فبقينا نكابد عظيم ذلك الأمر، ونسير ولا نفارق ساحل البحر، ونرقى العنق التي تقربنا من السماك وتدنينا من النسر، وقد اشتد البرد، وبلغ الجد، وفرع الجهد، ووقع الثلج، وعمى النهج، وابتلى به الفج والمرج، فتصبح وصباحنا أبيض، وجناحنا لا ينهض، والعروق لا تنبض، والبروق لا تومض، والخيام لجمودها واقفة على غير عمودها، والنيران مقرورة، وشفاه الجليد مطرورة، والزناد كابية، والصعاد نابية، والوجوه في عبوس، والوجود في بوس، وقد جمدنا كأننا بلا نفوس، فنبت الأيدي على ان تبطش، والأقدام عن أن تنهض، وأسود يومي منه وان كان به أبيض، وجاءت السماء بسيل عرم، ولهب قر يضطرم، وقد صوب الغمام سهامه، ولبس الجو لحرب المحل لامه، فلم يبق قطر إلا وقد نفدت فيه تلك السهام، ولا أفق إلا وعلاه من خيوط الودق المحتبسة مثل القتام، فلا أحد إلا وجد من ذلك ما أقلقه، وأحرق قلبه بتواليه وان كان في الحقيقة أغرقه، وسرنا والعناء قد بلغ منا الغاية وانتهى بنا إلى النهاية، حتى وصلنا إلى) بجاية (، فدخلناها في يوم الاثنين الثالث عشر لجمادى الثانية) المذكور (بلدة قدرها خطير، وذكرها في كل زمن يطير، وخطابها من الملوك كثير، ومحلها من النفوس أثير، فكم هاجت من كفاح، وملت عليها في بيض وصفاح، يمتد أمامها بسيط أخضر، مد البصر قد أجرى الله فيه مذانب الماء تسقيه، وتضرب في نواحيه، كأنها سبائك اللجين ممدودة في بساط الزبرجد، محفوفة بالزمرد والعسجد، والبساتين ملتفة الأشجار، يانعة الثمار، والنهر الأعظم ينساب بين يديها قد انعطف عليها انعطاف السوار، والحدائق تنتظم بحافيته، وتفيء ظلالها الوارفة عليه، فهي النضيرة الدوح، العذبة الأنهار، الطيبة الهواء المشرقة الأضواء، التي اجتمعت عليها الأمراء، وسلم لها الهواء، وشيد فيها البناء، وبعد لها الصيت المدود والثناء، انتظم فيها من الوادي والبحر، قلادتان على ذلك النحر، قد حلينا ذلك البلد، وتجلينا كوالد وما ولد، قد مرجها الله بحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان، فإذا ضاحكتهما الشمس أنعكس الضياء، وزاد الاحتفال في النور والأفياء، إلى حدائق قد انتظمت انتظام الأحباب، وشقائق ترفل في أثواب الشباب، وتسدل أذيالها بين تلك القباب.
ورياض كأنما نثرت فو ... ق ثراها حريرة خضراء
أعين النرجس الجنى نجوم ... واخضرار الرياض منها سماء
للثرى تحتها شيات وللما ... غطيط وللغصون لقاء
فأول من لقيته من أرباب المحابر، وركاب أعواد الكراسي والمنابر، فاضل الأفاضل وكبير الأكابر، الشيخ العالم المحدث، أبو عبد الله محمد بن جعفر ﵀، قصدت لقاءه والأخذ عنه وقدمته وكنت أسمع من ملفوظ حامده، ومحفوظ محامده، ما هو بغية السامع وحلية للمسامع، فلما رويت من مكارمه ما رويت، استصغرت ما سمعت لعظيم ما رأيت واستقللت ما سمعت أذناي، لما عاينته عيناي، وأنشدت لنجم الدين بن مهذب الدين:
كانت محادثة الركبان تخبرني ... عن مجدكم وسناكم أطيب الخبر
حتى التقينا فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن مما قد رأى بصري
فأنزلني بمنزله الكريم، وقابلني بالترفيع والتكريم، وأقمت معه فيه يفيض على من كرمه بحرا زاخرا، ويفاوضني من علمه منهلا لا أجد له أخرا، ويرويني بمسوغاته الفاضلة، ويرويني من مسوعاته الحافلة، فلا أدري من أي بحريه أعجب، ولا أيهما أروى وأعذب، حتى قلت له:
أبكيت عين الغيث لما فته ... كرما فثغر البرق منه يضحك
فارتاح وتهلل، وأكثر من الأفضل وما قلل، وجرى على عادته في المكارم والانطباع فأنشدته:
ولو صورت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع
1 / 5