ولقد عرف المعتزلة كذلك بمذهبهم في «التوحيد» الذي يلزم عنه في رأيهم نفي أزلية الصفات الإلهية، بمعنى أنهم لم يتصوروا أن يكون مع الذات الإلهية القديمة - أي الأزلية - صفات قديمة كذلك، كالعلم والقدرة والحياة وما إليها؛ لأن ذلك من شأنه - عندهم - أن يجعل من الوحدة كثرة؛ ولذلك فهم يرون أن الله عالم بذاته، قادر بذاته، حي بذاته ... إلى آخر صفات الله، فليس هنالك «علم» و«قدرة» و«حياة» تضاف إلى الله عز وجل، وكأنما هو شيء وصفاته شيء آخر بل الذات الإلهية نفسها علم، وهي نفسها قدرة، وهي نفسها حياة، وهكذا، فإذا طبقنا هذا المبدأ على صفة «الكلام» و«البصر» و«السمع» وغيرها، انتفى أن يكون الكلام (الذي هو القرآن) قديما، كما انتفى أن يكون لله - عز وجل - بصر وسمع بالمعنى الذي يكون به للإنسان مثلا بصر وسمع، فقد أتصور الإنسان ذا بصر وقد أتصوره فاقد البصر، أو أتصوره ذا سمع وغير ذي سمع؛ لأن أمثال هذه الصفات مصاحبة للإنسان وليست جزءا من ذاته، ولا كذلك الأمر بالنسبة إلى الله تعالى، فهو - كما يقول المعتزلة - بصير بذاته سميع بذاته.
ولم تظهر أزمة فكرية في شيء من هذا كله بقدر ما ظهرت في مسألة «كلام» الله، أهو قديم أزلي، أم هو حادث مخلوق؟ هل كان القرآن كما نقرؤه ونسمعه موجودا قبل وقت نزوله على النبي عليه السلام؟ أو أنه استحدث استحداثا وقت نزوله، ولم يكن قبل ذلك؟ قال المعتزلة إنه مخلوق حادث، وقال أهل السنة بل هو أزلي قديم، وكان ما كان في هذه المسألة من خلاف أدى إلى محنة أيام المأمون.
وربما بدا أن لم يعد لنا صلة بهذه المشكلة لا شكلا ولا مضمونا، لكن أظن أنه - وإن يكن مضمون المشكلة قد خرج من حياتنا الفكرية خروجا تاما أو شبه تام - إلا أن شكل المشكلة وموقف المعتزلة منها يمكن إحياؤه لننتفع به في وقفتنا المعاصرة؛ وذلك أن المسألة تستتبع رأيا في التشبيه، أعني في تصور الله مشبها بالإنسان سمعا وبصرا وإرادة وغير ذلك. وموقف المعتزلة من شأنه - كما نرى - أن يتجرد الله تعالى من كل صفة خارجة عن ذاته، وأعتقد أننا إلى يومنا هذا يتعذر علينا - أو على سواد الناس منا على الأقل - ألا نتصور الله تعالى مشبها وكأنما هو إنسان كبير، كل ما يختلف به عن الإنسان الصغير، إنه غير مرئي من جهة، وأنه أوسع مكانا وأطول زمانا من جهة أخرى، وهو تصور يجعل الفرق بين الله والإنسان فرقا في الكم لا في الكيف. ثم هو تصور - وذلك هو المهم عندنا - يجعل الرقابة الأخلاقية على الإنسان آتية من خارج لا نابعة من داخل، ولو تصورت الله تعالى في الصورة المجردة الموحدة التي أرادها المعتزلة، لكان شيئا أقرب ما يكون إلى «الضمير»، ولأصبحت وحدته وحدة في القيم، بحيث يصعب على المؤمن - بهذا المعنى - بعد ذلك أن يتصرف هنا على أساس آخر، فلا يشعر بالتناقض ولا بالتمزق في شخصه، حين يرى نفسه قد انعدمت فرديته وزالت حريته في ناحية، وتضخمت فرديته وطغت أنانيته في ناحية أخرى. •••
ونغض أنظارنا عن فرق كثيرة لا تستحق مجرد الذكر لتفاهة اهتماماتها وهزال رأيها، وهي الفرق التي جمعها عبد القاهر البغدادي في الباب الرابع من كتابه، وميزها بأنها «فرق انتسبت إلى الإسلام وليست منه.» وإن كنت لا أتعاطف مع البغدادي حين يدرج في صنف واحد فرقا تشغل نفسها بتأليه هذا الرجل أو ذلك من عباد الله، وجماعات أخرى كان لمواقفها الفكرية قيمة كبرى، سواء وافقناهم أو خالفناهم في وجهات النظر، كالصوفية والباطنية مثلا.
فماذا يحس المفكر العربي المعاصر إلا الشعور بالغربة الشديدة، وكأنه بين جماعات من مخلوقات ليست من الأناسي، حين يقرأ عن فرق كالسبئية مثلا تزعم أن عليا - رضي الله عنه - إله، ولما قتل علي زعموا أن المقتول لم يكن عليا، وإنما كان شيطانا تصور للناس في صورة علي، وأن عليا صعد إلى السماء كما صعد إليها عيسى ابن مريم. ثم زعموا أنه في السحاب، وأن الرعد صوته والبرق سوطه، ومن سمع منهم الرعد قال: عليك السلام يا أمير المؤمنين.
أو حين يقرأ عن فرقة «البيانية» التي زعم أصحابها الربوبية وملحقاتها لزعيمها بيان بن سمعان، الذي قالوا عنه إن روح الإله تناسخت في الأنبياء والأئمة حتى صارت إلى إمامهم هذا.
أو حين يقرأ عن «المغيرية» - أتباع المغيرة بن سعيد - الذي ادعى النبوة، وأنه عليم بالاسم العظيم الذي يحيي به الموتى ويهزم به الجيوش، وأن الله تعالى لما أراد أن يخلق العالم تكلم باسمه الأعظم، فطار ذلك الاسم ووقع تاجا على رأسه، ثم إنه بعد وقوع التاج على رأسه كتب بإصبعه على كفه أعمال عباده، ثم نظر فيها فغضب من معاصيهم، فعرق، فاجتمع من عرقه بحران، أحدهما مظلم مالح، والآخر عذب نير، ثم اطلع في البحر فأبصر ظله، فذهب ليأخذه، فطار، فانتزع عيني ظله، فخلق منهما الشمس والقمر، وأفنى باقي ظله، وقال لا ينبغي أن يكون معي إله غيري، ثم خلق الخلق من البحرين، فخلق الشيعة من البحر العذب النير، فهم المؤمنون، وخلق الكفرة - وهم أعداء الشيعة - من البحر المظلم المالح.
وهكذا وهكذا، تقرأ أمثال هذا الخلط الصبياني العجيب عند جماعات كثيرة، هي لا شك جزء من تراثنا، لكنه جزء لا يجوز النظر إليه إلا كما ننظر إلى ألاعيب الصبية الحالمين؛ فهل يحق لنا أن نضع الحلاج - مثلا - مع أمثال هؤلاء، كما فعل البغدادي؟ لقد وجد البغدادي وجها للشبه بين الحلاج وبينهم في أن كليهما ينزع إلى «الحلولية»، لكنني أحس بأن الحلولية عند الحلاج صادرة من عمق الخبرة وغزارة الوجدان، على حين كانت عند تلك الفرقة صادرة عن سذاجة دونها سذاجة الأطفال.
لنغض أبصارنا - إذن - عن فرق كثيرة، لنقف وقفة عند الفرقة التي قيل عنها إنها هي وحدها الفرقة الناجية، ومن أهم ما يهمنا من أمرها أنها تقف من المعتزلة موقف الضد، وذلك - على الأقل - من جهة أن المعتزلة تنفي أن يكون لصفات الله كيانات أزلية قائمة بنفسها، وأما هذه الجماعة - وهي أهل السنة المعتمدة على أخبار السلف دون مطلق الركون إلى العقل - فيثبتون حقائق الصفات الإلهية كما وردت بها النصوص؛ ومن ثم تسميتهم «بالصفاتية» أحيانا؛ لإبراز الفرق بينهم وبين المعتزلة الذين هم من الناحية «معطلة» أي مجردون للصفات.
وأهمية هذه الجماعة - ولعلها أكثر الجماعات عددا - إنها هي الجماعة التي يكون فكرها ومواقفها الجزء الأكبر مما يعنيه القائلون بضرورة إحياء التراث في حياتنا الفكرية العصرية، فأهل السنة والجماعة - كما يسمون عادة - يشملون فئات هي نفسها الفئات التي تمثل في ذهن المتكلم حين يحدثك عن الفكر الإسلامي في أرفعه وأقواه، فهم يشملون كل من أحاط علما بفقه الدين، وتبرءوا من بدع الفرق المنحرفة الضالة بأهوائها، ويشملون أئمة الفقه من فريقي الرأي والحديث من الذين اعتقدوا في أصول الدين مذاهب الصفاتية في الله وفي صفاته الأزلية، وتبرءوا من القدرية والمعتزلة، وأثبتوا رؤية الله تعالى بالأبصار، من غير تشبيه ولا تعطيل، وأثبتوا الحشر من القبور، مع إثبات السؤال في القبر، والصراط، والشفاعة وغفران الذنوب التي هي دون الشرك، وهم الذين اعتقدوا دوام نعيم الجنة على أهلها ودوام عذاب النار على الكفرة، ولم يشكوا في إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وأحسنوا الثناء على السلف الصالح من الأمة، ورأوا وجوب استنباط أحكام الشريعة من القرآن والسنة ومن إجماع الصحابة، ورأوا تحريم المتعة، ووجوب طاعة السلطان فيما ليس بمعصية.
ناپیژندل شوی مخ