ولما كنت أنوي أن أستكمل البكائيات بمشيئة الله وعونه، فلا أملك في هذا المجال المحدود إلا أن أذكر بعض «الثوابت» التي أتصور أنها قد ساهمت في تكوين لا يزال متجددا كما قلت ومهددا في آن واحد. (1-1) التخلي عن العرش
أول هذه الثوابت هو ما أحب أن أسميه «التخلي عن العرش». لا أدري أين ولا متى قرأت أن الكتابة نوع من التخلي عن كل العروش، ولا أعرف إن كان هذا مجرد اعتقاد نبع من طبيعتي ولازم تكويني. والتخلي هنا يوحي على الفور بحقيقة التصوف التي حددها أوائل الزهاد والصوفية المسلمين عندما قالوا إنه هو «ترك كل العلائق والتمسك بالحقائق»، كما يذكرنا بالكلمة نفسها التي تدور حولها أعمق التأملات والشطحات الروحية للمتصوف الألماني «إكهارت» من القرن الثالث عشر (1260-1328م)، وتتصل في لغته بكلمة أخرى تعني الرضا والسكينة والطمأنينة. ولا أقصد بالتخلي معناه الظاهري أو السطحي، من البعد عن السلطة والمنصب والشهرة والمال والأضواء والمنافع والمصالح؛ إذ ربما يكون هذا البعد - أو الابتعاد - تعبيرا عن فشل برر نفسه بحكمة عاجزة، إنما أقصد التخلي بمعناه الديني الأصيل، من الفناء والعبادة الخالصة، وبمعناه الفلسفي، من الاكتفاء والاستغناء الذي كان المثل الأعلى للفيلسوف والعالم القديم، وما يزال في رأيي جديرا بأن يكون المثل والقيمة العليا لكل كاتب حقيقي. لهذا لا ينقضي عجبي من تهالك بعض من يسمون أنفسهم كتابا أو مفكرين على الشهرة والوصول والضجيج «والفرقعة» والظهور في الصورة وفي أجهزة الأعلام، وحرصهم على أن تكون لهم «جوقات»، أو لنكن أكثر صراحة من واقع ما يجري حولنا فنقول «شلل» تدق لهم الطبول، وتدوي بالثناء والتهليل، وتبذل الجهود المستميتة في التقديم والتفسير والتحليل، لأعمال يشك في أن أكثرها يرقى أصلا إلى مستوى الفن أو الفكر، أو ينطوي على أية قيمة جمالية أو إنسانية حقيقية، وتظلم الأصالة كما تظلم الحداثة، وتكثر الثرثرة والهلوسة، ويجني جناية لا تغتفر على قديم ما زلنا نجهله، وجديد لم نحسن استيعابه، وتنضج أوعية السياسة الفاسدة سيول الاستبداد والتسلط والجهل والتخبط على بساتين الأدب والفن والإبداع الموحشة - إلا من بعض الأشجار النادرة والزهرات الوحيدة - وتزحف عليها مواكب غير مقدسة من جراد الجهال والأدعياء والانتهازيين والشطار والسماسرة والمتعهدين وركاب كل الأمواج، ويضيع الحقيقي في غمرة المزيف، ويغرق القيم في طوفان المطبوع والمنشور الذي لا يكاد يجد الناقد العالم والمنصف الذي يميز غثه من سمينه، ولو صحت عين النقد - العالم والمنصف والمبدع كما قلت - لأمكن طرد الجراد المتطفل، وتطهير البستان الذي أوشك أن يصبح جبانة كبيرة تنصب فوقها عروش كاذبة لملوك كذابين، ولأدرك الجميع أن حصان المجد هو الذي يسعى إلى فارسه الذي يستحقه، فيحني له رأسه الجميل، ويقدم له سرجه الذهبي. ولا داعي لذكر أمثلة من ثقافات وآداب أخرى؛ إذ يكفي أن نذكر في أيامنا هذه اسم زكي نجيب محمود ونجيب محفوظ بين أسماء أخرى ربما لا يزيد عددها على أصابع اليدين أو اليد الواحدة.
وأسترد الخيوط بعد هذا الاستطراد، فأقول إنني أومن بالعمل الصامت والصادق في الظل. وسواء جاء شيء من التقدير في حياتي أو بعد موتي أو لم يجئ على الإطلاق، فيكفيني أنني تخليت وعكفت وأخلصت على قدر طاقتي المحدودة. أقولها وليس في جدول النفس قطرة مرارة واحدة؛ فالتخلي قانون حياة ومبدأ تكوين، وليس أبدا - ولن يكون - علامة عجز أو مكر أو تواضع مغرور. ويبقى شعار حياتي - إن كان لا بد من شعار! - هو أن أحيا في هدوء، وأعمل في صمت، وأموت في صمت. ولكم يسعدني حصار التجاهل المضروب من حولي؛ لأنه يوفر لي الحرية الضرورية، والحرية هي قضيتي الأولى والأخيرة.
يرتبط التخلي عن كل العروش بشعور مزمن بالذنب يجعلني أحاسب نفسي مع كل شهيق: هل أستحق الهواء الذي أتنفسه؟ ومع كل إغماضة جفن: هل فعلت اليوم ما يسوغ لي أن أنام مرتاح الضمير؟ صحيح أنني أبيت كل ليلة وفي سمعي عبارة كانت ترددها أمي - رحمها الله: «يا بخت من بات مظلوم ولا بات ظالم.» كما نطق بها سقراط في دفاعه الشهير عندما أكد أنه يفضل أن يتحمل الظلم على أن يوقعه على غيره. لكن من منا الظالم ومن المظلوم؟ وأين الحدود الفاصلة بين الذنب والبراءة؟ لا شك أن الشاعر بالذنب قد ارتكب ذنوبا أخرى في حق غيره، لكن ربما يشفع له أنه لم يتعمد الظلم، ولم يقصد إليه، وربما يسمح له القول بأن شعوره بالذنب، ومن ثم تعذيبه الدائم لنفسه، له أصل «بيولوجي»؛ فقد ولدت ثالث ثلاثة، وآثر ضلعا المثلث أن يتركا أضعفهما وأكثرهما هزالا بعد الشهر الثاني من ولادتهما. ولقد طاردني الشعور بالذنب نحو الشقيقين الغائبين، أو العاقلين، منذ أن سمعت القصة من فم أمي وشقيقتي الكبرى، وعرف عني التجول الرومانسي في صباي بين قبور جبانة البلدة؛ بحثا عن قبري الصغيرين المسكينين، وعن الشبر الباقي الذي أعده جارنا المقرئ واللحاد ليسع الجسد الثالث النحيل، فشاء حظه أو مكره - لسبب لا يفهمه ولا يستحقه - أن يبقى بعد المقرئ، والأم والأب، وشقيقين عزيزين، وشقيقتين أكبر منه، ولكم عوقب وضرب بسبب هذه الجولات الوحيدة! وكم تذكرها عندما كبرت به السن، وألف قراءة شعر المقابر وأدبه القاتم الحزين! ونشأ الصبي المدلل - الذي ارتبط مولده بمعجزة أو مفارقة ساخرة - في بيت ريفي رباه على قيم ازداد تحسره عليها بعد إقامته في المدن المعقدة الماكرة، وبعد الهجمات الشرسة ل «اللاقيم» على واقعنا ومجتمعنا وعلمنا وأدبنا وضمائرنا، إذا جاز الظن المتفائل بأن فينا اليوم من يتذكر الضمير. وبين أب تقي صارم، قاس على نفسه في التزامه بالاستقامة والواجب المطلق - وكأنه فيما عرفت بعد ذلك كانطي ريفي وإن لم يسمع أبدا عن كانط - وأم طيبة حنون تشقى من قبل طلوع الفجر إلى مغالية النوم مع صلاة العشاء، وتملك قدرة نادرة على الحب والعطاء بغير حدود - حتى لتستخسر في فمها اللقمة والهدمة - وعلى الدعاية والمرح وحكاية الأمثلة والحكاية ومحاكاة الآخرين. بينهما وبين أخوين يساعدان الأب - المتفرغ للعبادة وقراءة «الكتاب» الوحيد الذي قرأه في حياته في تجارته البسيطة - وأخوين آخرين يدرسان في المدن الساحرة البعيدة والمخيفة، ولا يظهران إلا في إجازة الصيف، بينهم تكون الحالم والمذنب الصغير، وبدأت تجاربه مع الشعر الذي أفلس منه تماما في العشرين وإن ظل وفيا للشاعرية فيما سود بعد ذلك من آلاف الصفحات عن الشعر نفسه، وفيما حاول من قصص ومسرحيات لا زال مصرا على ارتكاب ذنوبه فيها، بل فيما قدم من دراسات في الأدب العالمي والغربي وفي الفلسفة الشرقية والغربية؛ مما جعل أحد النقاد الصغار يجرب فيه ذكاءه، ويصفه بالوصف المشهور عن «التوحيدي» أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء؛ أي لا شيء على الإطلاق! (1-2) البعد والخروج
إذا كانت أول عبارة في سفر التكوين هي «في البدء كانت الكلمة»، وكانت أول كلمة معبرة عن حياة جوته - سيد شعراء الألمان - الذي سأتكلم عنه بعد قليل، هي «في البدء كان الفعل»، فيبدو أن الكلمة التي تصدق عليه هي «في البدء كان التعذيب». ترسب في وجداني منذ السنوات المبكرة أنني أختنق في عالم خانق هو الجحيم، واستقر فيه ضرورة الخروج من هذا الجحيم والوفاء له في الوقت نفسه والاكتواء بناره. خرجت منه كثيرا إلى بلاد وعوالم أخرى، لكنني كنت أحمله معي وفي أينما ذهبت، وعشت فيه وتلظيت بنيرانه وزبانيته معظم حياتي، لكنني لم أتوقف عن محاولة الخروج منه ورفضه والاحتجاج عليه وسلبه وأنا فيه. ربما كان اغترابا دائم البحث عن الانتماء، أو انتماء لا يجد نفسه إلا في الاغتراب. مهما يكن الأمر فقد سعيت باستمرار إلى آفاق وشواطئ أخرى، وتطلعت على الدوام إلى معرفة لغات وآداب وحضارات أخرى، حتى سماني صديق عمري صلاح عبد الصبور بالطلعة. أكثر مما تطلعت لتثبيت قدمي على أرضي، وتعمق لغتي وتراثي، غربت وشرقت بقدر ما أسعفني قاربي الوحيد وجناحاي الضعيفان؛ لكي أثوب في العقد السادس من عمري إلى حقيقة أصارح بها شباب الأدباء والعلماء: لن يعرف الإنسان تراث الآخرين إذا ظل يجهل تراثه، ولن يتقن لغات الغير حتى يتقن لغته.
ربما بدأت الرغبة في البعد والخروج في الثالث أو الرابع عشر من عمري بعد قراءة قادة الفكر لطه حسين، وزهرة العمر الحكيم، لكنها يقينا قد رسخت جذورها في تربيتي عندما قرأت «آلام فرتر» في ترجمة الزيات - رحمه الله - عن الفرنسية. كنت أيامها - مثل كل صبي مصري - لا أزال أعبر جسر الدموع المنفلوطية، وشاءت المصادفة أن أقع على هذا الكتاب الفريد الذي أصبح أول نص أدبي أعكف عليه، بعد أن بدأت بعد ذلك بداية جادة في تعلم الألمانية، كما قدر لصاحبه أن يصبح كوكبا هاديا لتفكيري وحياتي طوال ثلاثين سنة أو يزيد، وأن أعرف بأدبه وشعره، وأترجم له ولدرسه في ثلاثة كتب على الأقل. كنت في تلك المرحلة مفتونا ببلاغة الرافعي والزيات، متأثرا في ذلك بشقيقي الأزهري وزملائه الذين عودوني ضبط ساعتي البيولوجية الأسبوعية على يوم الثلاثاء الذي كانت تظهر فيه «الرسالة» فيما أذكر، وخرجت من الفتنة والافتتان بهما وبجيلهما من البلغاء - الذين ما زلت أحاول الخلاص من بلاغتهم إلى اليوم! - لأقع في سحر «جبران» الذي لف شبكته حولي حتى حصولي على التوجيهية. ومد لي الحكيم طوق النجاة، فنقلني فكرة المثالي وحواره الدقيق من البلاغة إلى الفن. وفي الجامعة عاودتني الرغبة في البعد والخروج. ومع الإصرار على إجادة الإنجليزية والفرنسية، وبرعاية كريمة من بدر الديب ومحمود أمين العالم ويوسف الشاروني الذين تعهدوني بحبهم وتوجيههم في سنواتي الأولى بالجامعة، اطلعت على ما أمكنني الاطلاع عليه من مسرحيات «ميترلينك» وقصص «كافكا»، الذي لم تفارقني كوابيسه إلى اليوم! وأشعار «رلكه» و«إليوت»، وشذرات متفرقة مما كان يكتب أو يترجم عن فلاسفة الوجود وأدبائه الذين بدأت أصواتهم تتردد بين المثقفين عامة، ودارسي الفلسفة خاصة، مثل كامي وسارتر ومارسيل وهيدجر وياسبرز. من الأول تشربت النزعة التراجيدية أو المأسوية، والعطش المتجدد للطبيعة والنور والحياة، ثم لازمتني عاطفة الحب له، والارتباط بتشاؤمه وبراءته وأمانته وتمرده، حتى إعداد رسالتي عن فكره الفلسفي بعد ذلك بأكثر من عشر سنوات. أما الخامس «وهو هيدجر» فقد سيطر سيطرة المستبد على عقلي، وأغراني سحره الوهمي، وأرهقني فكره العسير وأسلوبه المعقد الركيك طوال السنوات التي قضيتها في جامعة ألمانية، خضع معظم أساتذتها وطلابها لطغيانه، وتمخض ذلك الانشغال الطويل عن كتاب أظنه من أردأ كتبي وإن لم يكن أقلها فائدة، وهو «نداء الحقيقة». ولا بد من القول هنا بأن الانجذاب للفكر والأدب الألماني قد بدأ منذ سني التحصيل في الجامعة، وبتأثير الرجل الذي ظل منذ ذلك العهد هو قدوتي في الدأب والجدية وفي التوحد والانفراد، من هذا الرجل العظيم - عبد الرحمن بدوي - سمعت أسماء لزمت أصحابها بعد ذلك، مثل شوبنهور ونيتشه وكيركجارد وهيدجر الذي سبق ذكره، وبه اقتديت في حب لغات عديدة حديثة وقديمة، وإن لم أبلغ بالطبع مبلغه، وبفضله اتجهت للاهتمام الأساسي بالفكر والشعر والمسرح الألماني وإن قصرت في متابعته على طريق بحثه وعلمه الواسع بالتراث الفلسفي والصوفي الإسلامي.
وإذا كنت أختلف عنه في مناحي تفكيري وتعبيري اختلافا بعيدا، فإن اعترافي بفضله وعرفاني لشخصه وعلمه يسري في دمي، ويكفيه فضلا علي وعلى غيري أنه سيبقى المثل العالي الذي نهتدي به في الخروج والتحدي.
هذه الرغبة في الخروج من الجحيم إلى آفاق وشواطئ أخرى، مع الإصرار كما قلت على الانتماء له والاكتواء بنار عشقه وعشق ضحاياه، قد انعكس فيما أعتقد على تفكيري الفلسفي وإنتاجي الأدبي؛ فمنذ سنوات غير قليلة، طغى علي الإحساس بمحنة الوجود العربي التي لم تعد خافية على أحد، وبدأت التخلص من تأثير فلسفة الوجود، والانتقال إلى نقد الواقع القائم وسلبه، ورفض «لاقيمه» التي أشرت إليها من قبل تحت تأثير فلاسفة الرفض والنفي من أصحاب النظرية النقدية الاجتماعية المعروفين باسم فلاسفة فرانكفورت. وإذا كان هذا النقد قد ظهر بصورة أولية في كتابي المتواضع «لم الفلسفة»، ولم يكتمل مشروعه بعد، فقد تجلى من الناحية الأدبية في «بكائياتي»، وفي عدد غير قليل من مسرحياتي (كالبطل ودموع أوديب وبشر الحافي يخرج من الجحيم والقيصر الأصفر)، كما تجسد قبل ذلك في أغلب شخصيات قصصي التي انتزعت من «الجحيم المحبوب » الذي صنعناه لأنفسناه، وتعددت صورها وأنماطها من الدراويش والممثلين الفاشلين والشحاذين والمجانين والنساك والمعلمين المجحودين والثوار المحبطين ... إلخ؛ أي من مساكين «وناس في الظل» يعترفون بفضل أقرب أدبائنا الكبار إلى قلبي، وهو شيخنا الرقيق الجليل صاحب العصا والقنديل.
الأموات - الأحياء.
والمعلمون - الأصدقاء.
ناپیژندل شوی مخ