ويدخل في هذه الجماعة الأئمة الفقهاء: مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وابن حنبل.
وتشمل هذه الجماعة كذلك من أحاطوا علما بطرق الأخبار والسنن المأثورة عن النبي عليه السلام، كما تشمل من أحاطوا علما بأكثر أبواب الأدب والنحو والتصريف، وجروا على سمت أئمة اللغة، كالخليل وأبي عمرو بن العلاء وسيبويه وغيرهم من أئمة النحو، كوفيين كانوا أو بصريين، وكذلك تشمل من أحاطوا علما بوجوه قراءات القرآن، ووجوه تفسيره وتأويله وفق مذاهب أهل السنة دون تأويلات أهل الأهواء الضالة، وتشمل أيضا الزهاد الصوفية الذين أجروا كلامهم في طريق العبارة وفي طريق الإشارة على سمت أهل الحديث، دون من يشتري لهو الحديث، كما تشمل المجاهدين في سبيل الله الذين يقاتلون أعداء المسلمين.
تلكم هي الفئات التي تؤلف الفرقة الناجية - كما يذكرها عبد القاهر البغدادي - ولقد تعددت ميادين نشاطها، لكنها جميعا تلتقي في أركان أساسية، هي التي تكون ما يميز الفرقة الناجية من عذاب الآخرة، فما هي تلك الأركان التي أجمعوا عليها؟ يحصرها البغدادي في خمسة عشر، هي: إثبات الحقائق والعلوم، والعلم بحدوث العالم، ومعرفة صانع العالم وصفات ذاته، ومعرفة صفاته الأزلية، ومعرفة أسمائه وأوصافه، ومعرفة عدله وحكمته، ومعرفة رسله وأنبيائه، ومعرفة معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، ومعرفة ما أجمعت الأمة عليه من أركان شريعة الإسلام، ومعرفة أحكام الأمر والنهي والتكليف، ومعرفة فناء العباد وأحكامهم في المعاد، والخلافة والإمامة وشروط الزعامة، ومعرفة أحكام الإيمان والإسلام في الجملة، ومعرفة أحكام الأولياء ومراتب الأئمة الأتقياء، ومعرفة أحكام الأعداء من الكفرة وأهل الأهواء.
وبغض النظر عما في هذه الأقسام من تداخل واضح، نفترض أن مسلما معاصرا قد ألم بتفصيلات هذه الأقسام كلها إلماما كاملا وشاملا، فهل تكون الحصيلة النهائية إلا رجلا كمل إسلامه بحيث يرجو عند الله - يوم الحساب - نعيم الفردوس؟ إنه بهذا الإلمام كله سينظم علاقته بربه على النحو الذي يأمل به أن يظفر برضوان الله، وهو في الحق أمل كبير، وأكبر من كبير، لكن تبقى - برغم ذلك - عدة لدنيا هذا العصر، إما تزود بها وإما هلك بمقاييس الحياة الدنيا.
إنه لا نكران بأن بعض هذه المبادئ زاد صحي في تكوين الإنسان المنهجي النظر، مهما يكن زمانه ومكانه، وإلى هذا الحد يمكن استعانة المعاصرين بتراث الأقدمين. خذ المبدأ الأول مثلا، وهو إثبات الحقائق والعلوم، فها هنا نرى منهاجا يكاد يكون علميا حتى بالمعنى الحديث، لكن مجال التطبيق المقصود هنا ليس هو المجال الذي نقصد إليه حين نتحدث اليوم عن العلوم ومناهجها؛ فهم في شرحهم لهذا الركن من أركان الدين، يهاجمون من يتشككون - على الطريقة السفسطائية - في أن يكون بمستطاع العلم الوصول إلى حقائق ثابتة، بل هم يكفرون من يعاند أحكام العقل الضرورية. ولقد توسع أهل السنة في تفصيلات العلوم، فقسموا العلوم ثلاثة أنواع: ما جاء منها عن طريق البديهة، وما جاء عن طريق الحواس، وما جاء عن طريق الاستدلال؛ وذلك لينظروا في شروط الصواب في كل نوع، وأفاضوا القول في تواتر الأخبار؛ لأن الخبر المتواتر أصل من أصول العلم، شريطة أن يستوفي التواتر الصحيح أركانه ... فهذا كله مؤد إلى تربية عقلية يحتاجها المثقف كائنا ما كان عصره، لكننا لا نكاد نترك هذه القواعد النظرية - والتي جاء عصرنا في مجالها بما لم يعد معه باحث بحاجة إلى إضافة من السابقين، لتطور العلوم وتطور مناهجها وطرائق البحث فيها، تطورا لم يكن يحلم به أحد من الأولين - أقول إننا لا نكاد نترك هذه القواعد النظرية إلى مواد البحث نفسها، حتى نجد أنفسنا في واد، والجماعة التي نطلق عليها اليوم اسم «علما» في واد آخر.
فماذا يغير من نظريات العلم الطبيعي وقوانينه أن «تؤمن» بأن العالم قديم أو حادث - أعني بأنه أزلي أو أنه مخلوق - بل وماذا يغير من نظريات العلم الطبيعي وقوانينه أن تعرف صانع العالم وصفاته الأزلية وأسماءه وعدله وحكمته ورسله وأنبياءه؟ ... إنني ها هنا أريد أن أكون واضحا أمام القارئ، خشية الكبس؟ فلست أعني بذلك ألا «نؤمن» بهذا الصانع وبما يتصف به، لكن هذا «الإيمان» شيء والعلوم الطبيعية والرياضة وميادينها وقوانينها شيء آخر؟ فقد يكون أعلم علماء الأرض مؤمنا وقد لا يكون، عارفا بصانع العلم أو جاهلا به؟ إن شرط معرفة صانع العالم وصفاته إلخ ضرورية حين يكون معنى «العلم» التفقه في الدين وأحكام الشريعة، وأما حين يكون معناه الكشف عن قوانين الضوء والصوت والكهرباء وسائر ما في الطبيعة من ظواهر، ثم تطبيق هذا الكشف على أجهزة كالتي نراها اليوم في كل ركن من أركان الأرض، فعندئذ لا شأن للإيمان الديني به. ولقد نتصور أن يكون العالم منتميا إلى أي دين، إلى اليهودية أو المسيحية أو الإسلام، إلى الهندوكية أو البوذية، قد نتصوره من غير المؤمنين بأي دين، قد نتصوره من عبدة النار أو من عبدة الأوثان؛ لأن «علمه» - بالمعنى الذي نقصد إليه اليوم بهذه الكلمة - لا صلة له بالطريقة التي يتدين بها إذا كان ذا ديانة.
وفي هذه التفرقة يكمن أصل من أهم الأصول التي نعتقد أنها هادية حين نتحدث عن اهتداء المعاصرين بتراث الأقدمين، فلا ينبغي قط - فيما نرى - أن يكون الإيمان الديني مما نمسه بالقول في هذا المجال؛ لأن المعاصرة لا تتنافى ولا تتأيد بالإيمان الديني كائنا ما كان في شكله ومضمونه، وإنما المعاصرة هي فيما له علاقة بمشكلات اليوم، المعاصرة هي في متابعة العلوم وتقنياتها وتطبيقاتها، وفي متابعة الفنون على مقتضى نوازع الحياة الحاضرة، وفي متابعة أنظمة الحكم والتعليم والاقتصاد وغيرها من وسائل العيش وفق الحضارة التي نحياها.
كان أهل السنة في مجموعهم يقفون في طرف اليمين المحافظ، على حين وقف المعتزلة في طرف اليسار الشوري، إذا جاز لنا استخدام هذه المفهومات الجديدة بالنسبة إلى الحياة الفعلية القديمة، فبينما أصر المعتزلة على أن تئول آيات القرآن لتتفق مع أحكام العقل، آثر أهل السنة أن يتمسكوا بحرفية النصوص حتى لا يتعرضوا للخطأ والضلال، فقالوا: نؤمن بما ورد به الكتاب والسنة، ولا نتعرض للتأويل. ولقد أمسكوا عن تفسير الآيات وتأويلها لأمرين: أولهما المنع الوارد في التنزيل من قوله تعالى:
فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب . والثاني هو أن التأويل أمر مظنون بالاتفاق، ولا يجوز قول بالظن في صفات الله تعالى.
فها نحن أولاء بين طرفين فكريين: أحدهما يلتزم النص ويبطل صلاحية العقل الإنساني للتأويل والتفسير، والآخر يعتمد الاعتماد كله على العقل هاديا من فهم التنزيل بتفسيره وتأويله. وواضح أن الأمر لا يقف عند هذه النقطة الأولية بين الفريقين، بل يطرد معها إلى كل موقف مما يوجب الحكم بالصواب والخطأ، فالحكم عندئذ لا يكون بمتابعة السلف متابعة دقيقة عند أحد الطرفين، ولكن يكون بالانصياع لمنطق العقل عن الطرف الآخر.
ناپیژندل شوی مخ