الفقه الاصطلاحي
اعلم أن الفقه الاصطلاحي: هو العلم بالأحكام الشرعية، وإنما تكلم المصنفون في الفروع منه على أحكام أفعال الجوارح دون أفعال القلوب، وقد جعل الله تعالى محرماتها شطرا، حيث قال تعالى: ?وذروا ظاهر الإثم وباطنه?[الأنعام:120]والباطنة: هي مآثم القلوب في أصح التفسيرات، فوجب أن نجعل لها في أبواب علم الحلال والحرام بابا يتضمن تفصيلها بحقائقها وتفريعاتها، وتمييز حلالها من حرامها؛ ليمكن التحرز من الإثم الباطن كالظاهر، وهذا الباب أهم من غيره، إذ لا يعرى مكلف بالشرعيات عن التكليف به.
مخ ۲۲
فصل:[جملة ما ورد الشرع بتحريمه من أفعال القلوب]
وجملة ما ورد الشرع بتحريمه منها سبعة عشر نوعا وهي: الكبر وما يتفرع منه، والعجب كذلك، والرياء كذلك، والمباهاة كذلك، والمكاثرة كذلك، والحسد كذلك، والغل كذلك، وظن السوء كذلك، والمعاداة كذلك، والموالاة كذلك والحمية كذلك، والمداهنة كذلك، وحب الدنيا كذلك، والجبن والبخل كذلك، وما يتصل بهما من السرف والتقتير، والزهو والفرح كذلك، ويلحق بذلك بيان الخطر المخوف بعد حصول العلم والعمل والاخلاص، فلنفرد لكل من ذلك فصلا.
مخ ۲۳
فصل:[الكبر]
الكبر: هو اعتقاد مطلق غير علم أن النفس تستحق من التعظيم فوق ما يستحقه غيرها ممن لا يعلم استحقاقه الإهانة، ودليل كونه من أفعال القلوب، قوله تعالى: ?إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه?[غافر:56].
والتكبر: هو أن ينضم إلى هذا الاعتقاد قولا أو فعلا أو تركا، تنبئ على حصوله كقول إبليس لعنه الله:?أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين?[الأعراف:12]، فأنبأ عن اعتقاده أنه يستحق من التعظيم فوق ما يستحقه آدم عليه السلام، ومن ثم قال تعالى: ?فما يكون لك أن تتكبر فيها?[الأعراف:13]، ومن ثم فسرنا التكبر بذلك.
لأن التكبر في اللغة: دعوى الأكبرية في القدر، لا الجسم اتفاقا ولا معنى للأكبرية في القدر إلا ما ذكرناه قطعا، إذ لا يحتمل غيره عند السبر.
وأما الكبرياء: فهو استحقاق أعلى مراتب التعظيم فلا يوصف به إلا الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى: (وله الكبرياء في السموات والارض) وقوله تعالى: (والكبرياء ردائي) .
مخ ۲۴
فرع: والتكبر قبيح عقلا لصدوره اعتقاد أمر جهل وشرعا للاجماع، والوعيد عليه كقوله تعالى:?فبئس مثوى المتكبرين?[غافر:76]، ونحوها، ومنه: الاستخفاف بمن لا يعلم فسقه، والترفع عن بعض ما يستحقه الوالد والامام والعالم من التعظيم كما كان ترفع إبليس عن بعض ما يستحقه آدم تكبرا، وما من مرتبة في التعظيم الا ويستحقها هؤلاء، مع صلاحهم الا ما انفرد الله به سبحانه باستحقاقه كالسجود، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد)) فنبه على أن ما دون السجود من التعظيمات مستحق للزوج على الزوجة، والعالم على المتعلم، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم حاكيا عن الله تعالى: ((من أراد أن يكرمني فليكرم أحبائي)) أراد العلماء، كما صرح به في آخر الخبر والإمام أعظم حقا لأنه أمر بطاعته كما أمر بطاعة الرسول حيث قال تعالى:?وأولي الأمر منكم?[النساء:59]، ولم يكن مثل ذلك في حق الوالد والعالم، وقال الله تعالى:?تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا? [النور:63]، والإمام قائم مقامه، نعم فالترفع عن بعض ما يستحقه هؤلاء من التعظيم تكبر كتكبر إبليس عما أمر به، فأما لو تركه تسامحا لا ترفعا، مع عزمه على فعله لو اتهم بالأنفة عنه فليس تكبرا، اذ لا يتضيق عليه إلا عند التهمة، ومنه الترفع عن طلب العلم ممن هو أصغر منه سنا أو أقل جاها، والأنفة عن الجواب بلا أدري، حيث لا يعلم الجواب الموافق للحق، وعليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من ترك العلم)) الخبر ونحوه، ولتضمنه الأنفة عن تعظيم المعلم حينئذ، فكان تكبرا كتكبر إبليس، ومنه الزهو، وهو التبختر في المشي إذ لا يفعله عادة إلا المتكبرون، ومن تشبه بقوم فهو منهم، وجر الذيل بطرا، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من جر إزاره بطرا)) الخبر، ويجوز الزهو للمرأة، إذ تحسن به عين بعلها، ومن ثم قال علي عليه السلام: ((خير خصال النساء شر خصال الرجال الزهو والجبن والبخل)) وقد يحسن الزهو من الرجل، وذلك عند لقاء العدو، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم حين تبتختر أبو دجانة عند بروزه للقتال: ((إن هذه لمشية يبغضها الله تعالى إلا في مثل هذا الموطن)) ومنه تكلف التصدر في المجالس واختيارها ترفعا وطلب مرتبة في التعظيم لا يستحقها.
وقد قال علي عليه السلام (ما هلك امرؤ عرف قدر نفسه) ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تخطي الرقاب إلى أعلى المجالس، وكذلك طلب القرب الى مجلس السلطان ليشرف به.
فرع: وليس منه الترفع عن مجالسة الأرذال والسقط المتلبسين بالقبائح، لجواز الاستخفاف بهم، لا عن مجالسة المساكين الأتقياء فتكبر ققوله تعالى:?واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم?[الكهف:28] إلى قوله تعالى:?ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا?[الكهف:28]، نزلت فيمن ترفع عن مجالستهم.
فرع: وليس منه الأنفة عن الدخول في مهنة يسترذل صاحبها في جهتها كالحياكة، ونحوها في بعض النواحي لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه)) ((إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها)) ولا التحشم عن دخول الأسواق، وخدمة نفسه وأهل بيته [إن لم] يجد من يخدمه ويخشى من فعلها استخفاف الجهال به سيما حيث في حط مرتبته مفسدة في أمره بالمعروف، أو نهيه عن المنكر فان وجد من نفسه ترك ذلك تكبرا، لا لهذه المصلحة، بل استعظاما لزمه، كبيع النفس وإهانتها بفعلها، وكذلك ما لو خشي أن يقتدي به جاهل في الترفع عن ذلك لا لمصلحة بل استعظاما، لم يحسن تركها.
مخ ۲۶
فرع: ولا يقبح التكبر على ذوي التكبر والتجبر لقوله تعالى: ?وليجدوا فيكم غلظة?[التوبة:123]، وقول علي عليه السلام ما معناه: (إن التكبر على ذوي التكبر تواضع عند الله) أو كما قال، وقد نبه صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك حيث قال: ((من تضعضع لغني لأجل غناه)) الخبر.
مخ ۲۷
[جواز مدح النفس لإظهار نعمة الله تعالى]
فرع: وليس من التكبر مدح النفس بما هو فيها لا على جهة الإفتخار، بل لإظهار نعمة الله تعالى عليها أو ليهتدى بهديها، أو لئلا يستخف بها ما لم يصدر عن الاعتقاد المذكور في حقيقة الكبر. وقد وقع ذلك عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، حيث قال: ((أنا سيد ولد آدم)) ونحوه، ومن علي عليه السلام حيث قال: (والله لو ثنيت لي الوسادة) الخبر ونحوه، ومن كثير من الأئمة وعلماء الأمة ومن قول الشافعي:
ولست بإمعة في الرجال .... أسائل هذا وذا ما الخبر؟
فأما قوله تعالى:?فلا تزكوا أنفسكم?[النجم:32]، فالمعنى: لا تحكموا لها بالطهارة من كل ذنب، فذلك لا يمكن أن يخبر به عن علم سيما غير المعصوم، وقد مر في ديباجة الكتاب، وقد يحسن ذلك أيضا إرهابا على أعداء الله وإيغارا لصدورهم كما كان منه صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين حيث قال : ((أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)) ومنه ما كان من الإمام المنصور بالله في كثير من أشعاره كقوله عليه السلام:
أينكر حقي برجم الظنون .... وهل ينكر الخلق ضوء القمر
ألست الذي شق برد الضلال .... بفكر يشق الحصى والشعر
وغيرذلك منه، ومن الأئمة عليهم السلام كثير، والأعمال بالنيات.
مخ ۲۸
[أمور ليست من الكبر]
فرع: وليس من الكبر قعود الإمام، أو أميره وبعض أعوانه قائم على رأسه تهيبا، لفعله صلى الله عليه وآله وسلم يوم صلح الحديبية، والخبر الوارد في ذم ذلك منصرف الى من يفعله تكبرا وتجبرا، ولا اتخاذ حاجب عليه، إذ اتخذ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنسا لحجابته، ورد عليا عليه السلام في خبر الطير ولم ينكر عليه، ولا اتخاذ خادم يلبسه نعليه ويحفظهما له اذا خلعهما، إذ كان ابن مسعود يتولى ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا عدم إنكار تقبيل قدمه، إذ لم ينكره على أهل غزوة مؤتة يوم رجوعهم.
مخ ۲۹
فصل:[العجب]
والعجب: مسرة بحصول أمر يصحبها تطاول على من لم يحصل بقول أو ما في حكمه من فعل أو ترك أو اعتقاد، وقد ورد الشرع بتحريمه في قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أعظم من ذلك) ، حتى قيل أنه من محبطات الطاعة، والإجماع على قبحه، ومنه ما روى أن بعض الصحابة رضي الله عنهم يوم غزوة حنين رأى جنود المسلمين فقال: ( لن نؤتى اليوم من قلة ) فقال تعالى: ?ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا?[التوبة:25]، الآية، فتضمن كلامه التطاول بكون جندهم أكثر من جند خصومهم الذين خرجوا لقتالهم مع ما حصل له من المسرة بذلك والقصة مشهورة.
فرع: والقبيح في التحقيق إنما هو أمران يصحبان المسرة، أحدهما: قول أو فعل يوهم التطاول، والفخر على من لم يحصل له مثل ذلك. وثانيهما: أن يعتقد أنه يستحق لأجل ذلك المحصول أن يعظمه الناس أو منزلة رفيعة عند الله تعالى على سبيل القطع، فيؤول إلى الكبر حينئذ، فأما مجرد المسرة فلا يمكن دفعها، فلا قبح فيها.
فرع: ولا فرق بين أن تكون تلك الخصلة التي حصل بها الاعجاب إضطرارية كجمال، أو فصاحة، أو كثرة عشيرة، أو مال، أو بنين، أم إختيارية كإقدام، أو كثرة علم، أو طاعة، أو نحو ذلك، فإن العجب بذلك كله قبيح شرعا، ولا أعرف فيه خلافا، ومنه ماحكاه الله سبحانه من قول فرعون:?أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي?[الزخرف:51]، متطاولا بذلك على موسى عليه السلام حيث لم يحصل له مثله، ونظائر ذلك كثيرة.
مخ ۳۰
فصل:[الرياء]
والرياء: ممدود فعال بكسرة الفاء، مصدر فاعل بفتح العين رأي رياء ومراءاة، كقاتل قتالا ومقاتلة، وهو من الرؤية، قلبت الهمزة ياء كما يقتضيه قانون التصريف.
وهو في اللغة: عبارة عن فعل أمر من الأمور المستحسنة، لا لغرض، سوى أن يراه غيره عليه طلبا للثناء أو غيره من تورية، أو نحوها.
وأما في الشرع : فهو أن يفعل طاعة، أو يترك معصية مريدا بذلك حصول شرف في الدنيا بثناء أو غيره، وسواء أراد مع ذلك التقرب إلى الله تعالى أم لا، فإنه رياء شرعي بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم لمن سأله عن قصد مجموع هذين الأمرين: (لا شريك لله في عبادته) حتى نزل قوله تعالى:?ولا يشرك بعبادة ربه أحدا?[الكهف:110]، وأدلة تحريمه شرعا الاجماع، وقوله تعالى:?يراءون الناس?[النساء:142] ?كالذي ينفق ماله رئاء الناس? [البقرة:264] ونحوها.
فرع: وليس من شرط الإخلاص في العبادة كراهة الثناء عليها، وكراهة أن لا يطلع عليها غير الله تعالى، بل أن لا يريدهما، فالإخلاص: هو أن يفعل الطاعة أو يترك المعصية للوجه المشروع غير مريد الثناء على ذلك، فهذا هو الاخلاص لأنه نقيض الرياء كما نبه الله تعالى على ذلك:? إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا? [الإنسان:9]، فجعل إخلاصهم عدم إرادة الجزاء والشكر لا كراهتهما، لايقال إن لم يرده فهو كاره له، لأنا نقول: قد لا يريد الشيء، ولا يكرهه كما هو مقرر في علم الكلام.
مخ ۳۱
[الطاعة الخالصة]
فرع: فلو فعل الطاعة أو ترك المعصية للوجه المشروع غير مريد أن يراه غيره فيثني عليه فهو مخلص قطعا، سيما إذا اجتهد في كتمانها، فمن البعيد أن يجتهد في الكتمان، ويريد أن يطلع عليه، فأما لو خطر بباله محبة أن يطلع عليه وقد دافعه في العناية بالكتمان، فليس بمراء، مالم يفعل سببا للإطلاع من رفع الصوت بالتلاوة لهذا القصد، ونحو ذلك فإن فعل فمراء، وعليه يحمل الخبر المشهور فيمن أحب أن يطلع عليه وقد اجتهد في الكتمان، فإن الوسواس وشهوات النفس لا يمكن الاحتراز منها، بل الواجب المدافعة، وقد دافع بتحري الكتمان، وقد يحسن من العبد إظهار الطاعات لمصلحة نحو : أن يكون ممن يقتدى به فيفعله كفعله، فيكون إظهاره كالأمر بالمعروف، ومنه: أن يكون متهما برذيلة وهو منها بريء، وبإظهار طاعة تذهب التهمة فيكون إظهارها كالنهي عن المنكر، ونحو أن يكون في إظهارها تأكيد صحة توبته عند من اطلع منه على فعل معصية، وهذا لاحق بدفع التهمة، وإن لم يكن ثم تهمة بل تأكيد لتصحيح التوبة، ونحو أن يكون بإظهار الطاعات نفوذ كلمته فيما يأمر به وينهى عنه، وقرب الناس إلى إجابة دعوته إلى الحق وإماتة الباطل فيكون كالأمر بالمعروف حينئذ، ونحو أن يحضر جماعة في مسجد أو غيره لانتظار صلاة أو نحو ذلك فيتطوعوا بتحية المسجد أو غيرها، وإذا ترك أحدهم التطوع نسب إلى التقصير والاستهانة بالخيرات فيحسن منه الدخول في مثل فعلهم دفعا لمثل هذه التهمة، ولا يبعد أن يجب عليه، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فلا يقفن مواقف التهم ) ونظائر ذلك كثير، والأعمال بالنيات.
مخ ۳۲
[التمدح بعمل الغير]
فرع: ومن الرياء أن يوهم أنه فعل فعلا ليحمد عليه ولم يفعله، وقد توعد الله على ذلك حيث قال تعالى:?ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب?[ [آل عمران:188] فأما لو أحب ذلك ولم يوهم أنه فعله، فالأقرب إنه قبيح أيضا لأنه محبة للكذب وما في حكمه.
مخ ۳۳
[التقليل من الأكل ليقال عنه]
فرع: ومن الرياء أن يرى أنه يأكل قليلا ليوصف بالقناعة والشهامة وقد ورد أن المرائي في أكله كالمرائي في دينه، ونحوه فأما من تركه إيثارا للغير، ولئلا يوصف بالنهم حيث رفع القوم وبقي فلا حرج في ذلك.
مخ ۳۴
فصل:[المباهاة]
والمباهاة نوع من الرياء مخصوص، وهي أن يجتهد في إظهار الخصال التي يشرف بها عند الناس طلبا للشرف والتعظيم كالمباهاة بحلق التدريس وكثرة أهلها، والانتصاب لها حيث يراه الناس طلبا للشرف عندهم وعرض الجاه فيهم لغرض دنيوي لا ديني، وقد ورد الوعيد على ذلك في الأثر عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((من سمع بعلمه سمع الله به كل سامع يوم القيامة)) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من طلب العلم ليصرف وجوه الناس إليه)) الخبر، ونحوهما كثير.
مخ ۳۵
فصل:[المكاثرة]
والمكاثرة نوع من المباهاة، إلا أنها تختص المكاثرة بالأعيان، كالمال، والرجال عشيرة، أو أتباعا، والمباهاة قد تكون بذلك أو بأي من الخصال المحمودة في الناس فهي أعم من المكاثرة، وكلاهما قبيح قال تعالى: ?ألهاكم التكاثر?[التكاثر:1] ولا خلاف في قبحهما.
فرع: ومن المباهاة التفيهق في المحافل بتكلف الكلام البليغ، وغرائب المسائل طلبا للشرف، وقد صرح صلى الله عليه وآله وسلم بتحريمه حيث قال: (الثرثارون المتفيهقون) .
والفيهقة: الكلام بملئ الشدق تبجحا، وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أنا أفصح من نطق بالضاد)) فإنما أراد الإخبار بنعمة الله عليه لا الحث على التفيهق في المجالس طلبا للشرف، فأما لو أراد الإتيان بالكلام تحريا للأوقع في النفوس في تأدية المعنى الذي قصده، لا يقال أنه بليغ فليس ذلك من التفيهق في شيء بل من المندوبات وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن من البيان لسحرا)) أي ياخذ في القلوب ويعمل فيها عمل السحر فندب صلى الله عليه وآله وسلم الى تحري أبلغ الفصاحة لهذا القصد.
مخ ۳۶
[المباهاة بقصد المصلحة]
فرع: نعم قد يحسن من العالم الخامل ما صورته المباهاة من العناية في ظهور علمه بإظهار التدريس والتكلم في المحافل في المسائل العويصة، ونحو ذلك ليقصده الناس فينتفعوا بعلمه ويرشدوا به، إذ يكون كالأمر بالمعروف ومنه قول يوسف عليه السلام: ?إني حفيظ عليم? [يوسف:55]، لا لمجرد الشرف والرئاسة لما مر.
فرع: فأما لو طلب بذلك دفع الاستخفاف به وحطه عن مرتبته التي يستحقها مثله حيث ينزله الناس منزلة من هو دونه فيحتمل الجواز لجريه مجرى النهي عن المنكر، وهو إضاعة حقه، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه)) لا يعرف الفضل لأهل الفضل، إلا أولوا الفضل ويحتمل التحريم، إذ ذلك نوع من طلب الشرف وقد نهي عنه، والأقرب الأول، ولا بأس بطلب القدر المستحق له من التشريف، إذ في تركه إستخفاف وهو حرام، ودفع الحرام واجب، ومن ثم سقطت عدالة من حط مرتبة نفسه بالأكل في السوق والبول في السكك ومجالسة الأرذال.
فرع : فأما لو قصد بإظهار علمه بعث الناس على مواساته بما يقوم بعائلته ويسد خلته من الحقوق التي يستحقها أو من خالص أموالهم، فالأقرب التحريم لجريه مجرى التكسب بالعبادة والعلم، وأخذ الأجر على ذلك، ويحتمل الجواز إن لم يقصد الشرف، كما يجوز الدخول في القضاء ليعود عليه بما يقوم بمؤنته كما مر، والأول أظهر.
مخ ۳۷
[التفاخر بالآباء والأقارب]
فرع: ومن المباهاة التفاخر بالآباء والأقارب الذين شرفوا بالدنيا لا بالدين، وقد قال تعالى:?إن أكرمكم عند الله أتقاكم?[الحجرات:13]، وقال عليه السلام: ((الناس كأسنان المشط، لا فضل لأحد على أحد إلا بتقوى الله تعالى)) فما من شرف بالدين فلا حرج في الافتخار به، إذ فيه رفع منارة الدين، وقد قال عليه السلام: ((أنا ابن الذبيحين)) ونحوه كثير، فأما الافتخار بكثرة الرجال عددا لا لأجل شرفهم، فهو من المكاثرة لا المباهاة.
مخ ۳۸
[التطاول في رفع البنيان]
فرع: ومن المكاثرة رفع البنيان وزخرفتها فوق القدر المحتاج إليه، لقصد التطاول على من لا يستطيع ذلك والترأس عليه، فأما لو قصد مجرد التلذذ برؤيته لحسنها وكبرها والتزين والتجمل بذلك فلا إشكال في الجواز، وقد قال تعالى: ?قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده? [الأعراف:32]، وقال تعالى:?لتركبوها وزينة? [النحل:8]، أي لتزينوا بها، وإن لم يحتج لركوب، وقال تعالى:?ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون?[النحل:6]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم ما معناه: (إن الله إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن يرى أثرها عليه).
وأما الآثار الواردة في رفع البنيان فمنصرفة إلى ما قصد فيه المكاثرة والمفاخرة، لا لمجرد التجمل فقد فعله كثير من الصحابة والتابعين والعلماء الراشدين، كالزبير بن العوام وابن المبارك، ومحمد بن الحسن رضي الله عنهم، لكن اللائق بمن يقتدى به الزهد في ذلك لئلا يقوى حرص العوام على الاشتغال بطلب الملاذ وجمع الأموال. فينشغلوا عن الآخرة بطلبها:
والصيد كل الصيد في جوف الفرا
ومن سن سنة حسنة كان له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
مخ ۳۹
فصل:[الحسد]
والحسد محرم شرعا إجماعا، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : (الحسد يأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب) الخبر ونحوه، وهو كراهة وصول النعم أو بقائها للغير، لا لوجه موجب من عداوة أو نحوها، ويجري مجرى الحسد على النعم الحسد على حسن الثناء ورفع الشأن.
فرع : فتجب مدافعته بتذكر قول الحكماء (الحسود غضبان على من لا ذنب له) ولا بأس أن يسأل الله أن يفعل له كما فعل للمحسود، لا تمني كونه له لقوله تعالى:?ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض?[النساء:32] ?واسألوا الله من فضله? [النساء:32]، ومحبة ذلك تسمى الغيرة، وقد ورد (الغيرة من الإيمان).
فرع: ويكون بالقلب كما ذكرنا، وبالقول كالوضع من المحسود بإنكار ما ينسب إليه من المكارم والتنبيه على عثراته المغفول عنها، لا لقصد التحذير بل لحط مرتبته التي حسده عليها، ومنه تكلف الطعن على عبارات المحسود من العلماء في مصنفاته مع احتمال التأويل، وتقبيح صناعاته فيها لا لقصد التنبيه، ومنه ترك التعريف بما يعرفه الحاسد من محاسن المحسود، أو إيراد الملغزات عليه، ليظهر غلطه فيها وعليه الخبر الذي رواه صاحب الفردوس: ((لا تقبلوا أقوال العلماء بعضهم على بعض، فإن حسدهم عدد نجوم السماء، وإن الله لا ينزع الحسد من قلوبهم حتى يدخلهم الجنة)) وهذا محمول على أنهم يتنبهون على ما صدر منهم فيتوبون أو كونه صغيرة بالنظر الى ثوابهم في الجنة، وفيه نظر.
مخ ۴۰
فصل:[الغل والحقد]
والغل والحقد بمعنى واحد، وقد نهى الله سبحانه عنه بقوله:?ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا? [الحشر:10]، ونحوها، وهو أمر متوسط بين الحسد والعداوة، وهو إرادة نزول ضرر بالمؤمن، أو فوت نفع عنه، فالحسد: كراهة المنفعة، والغل: إرادة نزول المضرة أو فوت المنفعة، والعداوة: هي الإرادة مع العزم على فعل الضرر بالعدو إن أمكن، والغل والحقد لا يصحبها عزم على فعل وإن أمكن فهذا هو الفارق بين الغل والحسد والعداوة.
مخ ۴۱
فصل:[ظن السوء]
وظن السوء: هو أن تظن بأخيك المسلم فعل القبيح، أو إخلالا بواجب من دون إقرار منه، ولا أمارة يوجب الشرع العمل بها كالشهادة العادلة الكاملة، وما يجري مجراها، ودليل تحريمه قوله تعالى:?اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم?[الحجرات:12]، وهذه الآية مجملة، بينها الله سبحانه في قوله تعالى:? لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء? [النور:13]، وقوله تعالى: ?واستشهدوا شهيدين من رجالكم?[البقرة:282]، وعن بعض الحكماء: (إياك وظن السوء فإنه لن يدع بينك وبين صديقك صلحا).
فرع: والاجماع على قبح هذا الظن وعلى وجوب التأويل حيث أمكن، وفي الأثر عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا رأيتم أحدكم في خصلة تستنكرونها، فتأولوا له نيفا وسبعين تأويلا، أو قال اثنين وسبعين تأويلا)) وهو مطابق لقول الله تعالى:?لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا?[النور:12]، أي طلبوا التأويل فظنوا الخير، إذ لا يمكن ظن الخير مع عدم التأويل.
مخ ۴۲