ومن أقوى الأدلة على ذلك كون ألمانيا تنفق عن جود وعن كرم على مشروعات السكك الحديدية هناك، وهي تسعى جهدها في توطيد أقدام علمائها الباحثين في تاريخ أسيا الصغرى القديم، وحسبنا على ذلك دليلا ما كتبه علماء الأركيولوجيا الألمان عن أسيا الصغرى وهذه البعثات تعيش في البلاد وتخالط أهلها وتدرس أخلاقهم وتعرف أحوالهم .
ويرى القارئ الملم بتاريخ الاستعمار أن ألمانيا مقتفية في استعمار أسيا الصغرى آثار فرنسا في استعمار مصر، ولكن فرنسا ضربت صفحا عن فتح مصر بعد أن خذل نابوليون في سنتي 1798-1799، فظهر من ذلك عدم موافقة هذه السياسة الاستعمارية التي اتخذتها، ولكن ألمانيا لا ترمي إلى غرض خدمة الإنسانية ونشر المدنية في أسيا الصغرى كما كانت آمال فرنسا في مصر؛ بل هي ترمي إلى توطيد أقدامها على شواطئ البحر الأبيض الشرقية حتى إذا نالت آمالها سعت في نشر نفوذها إلى الخليج الفارسي، فإذا تيسر ذلك كله لألمانيا بطرق سلمية فإنها تحمد حظها وتشكر طالعها؛ لأنها لا تنوي أن تغرر بنفسها في حرب شعواء ربما تجر كل دول أوروبا إلى ميدانها وربما تعود عليها بالخراب والدمار، ولكن حصول ألمانيا على أمانيها بطرق سلمية يستلزم أمرا واحدا وهو رضى كل الدول المعاكسة لها، وجوابا عن هذا السؤال نقول: إن لألمانيا وسيلتين تنال بهما آمالها السياسية، وسنبحث في الوسيلة الأولى نظريا مع علمنا وتحققنا بأنها لا توصل ألمانيا إلى أغراضها، ولكن أقلام كبار الساسة قد اشتبكت في البحث في هذا الموضوع وبحت أصوات الخطباء من كثرة الجدل بشأنه فلا يليق بنا أن نهمله. وهذا الموضوع هو ما يعرف عند الساسة بالاتحاد الألماني، فإن فريقا من السياسيين النظريين يقولون بقرب انحلال إمبراطورية النمسا والمجر، فإذا تم هذا الانحلال تضم ألمانيا إلى نفسها الشعب النمسوي الذي يتكلم اللغة الألمانية وغيره ممن يرغبون في الانضمام إليها.
ونحن نرى أن هذا الأمر لا يتم لصعوبة حدوثه ولكثرة العقبات التي تقف في طريق إتمامه، وأول دليل على صدق ما نقول هو أننا لا نرى أمامنا دليلا واضحا على قرب انحلال إمبراطورية النمسا والمجر، ولو فرضنا أن هذا الانحلال يحدث فنحن لا نرى سببا يستلزم سرور ألمانيا عند حدوثه، فإن مشروع ضم النمسا إلى ألمانيا يضر بها أكثر مما ينفعها وقد صرح بذلك بسمارك نفسه ومن جاء بعده من أكابر ساسة الألمان، فإن ألمانيا تجد صعوبة شديدة في حكم رعاياها الكاثوليك، فهي إذا ضمت النمسا إليها تكون قد ضمت اثنى عشر مليونا من الكاثوليك ، ويستلزم هذا العدد الكبير أن ينتخب منهم لمجلس الريشتاج عدد وافر وهذا ما لا ترضاه ألمانيا؛ لأنه لا يوافق سياستها أن تكون الأغلبية في مجلس الريشتاج للكاثوليك دون البروتستانت، وعدا ذلك فإن ألمانيا تجد أمامها عقبة أخرى وهي حل مسألة المجر؛ لأن هؤلاء لا يمكن أن ينضموا إلى الاتحاد الألماني بطرق سلمية ولو أرغموا بالقوة الجبرية على الانضمام إلى ألمانيا.
على أنهم يكونون عاملا مضرا بألمانيا في داخل بلادها فتقف ألمانيا إذن بين عاملين مضرين يهددانها دائما بخطر عظيم وهما البولونيون والمجريون، ولو فرضنا أن ألمانيا تتغلب على تلك العقبات كلها وتتمكن أخيرا من ضم النمسويين والمجريين بلا مقاومة إلى بلادها، فإن دول أوروبا لا تسمح لها بمثل هذا الاتحاد لأنه تنتج عنه في وسط أوروبا إمبراطورية عظيمة جدا تفوق كل دولة، وتستطيع أن تكون هي الإمبراطورية الوحيدة النافذة الكلمة، المسموعة الأمر في أوروبا كلها، وهذا يؤدي إلى إذلال باقي الدول وعجزها عن مقاومة تلك الإمبراطورية الألمانية العظيمة، على أن باقي الدول تخشى خطرا آخر إذا تم هذا الاتحاد وهو أن ألمانيا تأخذ مكان النمسا في استعمار البلقان وبعد أن تضع يدها على تركية أوروبا تمد يدها إلى سالونيك، فإذا صارت في سالونيك صار وضع يدها على آسيا الصغرى أسهل من السهل.
على أننا أثبتنا استحالة تحقيق هذا الحلم؛ ولذلك نضرب عنه صفحا في كلامنا عن السياسة العملية لأن كل ما ذكرناه ليس إلا نوعا من السياسة اسمه السياسة النظرية وهي سياسة القول وليست سياسة العمل، ولم نكن نقصد أن نشير إلى هذا الاتحاد الألماني وسياسته لو لم يكن ساسة أوروبا قد كتبوا المجلدات الضخمة ليثبتوا إمكان وقوع هذا الأمر وتحقيق ذلك الحلم، وهنا نكتفي بذكر كتاب «شرا دام» الذي كتب في هذا الموضوع.
ولذلك يجب علينا أن نشتغل أولا بمساعي ألمانيا لوضع يدها على آسيا الصغرى بالوسائل السياسية؛ لأن نظارة ألمانيا الخارجية لم تدبر عملا ولم ترسم خطة إلا معتمدة على إتمام هذا المشروع، فإذا نظرنا إلى سياسة ألمانيا الخارجية من هذه الجهة نستطيع حينئذ أن نقدر اهتمام ألمانيا بالمسألة المصرية حق قدره.
إن مصر لا تهم ألمانيا مباشرة وهذا يقلل كثيرا من اشتغال ألمانيا بمستقبل هذه البلاد ما دام نصيبها في الدين المصري مضمونا، ولا نرى أن ازدياد تجارة ألمانيا ونمو عدد سفنها التي تمر بقنال السويس يغير سياسة ألمانيا بشأن مصر؛ لأنه في زمان السلم لا توجد دولة تعوق حرية المرور في قنال السويس، فإن الدول كلها تساعد جهد طاقتها لتسهيل المرور بهذا القنال وفي وقت الحرب، فالدولة القوية تمنع الدولة الضعيفة وتنقلب كل المعاهدات والمحالفات والاتفاقيات ويصير الحق للقوة، فسيرى القارئ أن ألمانيا على كلتى الحالتين آمنة مطمئنة. فيظهر مما قدمنا أن المسألة المصرية لألمانيا ليست إلا مسألة ثانوية في سياستها الخارجية ولا نغالي إذا قلنا إنه من صالح ألمانيا أن يبقى المركز السياسي في مصر كما هو؛ لأن ألمانيا ترمي إلى وضع يدها على آسيا الصغرى بالشكل الذي وضعت إنكلترا به يدها على مصر، وتمتاز ألمانيا على إنكلترا بأنها تريد أن تجعل مركزها في آسيا الصغرى مركزا دائما؛ فلذلك لا نرجح أن ألمانيا تحاول أن تقاوم إنكلترا في مصر لأنها ترغب أن تكون بريطانيا سابقة لها في احتلال مثل احتلالها، وتود أن يستمر احتلال مصر احتجاجا حيا في وجه من يلوم ألمانيا على احتلالها لآسيا الصغرى، ولا يخفى علينا أيضا أن بريطانيا هي الدولة الوحيدة التي تخشى ألمانيا بأسها.
ولا ننكر أن الصحف كثيرا ما تشيع بقرب شبوب نار الحرب بين ألمانيا وروسيا وكثيرا ما يطير البرق خبر توتر العلائق بين برلين وبطرسبرج، ولكن كل هذه الإشاعات وتلك الأخبار ليست إلا من مختلفات الصحف التي تجتهد دائما في استلفات أنظار قرائها بمثل تلك الأخبار. وقد ذكرنا فيما مضى آمال روسيا الاستعمارية معززين قولنا بالأدلة الواضحة ونحن متحققون من أن تلك الآمال هي التي تجعل ألمانيا في مأمن من وقوع حرب بينها وبين روسيا، ونقول هنا إن روسيا قد عقدت آمالها على «ما بين النهرين» وألمانيا على «آسيا الصغرى»، فليس في سياسة الدولتين ما يوجب تزاحم مصالحهما المختلفة.
هذا - ولا ريب في أن تحسن العلائق بين تينك الدولتين هو الوسيلة الأولى لنجاحهما في سياستهما وقد لوحظ في الأيام الأخيرة - فإنه كلما نشأ خلاف بين الدولتين كانتا تسعيان جهد طاقتيهما في إطفاء ناره؛ لأن الروس والألمان مضطرون لأن تكون دولتاهما يدا واحدة لأسباب شتى، منها أن كلتا الدولتين تتألمان من البولونيين الذين يهددون سلامهما، فكل واحدة منهما تسعى في إخماد أنفاس أهل بولاندا لتستريح هي وجارتها، ومنها أن سياسة كل دولة منهما قد اتخذت طريقا مخالفا للطريق التي اتخذتها سياسة الدولة الأخرى، فمن المستحيل إذن أن تصطدم السياستان فتحدثان شقاقا بين الدولتين وقد ساد السلام وتم حسن التفاهم بين الدولتين منذ 1762 ولم يزل سائدا إلى الآن، وهذا من الغرابة بمكان؛ لأن تاريخ السياسة لا يحفظ ذكر دولتين ساد بينهما السلام قرنا ونصف قرن تقريبا بدون أن يحدث ما يكدر صفوه أو يخدش وجهه.
فيرى القارئ من هذا أن ألمانيا لا تخشى معاكسة روسيا ولم تبق إلا بريطانيا العظمى التي تخاف ألمانيا مقاومتها لها في آسيا الصغرى؛ فلذلك تود ألمانيا أن تكون إنكلترا مغلولة الأيدي في مصر لأن في بقائها في وادي النيل حجة عظيمة عليها إذا وقفت في وجه ألمانيا وأقلقت راحتها في أسيا الصغرى، لكن لا يفوتنا أن سياسة ألمانيا لا تزال مقلقلة وكل ما يعرف عنها هو رغبتها في استعمار بلاد واسعة يلجأ إليها أبناؤها الذين تضيق عليهم بلادهم، ولكن لا يمكننا أن نتحقق من معرفة هذا الميدان الذي تنوي ألمانيا استعماره؛ سيما بعد حوادث الصيف الماضي التي قلبت سياسة الشرق رأسا على عقب حتى أصبح إبداء رأي سليم من الخطل عن مستقبل السياسة الشرقية من أصعب الأمور، ومن راقب السياسة الدولية يذكر أنه رأى تغيرا مهما في سياسة ألمانيا الخارجية؛ لأن قليلا من غير الألمان يعرفون التقدم السريع والنجاح الباهر اللذين حازتهما ألمانيا في مراكش في خلال العشر سنوات الماضية.
ناپیژندل شوی مخ