فإن ألمانيا سلكت في المغرب الأقصى مسلك السكون والتؤدة مع المثابرة والصبر، وهذه هي الصفات التي تمتاز بها ألمانيا والألمان، فإنهم لا يصرخون ويصخبون ولا يملئون العالم جعجعة كغيرهم، ولكنهم يتخذون أبدا سياسة الكتمان والتأني التي تؤدي دائما بهم إلى النجاح والفوز. وكل ما يعمله الألمان لينبهوا العالم ويفتحوا عيونه لمنافعهم هو تأليف الكتب الضخمة التي يشرحون فيها سياستهم ومنافعهم ومصالحهم، والذي يطالع بعض هذه الكتب يرى لأول وهلة أن ألمانيا تسعى لأن تكون دولة بحرية كبيرة، فإن كتاب الألمان ينشرون في كل عام عددا عظيما من الكتب المتعلقة بالبحرية الألمانية والأساطيل والحصون والثغور وما شاكل ذلك، وغير هذه الكتب يشرح آمال ألمانيا في مستقبل بحريتها. هذا ولا يليق بنا أن ننسى القدر العظيم من الكتب الألمانية التي كتبت عن مراكش وحاضرها ومستقبلها، وقد يستغرب كلامنا هذا من لا يعرف أن عدد القراء في ألمانيا عظيم جدا، وأن الشبيبة الألمانية ظمآنة لأخبار الاستعمار والمستعمرات، فيحتاج المؤلفون إلى تأليف كتب كثيرة تتناول كل موضوع استعماري وتسهب فيه إسهابا مشبعا، فلم تدرس شبيبة ألمانيا موضوعا أكثر من موضوع مراكش، فإنها تناولت كل صغيرة وكبيرة مما يتعلق بأمر هذه البلاد وفحصتها فحصا دقيقا. دع ما كتب بأقلام المستنفضين والجغرافيين الذين طافوها من أقصاها إلى أقصاها ورسموا خرائطها، وما كتبه رجال الحرب عن مركزها الحربي وعن الخطر المحدق بها من جهة فرنسا.
نقول وقد قرأنا إن الميزانية التجارية للمغرب الأقصى في عام 1902 بلغت 72000000 مارك؛ أي نحو 4000000ج. ولألمانيا من هذه الميزانية أغلبها.
وفي سنة 1902 أيضا أرسلت ألمانيا 292 سفينة محمولها 252211 طنا، وأرسلت فرنسا 311 سفينة محمولها 202778 طنا. وفي مراكش 61 محلا تجاريا أوروبيا منها 23 ألمانيا و16 إنكليزيا و10 إسبانية و7 فرنسوية، وفي 11 أكتوبر 1902 تأسست شركة ألمانية باسم «الشركة المراكشية» أو «ماروكابيش جسلشافت»، وتعضد هذه الشركة جريدة ألمانية اسمها «نوردافريكا»، ويقصر العد دون الكتب الألمانية التي كتبت عن مراكش وتجارتها وسياستها. ونحن نترك القارئ يستنتج مما تقدم ما يريد.
الفصل الثاني
فرنسا وإيطاليا
من المعلوم أنه إذا عدت الدول التي لها في مصر شأن كبير فإن إنكلترا تعد في مقدمتها ثم تتلوها فرنسا؛ لأن فرنسا بلا ريب هي من أهم العوامل في مستقبل هذه البلاد، ونحن لا نعول فيما نكتبه على ما قيل وكتب عن سياسة تلك الدول في مصر، فإنها قرظت وانتقدت ومدحت وذمت في كتب كثيرة نشرت في أغلب لغات أوروبا، ويلوح لمطالع كل هذه الكتب أن كاتبيها أساءوا فهم سياسة فرنسا في مصر، أو فهموها ثم عكسوا معناها وصحفوها، وقد تتبين صحة ما نقول لمن يعرف حق المعرفة أن فرنسا في كل أعمالها السياسية في مصر لم تزغ مرة في العمر واحدة عن سياستها الأولى التي اختطت خطتها وسارت على دربها منذ ابتدأت علاقتها بمصر.
وبين الذين كتبوا عن مصر عدد عظيم من كبار الساسة الذين يجب احترامهم والإصغاء إلى ما يقولون والنظر في آرائهم بعين الاعتبار، ولكن عندما يكتب هؤلاء الكتاب عن فرنسا فإنهم للأسف يخطئون فيما يكتبون خطأ عظيما، ويظهر لنا أن الذي سبب وقوعهم في الخطأ هو نظرهم بعين الاحتقار لسياسة فرنسا كلها، وقد يدفعنا ما نراه فيما يكتبونه بأن نرميهم بالجهل بتاريخ فرنسا السياسي، وعدم نظرهم إلى هذه السياسة الفرنسوية كسلسلة منتظمة مستمرة، وليس من الحكمة أن هؤلاء الكتاب عندما يكتبون عن سياسة أية دولة أوروبية يبنون حكمهم على ما يبدو لهم من صغائر الأمور المتعلقة بهذه الدولة؛ لأن المتتبع لتاريخ سياسة الدول الخارجية يرى أنها تسير في طريق واحدة وتقصد غرضا واحدا، ومهما عمل كبار الساسة الذين يتولون أمرها لتغييرها وتحويرها فإنهم لا ينجحون لأنها لا تتأثر بأعمالهم؛ ولذلك نرى أن أكابر السياسيين ينتهزون الفرص ويستفيدون من الظروف ولكنهم لا يخلقون الفرص ولا يصنعون الظروف.
ولنشرح الآن مغزى ما نقول بعد أن نثبت صدقه لئلا يرمى قولنا بسهام الملام ونتهم بأننا ندعي صدق ما نكتب وهو خلو من الصدق، فنقول إننا لا نرى نفسنا في حاجة إلى شرح العلائق السياسية التي كانت بين إنكلترا وفرنسا بشأن المسألة المصرية، وكثيرا ما ظلم كتاب الإنكليز فرنسا بتصويرهم إياها بصورة الحسود لإنكلترا والحاقد عليها لتقدمها ونجاحها لا سيما في مصر، ويتهم هؤلاء الكتاب فرنسا بأنها سنحت لها فرصة ثمينة في مصر فلم تنتهزها، فلما جاءت إنكلترا وانتهزتها واستفادت منها نقمت عليها فرنسا وحسدتها وحقدت عليها.
ويقول المرجفون من هؤلاء الكتاب إن فرنسا وإن لم تحتل مصر فإنها كامنة كمون الفهد الجريح لتنظر الفرصة المناسبة فتقفز من مرقدها وتنشب أظفارها بعدوها، ويقول المرجفون أمهلوا فرنسا ريثما تقع إنكلترا في ورطة وتلقي بنفسها في أزمة لا ترى لنفسها منها مخرجا، عند ذلك تهب فرنسا للانتقام. هذا ما يقوله المرجفون، أما المتقولون من كتاب الإنكليز فيقولون إن فرنسا تظهر دائما استياءها وغضبها من إنكلترا في مصر، وتفرغ جهدها في البحث عن سيئة من سيئات إنكلترا فتقيم الدنيا وتقعدها بمماحكتها ومكابرتها.
ونحن نحمد الله على أنا لسنا في حاجة إلى إظهار كذب كل هذه الادعاءات التي لا أصل لها، فقد دلت الحوادث على كذبها وبرهنت الأيام على أنها سفسطة لا حقيقة وراءها. وكثيرا ما وجدت إنكلترا نفسها في ضيق لا مفر منه وفي أزمة مالية لا مخرج لها منها، وما كانت فرنسا لتصنع إلا ما يساعد إنكلترا على الخروج مما وقعت فيه ولم تظهر يوما أنها في صفوف أعداء إنكلترا الألداء كما يقول المرجفون الذين يتبعهم المتقولون، فما سبب كل هذه الأراجيف والأقاويل إذن؟ لأننا لا نعتقد بأن أمورا كهذه تشاع وتذاع وتملأ الأفواه والأسماع ويعتقدها الصغير والكبير إلا إذا كان لها مكان من الحق ونصيب وافر من الصحة.
ناپیژندل شوی مخ