتعميد «بابتيزم»، والأفخارستي والدياكون والقس (برست)، والمطران (بيثوب)، والرسول (أبوسل) والإنجيل.
وسأشرح بعد قليل ما كان لليونانية من أثر في تكوين اللغة القبطية والكنيسة القبطية.
أما البيئة الأخرى، بيئة الإيمان المصري الخالص، والرجاء المصري الصميم، فتختلف كل الاختلاف عن البيئة الحضارية التي وصفتها، فقد كان شغلها الشاغل إقامة الشعائر التي تطلبتها عبادة أوزيريس. وتقوم تلك العقيدة على توجيه الإيمان، وتوجيه الطقوس؛ للحصول على البعث بعد الموت بفضل أوزيريس، الذي بعث حيا بعد أن أرداه الشر قتيلا؛ ولذا كان هم المؤمن المصري أن يؤدي الطقوس السحرية التي بها تغلب أوزيريس على الموت، ولو أن الوازع الخلقي لم يغب عن المؤمنين المصريين، فقد آمنوا أيضا بالحساب والميزان يسبقان نعيم الأخرى، فلم يكن عجبا إذن أن تلقى المسيحية، وقد نادت بالمخلص الذي قهر الموت أذنا صاغية ولقاء حسنا، وكان من عظمة المسيحية أنها لم تجتذب إليها الطبقة الوسطى الدنيا، والطبقة الوسطى العليا فحسب، بل إنها كانت العقيدة التي اعتنقها عامة الشعب في الحضر والريف بحرارة وإيمان.
ومن دلائل سرعة انتشار الرسالة المسيحية بين المصريين، الحاجة الماسة إلى ترجمة كتب العهد الجديد إلى اللهجات القبطية السائدة في البلاد، ويبدو أن اللهجة المسماة «بالبحيرية» هي التي أصبحت اللهجة الرسمية للكنيسة القبطية.
ولكن إلى جانب الكتب المقدسة الرسمية، نبتت وفرة كثيرة من الكتابات الدينية غير الرسمية، كان يقصد بها أولا وقبل كل شيء إيجاد مادة قراءة الشعب، كسير العذراء ومناقبها، وروايات تتعلق برسالة المسيح وعذابه. هذا، وإنا لنستطيع الإسهاب في موضوع استمرار الروح المصرية - وخاصة روح الفلاح - وطموحها وأمانيها الروحية، ولكن يكفينا في هذا أن نقتبس تلك الجملة من كتابات هارناسك مؤرخ العقيدة:
إن المسيحية قد لاءمت في مصر بين خصائصها وبين خصائص الدين القديم الأساسية لمدى أوسع مما شهدناه في أي بلد آخر، اللهم إلا إذا استثنينا بلاد اليونان، فإن كان أكثر المصريين قد أصبحوا عند منتصف القرن الرابع مسيحيين، فمرد ذلك إلى أنهم خلقوا لأنفسهم دينا قوميا من المسيحية، وذلك بأن لقحوا هذه الديانة ببقايا معتقداتهم القديمة وآمالها.
هذا وبالإضافة إلى تكوين اللغة القبطية بمعونة من اليونانية، يجب ألا نغفل نمو الفن القبطي، أو بمعنى أدق الفن المصري المسيحي، الذي وصلت بعض طرائقه وأساليبه من إيران عن طريق سوريا، والذي يمتد انتشاره جغرافيا إلى مدى فسيح يسترعي النظر، فقد ذكر «دالتون» في الدليل الذي وضعه عن أقدم الآثار المسيحية والبيزنطية في المتحف البريطاني، أنه عثر على آنية برونزية من طراز قبطي في مقابر إنجليزية سكسونية. هذا ولا يقل إشعاع الفن القبطي زمنيا عن انتشاره في أقطار الأرض، إذ إن طرائق الفن القبطي وأساليبه كانت عاملا من العوامل المؤثرة في فنون مصر الإسلامية وصناعاتها، وهذا دليل آخر على أهمية العنصر المسيحي في تكوين مصر.
هذا وإذا كان الفن القبطي تعبيرا عن الخصائص الدينية لمصر المسيحية، فإن نشأة حياة الرهبنة ونموها لهي وجه آخر من أوجه التعبير، يعتبره العلماء أكثر ما ساهم به الشعب المصري بروزا وجلاء في تراث المسيحية.
وإنا لنكتفي بالقول دون الدخول في التفاصيل أن الرهبنة بدأت بفرار الأفراد إلى البرية هربا من شرور العالم ورذائله، ثم أخذت شهرة بعض الصالحين النساك تجذب الناس إلى العيش بجوارهم، يلتمسون منهم الهداية، وكان ذلك حال «أنطونيوس» الشهير. ولكن يرجع الفضل في تنظيم الرهبنة إلى عبقرية «باخوميوس»؛ فقد كان للقواعد التي وضعها تأثير بالغ في نمو أنظمة الرهبنة في المسيحية الغربية وغيرها، ولكن الرهبنة في مصر لم تكن أمرا روحانيا صرفا، بل كانت عاملا في التطور الاجتماعي، والتطور الديني، فأثرت تبعا لذلك، في مصائر البلاد بأجمعها.
وقد انتظمت المسيحية في كنائس شكلت على طراز الأنظمة الرومانية الإمبراطورية، وتركزت الكنائس الرئيسية في مدن اشتهرت في التاريخ، كالإسكندرية، وأنطاكية، والقسطنطينية، وروما. وكان من شأن اختلاف الأمزجة القومية والمنافسات بين الأمم والأشخاص، أن نشأت اختلافات مذهبية، فنبت ذلك النقاش، وذاك الجدل الذي شاع وذاع بين أريوس وأثناسيوس في القرن الرابع، وانتهت تلك الجولة بأن قرر مجمع نيقية إدانة أريوس بالإلحاد (الهرطقة)، كما نشب خلاف آخر حول الأقاليم، كان من أثره انحياز الكنيسة المصرية - ومعها في ذلك كنائس شرقية أخرى - إلى رأي في طبيعة السيد المسيح يعرف بالمذهب المنوفيسي - أي الطبيعة الواحدة - وانحازت الكنيسة الإمبراطورية إلى قول آخر، وعمل هذا النزاع المذهبي وما صحبه من اضهطادات وإحن واضطرابات، وتدهور اقتصادي، على إضعاف الصلة التي كانت تربط البلاد بالإمبراطورية الرومانية، عند حدوث الفتح الإسلامي في القرن السابع.
وقد فسر المذهبان «المنوفيسي» و«النسطوري» على أنهما يمثلان احتجاج الشعوب الشرقية على السيطرة الهيلينية السياسية والاقتصادية والثقافية، وقد أشار هارناسك، الحجة الذي سبق لنا الاقتباس منه، إلى أن بطارقة الإسكندرية لم يقتصر طموحهم على السيطرة على الكنائس الرئيسية الأخرى، بل تعدى ذلك إلى التطلع إلى أن يجعلوا من مصر دولة دينية مستقلة. ويؤيد هذا ما ذهبت إليه الآنسة رويار المؤرخة الثقة للإدارة البيزنطية، من أن العرب الغزاة لم يروا في مصر إحدى ممتلكات بيزنطة، بل بدت لهم مملكة تكاد تكون مستقلة. هذا وبينما كان رهبان أديرة مصر من أبناء الفلاحين، يؤيدون الكنيسة القبطية في صراعها ضد أولي الأمر الحاكمين الأجانب، موظفين مدنيين وكنسيين، فإنه لا يمكن القول بأن تلك الأديرة كانت عنصرا من عناصر النظام أو الاستقرار في حياة الكنيسة الوطنية ذاتها.
وبالاختصار هذا هو مجمل القول في هذا الموضوع الكبير، وسأحاول في حديثي التالي وصف ما خلفه تراث مصر المسيحية لمصر الإسلامية.
وآمل أن أبين حينئذ أن خير طريق يسلكه اليوم مسلمو مصر ومسيحيوها على السواء لكي يفهموا أنفسهم، هو أن يعملوا على فهم الإسلام والمسيحية على حد سواء.
مصر والإسلام
غزت جيوش الخلافة مصر سنة 640 بعد الميلاد، وقطعت العلاقة التي كانت تربطها بالإمبراطورية الرومانية الشرقية، وبذا أصبحت مصر جزءا من دار الإسلام، إلا أن العملية التي أصبح بها المصريون مسلمين يتكلمون العربية نمت بالتدريج؛ إذ جاء انتشار الإسلام عن طريق اعتناق سكان البلاد المسيحيين الإسلام تدريجيا، كما جاء نتيجة لاستيطان الوافدين من بلاد العرب، وقد تمشى انتشار اللغة العربية مع انتشار الإسلام جنبا إلى جنب، إلا أن انتشار اللغة كان أشمل وأتم من انتشار الديانة، فهي لغة الأهلين كافة - المسلمين منهم والمسيحيين - على السواء.
ونستطيع أن نقسم تاريخ مصر الإسلامي على وجه العموم إلى فترتين مختلفتين كل الاختلاف في الطول، فالأولى تستغرق من منتصف القرن السابع حتى نهاية القرن الثامن عشر، بينما تشمل الثانية السنوات المائة والخمسين الأخيرة. وقد شهدت الفترة الأولى تكون ثقافة إسلامية، بلغت قدرا كبيرا من الاستقرار والتماسك، سواء في أيام ازدهارها أو في عصر انحطاطها، وسواء نظرنا إليها من وجهة بنائها الداخلي، أو من وجهة علاقاتها الخارجية. أما الفترة الثانية فقد شهدت إخضاع تلك الثقافة لدوافع وحركات من الشد والجذب، كانت ذات تأثير بليغ في كيانها، ولما كانت اتصالاتها بالحضارة الغربية هي المسئولة عن حدوث عوامل التغير؛ فإني سأتناول الفترة الثانية من تاريخ مصر الإسلامية في حديثي التالي - عن مصر والغرب - خاتمة هذه الأحاديث.
أما هذا الحديث فيتناول نشأة الثقافة الإسلامية، وبلوغها كمال نموها، وعلى أن أبدأ ببناة تلك الثقافة، فإن وفود العرب على البلاد كان إيذانا ببزوغ فجر عملية جديدة من عمليات بناء الأمة المصرية، فاجتذب الريف المصري رجال الصحراء إليه، وما زال حتى الآن يجتذبهم، وارتباط مصر بدار الإسلام فتح أبوابها - وبخاصة أبواب مدنها - للمستوطنين من البلدان الإسلامية الأخرى، وبخاصة من بلاد المغرب ومن فلسطين وسوريا، وقيام دول من المماليك، واعتماد تلك الدول على جيوش مؤلفة من أبناء الرق، أديا إلى قدوم جموع من الجواري والعبيد من مختلف العناصر والأجناس، من أتراك وشراكسة وصقالبة ومن إليهم، أضف إليهم مستوطنين من شتى السلالات الأفريقية، والآن نتساءل إلى أي مدى تمثلت الأمة تلك العناصر؟ إذا اتجه النظر إلى أهل الريف فإننا نجدهم - قديمهم وجديدهم - يستوون في الانتماء إلى طائفة من الفلاحين، بيد أن بين الفلاحين فروقا لا تخفى، ففلاحو الدلتا مختلفون عن فلاحي الصعيد، بل الاختلاف ظاهر من مديرية إلى أخرى.
أما في المدن فكان القادمون الجدد أميل إلى الارتباط ممن سبقهم من أبناء بلادهم، يزاولون ما يزاول هؤلاء من حرف أو أعمال، ومن وفد منهم إلى مصر للتعلم، فإنه يلحق بمعاهد الأزهر «أروقته» المخصصة لبني قومه أو لأهل مذهبه، ومن جاء للتجارة، فإنه يستقر في السوق المخصصة لسلعه ومتجره، أو سوق «الأمة» التي ينتمي إليها، ومع ذلك فلم تكن هناك حواجز تحول دون الاختلاط، فاختلط المسلمون الوافدون بالمسلمين من أهل البلاد، كما اختلط المسيحيون الذين جاءوا من الشام بالأقباط وغيرهم.
أما الطائفة التي بقيت بمعزل عن الأهلين، فقد كانت طائفة التجار الوافدين من أوروبا، وقد ظلت طائفة قليلة العدد نسبيا حتى نهاية القرن الثامن عشر، وكان مجال نشاطها قاصرا على تجارة الجملة، ولذا لم تتصل إلا بقليل من أهل البلاد، أغلبهم من الرعايا اليهود والمسيحيين، ولم يكن للأوروبيين حتى نهاية القرن الثامن عشر أية رسالة ثقافية، كما أنهم لم يتلقوا شيئا ما عن الأهلين، إلى جانب ذلك نشطت التجارة مع بقية العالم الإسلامي، ومع تلك البلدان فيما وراء البحار، في قارتي أفريقية وآسية التي وصل إليها نشاط التجار العرب وسفنهم، وهذا الاتصال المستمر المستديم بالعالم الخارجي، هو الذي يميز تاريخ مصر الإسلامية عن تاريخ مصر المسيحية، ومما يفسر هذا الفرق بين التاريخين أن مسيحيي مصر - فيما عدا فئة قليلة من العلماء - لم تجمعهم بالعالم المسيحي في الشرق والغرب لغة مشتركة كاللاتينية والسريانية، وكانت لغتهم القبطية وقفا عليهم وحدهم، بينما كان لدى مسلمي مصر ولسانهم - العربية - وسيلة المشاركة في حركة الثقافة الإسلامية.
ولكن هل تعني تلك المشاركة أن ليس لثقافة مصر الإسلامية ذاتية خاصة بها مميزة لها، وللإجابة على هذا السؤال نقول: إنه كان لمصر - شأنها في ذلك شأن الأقاليم الكبرى لدار الإسلام - ذاتيتها. ولكن، يجب أن نتذكر دائما أن احتفاظ مصر بذاتيتها، لم يكن من شأنه النزوع نحو العزلة أو الانطواء على النفس، بل كان يتجه نحو الملاءمة بين العناصر الثقافية المستوردة وبين بيئة خاصة، وهنا نقرر ما كان للعناصر المسيحية المصرية في البلاد من الأثر الكبير في إجراء تلك الملاءمة، سواء منهم في ذلك من احتفظ بمسيحيته أو تحول إلى الإسلام، فقد علموا الوافدين على البلاد كيف يعيشون تلك العيشة التي تلائم خير الملاءمة ظروف مصر، من حيث أساليب الزراعة وطرائقها، ونظام حيازة الأراضي ومسحها وريها، وما يستتبع هذا كله من نظم إدارية، وكذلك الصناعات القائمة على استخدام المواد الأولية التي بين أيديهم على أحسن ما يتفق وأحوال البلاد الطبيعية، هذا إلى جانب وضع الأنماط والرسوم التي ترضي أذواق الأهلين المتوارثة.
أما عن مساهمة الأقباط في الجانب العقلي من الثقافة الإسلامية، فأمر ليس من اليسير الكلام فيه، وإني لأرى أن من الأسلم لنا أن ندمج العنصر المسيحي المصري الخاص في مجموع ما ساهم به الفكر الهيليني، والفكر السرياني المسيحي في بناء صرح الثقافة الإسلامية عامة، ولا أستثني من هذا القول إلا شيئين؛ أولهما: أن ثمة ظروفا مصرية محلية أثرت في اتجاهات معينة للفقه الإسلامي، وثانيهما: هو أثر مساهمة الأدب الشعبي المصري القديم في الأدب الشعبي العربي.
ونتناول بعد ذلك باختصار موضوع «الذاتية» المصرية في حركة التاريخ الإسلامي، ونظرا إلى أن هذا الوجه من أوجه الثقافة هو أكثر استجابة لأثر البيئة الجغرافية؛ فإننا نلاحظ أن تطور مصر الإسلامية يجري على نسق خاص بها، بيد أن هذا الاتجاه كان في الوقت نفسه سريع التأثر بمبادئ الإسلام الأساسية، وبالحركات الإسلامية عامة، كما حدث أحيانا أن مصر لم تعد أن تكون مجرد أساس اتخذه من اتخذه للعمل على تحقيق غايات تخص مصر وغير مصر.
هذا وبينما أقرر صحة هذه التحفظات، فإنه من الواضح الجلي أن تاريخ مصر سار وتطور وفقا لخطوط تختلف اختلافا بينا عما سار عليه تاريخ العراق، أو تاريخ المغرب، ولم يكن شأن مصر ولاية ممتازة من ولايات الخلافة الإسلامية، أو الدولة العثمانية، شأن الولايات الأخرى، وكذلك لم يكن شأن مصر مقرا لخلافة شيعية، أو دولة من دول المماليك شأن الممالك الإسلامية الأخرى.
والآن يجدر بنا أن نتساءل: ترى كيف يمكن أن تقارن الثقافة الإسلامية التي نمت وترعرعت في بلادنا، بثقافة البلدان الإسلامية الأخرى؟ إن الرد على ذلك يمكن أن يلخص في العبارات الآتية:
إن ثقافتنا الإسلامية بلغت مستوى وسطا، فلم ترق إلى ما سمت إليه في ديار أخرى، كما لم تهبط إلى ما هبطت إليه في ديار أخرى. وإن أصالة ثقافتنا الإسلامية لترجع إلى تماسكها الشامل، وارتباطها المحكم أكثر من رجوعها إلى أي وجه خاص من أوجه الحياة الثقافية، فهي - مثلا - لم تنتج من الشعر الرفيع ما أنتج العراق، كما أن التفكير الفلسفي لم يزدهر عندنا بقدر ما ازدهر في الأقطار الشرقية من العالم الإسلامي. حقا إننا أسهمنا بقدر ذي شأن في نمو علوم اللغة والدين، ولكننا لم نخرج إلى الوجود ذلك النوع من الآراء الذي تقوم عليه المدارس والمذاهب، وقد ينطبق هذا القول على فن العمارة، فإنتاجنا جيد إلا أن الأسس تصلنا من الخارج. أما الوجه الثاني المميز لثقافتنا الإسلامية، فهو بقاؤها على الزمن، واستدامتها أطول مما دامت في البلدان الإسلامية الأخرى، أضف إلى ذلك أنها لم تتلق ضربات قاصمة، أو تصب بنكبات كالتي حلت بإخوان لنا في الدين، فمن ذلك أن مصر لم يصبها شيء يمكن أن يقارن بما حل بالمغرب على أيدي القبائل البدوية، أو بما لقيه الإسلام في إسبانيا من إبادة وإفناء، أو بما حل بالشام والعراق وما يجاوره من تدمير وخراب على أيدي المغول.
ولم يبدأ صرح حياتنا الثقافية في الاهتزاز والتخلخل إلا عندما دق الغرب على بابنا في نهاية القرن الثامن عشر، بحملة جيش من الغزاة الفرنسيين، وسوف أتناول شرح ذلك في حديثي التالي عن «مصر والغرب».
مصر والغرب
هذا آخر حديث في سلسلة أحاديثي، وهو يتناول تطور المجتمع المصري في السنوات المائة والخمسين الأخيرة، وهي فترة توثقت صلات البلاد خلالها بالغرب، وقبل أن أبين لكم الحقائق الكبرى لهذا الاتصال - كما أراها - أود أن ألفت أنظاركم إلى بعض الاتجاهات التي تسترعي النظر، ولا سبيل إلى إغفالها عند بحث هذا الموضوع. وأولى تلك الاتجاهات هي أن المؤلفين في هذا الموضوع يكتبون، كما لو أن الشعب المصري يتعين عليه أن يختار موقفا حاسما يلتزمه دون رجعة، وعلى أساس هذا الافتراض يشرع من نصبوا أنفسهم ناصحين لنا في الإفضاء إلينا بما يجب علينا اتباعه، فمنهم من يشير بأن نسير على نهج الحضارة الغربية في صميمها، أو في بهرجها، ومنهم من يعاوده الحنين إلى عصر رمسيس الثاني ، أو إلى عصر هارون الرشيد، أو إلى تقشف صدر الإسلام، أو إلى الجمع والخلط بين محاسن ما يمكن أن نلتقطه كافة من هنا أو من هناك.
ولا حاجة بي إلى أن أبين فساد هذا الافتراض، حقيقة إنه قد تحدث ظروف في تاريخ الجماعات يتعين فيها اتخاذ قرارات حاسمة، ولكن لم يحدث أبدا أن طرأ موقف كان لزاما فيه الانحياز إلى رأي نهائي، أو موقف محدد المعالم لا رجعة فيه، فالجماعات في تطور دائم، وكل ما في الأمر أن سرعة التطور تزيد في بعض الأحايين عنها في بعضها الآخر.
والاتجاه الثاني الذي يميل إليه بعض المؤلفين، هو الاعتقاد في أن ما يعتري مجتمعنا من أزمات ظاهرة خاصة بنا، والصواب أن الشعوب الأخرى تشترك معنا في هذه الحال، ومنهم الغربيون أنفسهم. اختر أية مشكلة، أو أية مسألة يختلف عليها الناس: مشكلة السكان، أو الأسرة، أو الطبقات، أو مدى تدخل الدولة، أو مسائل التصنيع، أو الاقتصاد الزراعي، أو المسائل المتعلقة بالديموقراطية بنوعيها الشعبي والبرلماني، أو تجريد الدولة من الصبغة الدينية، أو السيادة القومية المطلقة والنظام الدولي. ليس في هذه المسائل ما هو خاص بمصر أو بالغرب أو الشرق، فكلها مسائل نابتة من صميم العصر الذي نعيش فيه، وكل ما هنالك أن هذه المسائل ومثيلاتها تتخذ أوضاعا مختلفة في مختلف المجتمعات، كما أن من هذه المشكلات ما قد يكون أكثر ضغطا وأشد إلحاحا في بعض المجتمعات عنه في بعضها الآخر.
وفي المقام الثالث ميل الكتاب إلى أن يضعوا مصر مواجهة لمجتمع غربي ثابت. والواقع أنه قد طرأ على الغرب من التحول خلال المائة والخمسين سنة الماضية، ما هو أبعد مدى مما انتاب مصر خلال تلك الفترة، ومن رأيي أن توهمهم وجود غرب ثابت لا يتحول أو يتحرك، أو على الأقل فيما يختص بعلاقته بنا، يرجع إلى سببين:
أولهما:
أن السياسة التي تسير عليها الدول الأوروبية نحونا بالفعل، لم تكن عادة مما يتجاوب تجاوبا ناجزا وما كان يحدث في أوروبا من تطور اجتماعي. لا، بل بلغ الأمر أن كانت تلك السياسة تتعارض في بعض الأحايين تعارضا بينا ومبادئ العلاقات الاجتماعية السائدة في أوروبا.
وثاني السببين:
هو أن الأثر الذي تتركه فترة من فترات الاتصال بأوروبا في أذهان قومنا، قد يبقى طويلا بعد أن تطوى حوادث تلك الفترة في سجل النسيان، وأتخيل، على سبيل المثال، أن مرور الفرنسيين من جند ومدنيين - خلال احتلالهم لبلادنا عند نهاية القرن الثامن عشر - في مدننا وريفنا أثر في آراء المصريين كافة، لجيل أو لجيلين، عن الفرنسيين، لا بل عن الفرنجة أو الأوروبيين كافة.
وقد كان هؤلاء الفرنسيون أول الغربيين الذين اتصلنا بهم في العصور الحديثة، وقصة غزوهم مصر - إذا نظرنا إليها من الناحية الضيقة المحدودة - لا تعدو أن تكون فصلا من فصول المنازعات والمنافسات التي شبت في عصر الثورة، وبخاصة المنافسة بين إنجلترا وفرنسا، ولكن إذا نظرنا إلى الأمر من ناحية أكثر عمقا وأبعد مدى، رأينا أن الحملة الفرنسية كانت نتيجة لثلاث ثورات أوروبية: الثورة العلمية، والثورة الصناعية، والثورة الفرنسية. فالثورة العلمية بعثت نظرا جديدا في عالم الطبيعة والمجتمع الإنساني، والثورة الاقتصادية بعثت دوافع جديدة لوضع موارد الأرض كلها تحت تصرف الرجل الأوروبي، والثورة الفرنسية بعثت إدراكا جديدا لمبادئ التنظيم القومي. كانت هذه الأشياء العوامل التي فتحت عهدا جديدا في تاريخ التوسع الغربي، فكان لا بد للأوروبيين من أن يملكوا أوطان الجماعات الإسلامية والآسيوية، أو أن يسيطروا عليها، أو أن يوجهوها؛ ليبعثوها من جديد فتولي وجهها نحو الغرب وتسير في فلكه، وتصبح بذلك شيئا نافعا للغرب.
ومعنى نفعها للغرب عند الغرب، أنها عندئذ تنفع نفسها أيضا، وتنفع العالم بأسره. بيد أن اندماج تلك الشعوب في الغرب اندماجا كاملا لم يكن مستحبا لسببين؛ إذ إنه يمكن أن يعتبر مناقضا للمواثيق التي تعهد بها القوم أن يحترموا عقائد المصريين الدينية وعاداتهم، وثانيا: أنه لم يكن هناك سبيل إلى تحقيقه، وحتى لو كان ذلك ميسرا لما كان في جانب مصلحة الحكام الأوروبيين أو المحكومين.
وكان الاحتلال الفرنسي قصير الأمد، بيد أن نتائجه وعواقبه كانت بعيدة الأثر في التاريخ؛ إذ كان هذا الاحتلال حافزا لولاة مصر في البدء على عملية عمارة وإنشاء بوسائلهم وطرائقهم الخاصة.
وقد تشكلت تلك الطرائق وفقا لآراء الحكام الشخصية في السياسة والاجتماع ومثلهم العليا، ووفقا لطبيعة الظروف المحلية - مادية كانت أو أدبية - فضلا عن تأثير القيود المفروضة على سلطتهم الفعلية. وهذه القيود فرضتها السيادة العثمانية ومصالح الأوروبيين، وما كان يجري بينهم من منافسات؛ ولذا كان الإنشاء واسع النطاق ومحدودا في آن واحد، كان يتسم بالفخامة والضعة معا، وكان أن أورثنا ذلك العهد من تاريخنا مبادئ استقرت أساسا لكياننا القومي، أوردها فيما يأتي:
أن مصر هي القلب النابض لمجال حيوي يمتد إلى ما وراء حدودها، أن التجديد شعار المجتمع، أن الموارد تعبأ، وأن المجتمع يخضع لسلطان موحد.
ولكن كان ينبغي لكي تؤتي هذه المبادئ ثمرتها أن يعامل الفرد المعاملة الخليقة بالمواطن، فإن إخضاع الشعب لسلطة عليا لا تخضع لسلطان القانون، كان معناه إخضاعه لقوة غشوم مدمرة توجهها الأهواء، كما أن تعبئة موارد البلاد دون وازع من الإنصاف أو التقدير للاعتبارات الإنسانية، لم يؤد إلى ثراء الأمة ورخائها، بل أدى إلى تقوية شهوة القلة الوطنية والأجنبية المستغلة، وإشباع نهم طائفة لا قلب لها ولا ضمير، كما أن سطحية نظام التعليم واتجاهه نحو أهداف نفعية ضيقة لم ينشئ فريقا من «الصفوة الفاضلة»، بل خلق أدوات إدارية فاسدة لا تحسن أداء ما عهد إليها به.
ويجب أن أضيف إلى ذلك القصور وتلك العيوب، مشكلات الأزمات الدبلوماسية والمنافسات الدولية، وما يصحبها من قلق واضطراب، ومشكلات رأس المال الأجنبي والمستوطنين من الأجانب، الساعين إلى شق طريق الرزق في البلاد.
لقد انهار النظام الخديوي في العقود الأخيرة من القرن الغابر؛ ومن ثم سارت سفينة الدولة على غير هدى وفي مهاب الريح حتى ارتطمت بالصخور، ونجحت دولة أوروبية في فرض سيطرتها وجمع أزمة الأمور في يديها؛ هي إنجلترا.
ولو كان لسياسة الاحتلال البريطاني في مصر أن تتخذ لها شعارا، لقدمت لها جملة طالما تكررت في كتابات كرومر، ألا وهي: «بقدر معلوم»، فيجب أن يكون لنا نصيب من كل شيء بقدر معلوم، نصيب من الاستقلال، ومن الولاية العثمانية، ومن الصلة بيريطانية، ونصيب في السودان، ونصيب من الحكم الشخصي، ومن أنظمة الحكم الذاتي، ونصيب من الرقي الثقافي والاقتصادي وهلم جرا.
ولم يكن الهدف الرئيسي الذي وضعه كرومر نصب عينيه أن يجعل مصر للمصريين، وقال إنه لم يكن واثقا مما يعني ذلك، بل مصر لسكانها كافة، ومن الجلي أن مصرا من هذا النوع لا بد لها من وجود قوة تقوم بدور الوساطة في النزاع المحتوم بين الأجناس والمصالح؛ أي تقوم في الواقع بدور الرجل القوي الفيصل الذي شهدته مدن القرون الوسطى المضطربة، وبالطبع لا بد أن تكون تلك القوة هي إنجلترا.
بيد أنه غاب عن بال كرومر تماما، أن التسوية النهائية لأمر مصر ستكون مع شعب مصر، وهذا هو المعنى الذي انطوت عليه ثورة عام 1919، بيد أن الآمال التي ولدتها ثورة 1919 في بعث قومي جديد لم تتحقق، فلم تكن لدينا شجاعة الإيمان بما كنا ننادي به ونجهر، فمنحنا الشعب كاملا، وكنا أنانيين، وكانت المعاذير التي كنا نتذرع بها لإخفاقنا أقل مما كان يلتمسه آباؤنا عام 1882؛ لأننا شيدنا على ما تركوه وراءهم، وكان في وسعنا أن نتعلم من أخطائهم، ولكن مع ذلك لا ينبغي أن نغفل عما واجهنا من صعاب، فقد كنا نسعى جهدنا في آن واحد، وقد حاولنا القيام بذلك، بينما كنا نخشى أن تمتد إلى شعبنا الدعوات الأوروبية الجديدة القائمة في الروسيا وإيطاليا وألمانيا، فترددنا في تعبئة مواردنا الحية والمعنوية، وترتب على ذلك أن حذونا حذو كرومر؛ أي إننا حاولنا الحصول على شيء من كل شيء بقدر معلوم، شيء من المحافظة على التقاليد مع مسايرة روح العصر، وقدر من الرأسمالية، وقدر من الاشتراكية على السواء، وقدر من الزهو والتظاهر، مع مقدار من عدم الاعتداد بالنفس.
وقد شهدنا كما شهد آباؤنا «انهيار الحكم» مع هذا الفارق، وهو أن انهيار 1882 أعقبه الاحتلال البريطاني، بينما الانهيار الذي حدث في زماننا خلف لنا مولد الجمهورية المصرية، وإن مجرد الاسم في ذاته ليحمل في طياته برنامجا كاملا للإنشاء على أساس المبدأ القائل بأن أكبر مقدار من السعادة يجب أن يحقق لأكبر عدد من الأهلين. وإن خير تعريف تتخذه الجمهورية المصرية لنفسها في العصر الذي نعيش فيه، لهو ما قاله الفيلسوف «برك»:
لا يجب اعتبار الدولة شيئا أفضل من كونها اتفاقا على المشاركة في المنافع، بل هي مشاركة في العلوم كافة، ومشاركة في الفنون كافة، ومشاركة في الفضائل كافة، وفي الكمال كله.
ناپیژندل شوی مخ