فرع: ومن بدع المداهنة عندي التعبد لغير الله تعالى، في المحاورة، والمكاتبة، وما قد أطبق عليه أكثر الناس من المكاتبة، بأقل العبيد، وأصغر المماليك على مراتبه المعروفة، فإنه حادث مبتدع ابتدعه من خالط المسلمين إلى بلاد العجم، ورأى ما تعامل به ملوكها من ذلك، وهو بقية من عبادتهم إياهم، وكان حدوثه في الدولة الأموية وقت الوليد الخليع، فإنه نهى أن يخاطب أو يكاتب بمثل ما يخاطب به الناس، وضرب رجلا بسبب ذلك حتى مات، ولم يكن منه شيء [في ] عهده صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا عهد الخلفاء الراشدين بعده صلى الله عليه وآله وسلم ، بل كان صدر مكاتباتهم بعد التسمية: من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان، سلام عليك، وإني أحمد الله إليك، وأعرفك بكذا، ولم يزل كذلك حتى حدثت هذه البدعة، وقد قدمنا في كتاب الملل ما رواه سليمان بن أرقم، حيث قال: شهدت الحسن - يعني البصري- إذ جاءه كتاب عمر بن عبد العزيز : ( أما بعد: فإنه بلغني أنك تقول في القدر قولا، فاكتب إلي برأيك فيه) فقال لعبد الله ابنه: اكتب: من الحسن بن أبي الحسن إلى عمر بن عبد العزيز، فقال له ابنه تبدأ باسمك قبل اسمه فقال: إنه من السنة، كذلك كانت السنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأبي بكر وعمر)، ودليل كون هذا البدعة مكروهة إن لم تكن قبيحة محرمة قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من ملك عبدا أو أمة فلا يقل عبدي ولا أمتي، وليقل فتاي أو فتاتي، فإن العباد عباد الله والإماء إماؤه)) أو كما قال: والنهي يقتضي القبيح إلا لقرينة، وإذا نهي عن ذلك وهو في حق المملوك، فالحر أولى، فإذا قبح أن يقول للمملوك: أنت عبدي، قبح أن يقول للحر: أنا عبدك، أو أقل عبيدك، وهو وإن كان مجازا واستعمال المجاز جائز، فقد ورد النهي عن إطلاق لفظ التعبد لغير الله، فوجب امتثاله، وأكثر ما سمي العبد في القرآن فتى، قال الله تعالى:?من فتياتكم المؤمنات?[[النساء:25]، فسمى الإماء فتيات، وقوله تعالى:?وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم?[يوسف:62]، وقوله:?تراود فتاها عن نفسه?[يوسف:30]، ونحوها، وأما قوله تعالى:?وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم?[النور:32]، فهو لا يكفي جواز اطلاق هذا اللفظ منا بعد ورود النهي عنه، لأنه يجوز من الله سبحانه ما لا يجوز منا، ألا ترى أنه يجوز من الله تعالى أن يقسم بالمخلوقات من السماء والطارق وغيرهما، ولا يحسن منا للنهي، فكذلك هذا لا يقال: قد أجمع المسلمون على جواز استعماله ولم يمنعه أحد، لأنا نقول إجماع أهل العصر ممنوع، فإنه بلغنا أن بعض الفضلاء كان يترك المكاتبة تحرجا مما استعمله الناس من هذه البدعة، ولو يمكنه المكاتبة بغيرها لئلا ينسب إلى التكبر، ثم إنه لم ينقل الإجماع تواترا ولا آحادا، وإنما ذلك قياس للغائبين على الحاضرين من دون طريقة ناظمة.
مخ ۶۱