هذه مواطئ خير من وطئ الثرى ... وعلا على السبع العلا استقراره
ملا الوجود حقيقة إشراقه ... فأضاء منه ليله ونهاره
والروضة الفيحاء هب نسيمها ... والبان بان ونم منه عراره
وتعطرت سلع فسل عن طيبها ... لم لا تطيب وحولها مختاره
بشرك يا قلبي فقد نلت المنى ... وبلغت ما تهوى وما تختاره
قد أمكن الوصل الذي أملته ... وكذلك حبي أمكنت أسراره
قد كان عندي لوعة قبل اللقا ... فالآن ضاعف لوعتي إبصاره
رفقا قليلا يا دموعي أقصري ... فالدمع يحسن في الهوى اقصاره
قد كانت العين الكريمة في غنى ... عن أن يفيض بتربها تياره
أيضيع من زار الحبيب وقد درى ... ان المزور بباله زواره
أيخيب من قصد الكريم وعنده ... حسن الرجاء شعاره ودثاره
أيؤم بابك مستقيل عاثر ... فيرد عنك ولا تقال عثاره
حاشا وكلا أن تخيب آملا ... فيعود صفرا خيبت أسفاره
يا سيد الإرسال ظهري مثقل ... فعسى تخف بجاهكم أوقاره
رحماك فيمن أوبقته ذنوبه ... فكأنما إقباله ادباره
ليس الصغار وقد تعاظم وزره ... والعفو تصغر عنده أوزاره
شط المزار ولا قرار وشدما ... يلقى محب شط عنك مزاره
وافي حماك يفر من زلاته ... وإليك يا خير الأنام فراره
وأتاك يلتمس الشفاعة والرجا ... اقتاده وظنونه أنصاره
والعبد معتذر ذليل خاضع ... ومقصر قد طولت أعذاره
متسول قد أغرقته دموعه ... متنصل قد أحرقته ناره
قدفت به في غربة أوطانه ... ورمت به لعلائكم أوطاره
فأمنن وسامح واعف وأصحف واغتفر ... فلانت ماح للخطأ غفاره
صلى عليك الله ما حيا الحيا ... روض الربا وترنمت أطياره
ثم تحدرنا من الهضاب، وقذفتنا بطون الأودية من أفواه الشعاب ولاحت لنا الأنوار النبوية من تلك القباب وشرفنا الجباه بوطء ذلك التراب:
ولما رأينا ربع من لم يدع لنا ... فؤادا لتذكار الديار ولالبا
نزلنا على الاكوار نمشي كرامة ... لمن بان عنه ان نلم به ركبا
ومن آداب الزيارة إذا أشرف الزائر على المدينة أو على البيت أن يترجل ولما قدم الجوهري المدينة ترجل وجعل يقول:
رفع الحجاب لنا فلاح لناظري ... قمر تقطع دونه الأوهام
وإذا المطى بنا بلغن محمدا ... فظهورهن على الرحال حرام
قربتنا من خير من وطئ الثرا ... فلها علينا حرمة وذمام
ومشى حتى بلغ إلى المسجد وهو ينشد:
هذه دراهم وأنت محب ... ما احتباس الدموع في الاماق
والمغاني للصب فيها معان ... فهي تدعى مصارع العشاق
حل عقد الدموع وأحلل رباها ... وأهجر الصبر وآقض حق الفراق
ووصلنا إلى المدينة النبوية، المقدسة الشريفة المخصوصة بالصفحة الزهراء والتربة البيضاء، والبقعة المشرفة بمجد ﷺ سيد الانبياء صلى اله عليه وسلم صلاة تتصل مع الأحيان والأناء، فنزلنا بها من ضحى يوم الخميس التاسع عشر لذي القعدة من العام المذكور ثم ابتدرنا إلى الحرم الشريف، والكرم قد فتح الباب ورفع الحجاب وملا بالبر الرحاب، فاستعظمنا الأقدام على المقام، وعجزنا عن أداء ما يجب من السلام فعبرت العبرات عن الكلام ووقفنا بين يدي ساكنه عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، فيا لها تحية أرق من النسيم إذا سرى وسلاما أندى على الأكباد من قطر الندى، والذي في الأجفان من سنة الكرى، وحين فزت بهذه النعمة فوزا عظيما، ودخلت مع تلك الفوحة مدخلا كريما، وثبت بعد الاستغفار بالتربة والرحمة لقوله تعالى ولو أنهم ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله ثوابا رحيما، وأخذت في تلاوة القرآن المنزل عليه في حضرته ومثلت نفسي جالسا بين يديه الكريمة أعرض عليه درسي بعد استيذانه ومشورته، ثم ختمت الختمة بالدعاء، وأضرمت نيران الأشواق بماء البكاء، وهنأت نفسي ببلوغ المنى وزوال العناء:
وعفرت خدي في شدا ذلك الثرى ... ومتعت طرفي بالحبيب ومسمعي
1 / 62