وخطر ببالي أنه لا بد من حق وحقيقة، ولا بد في ذلك من سبيل وطريقة، فوجدت الطريق إلى النجاة هو التفكر لتمييز الحق من الباطل، ورأيت العقلاء يفزعون إلى النظر إذا دهمتهم المعضلات وحزبتهم المشكلات، فنظرت في المسائل مسألة مسألة حتى استوفيتها، وتصفحت الأدلة والشبه حتى عرفتها، وتبينت متعلق كل طائفة وحجج كل فرقة، ووجدت سبيل الحق ظاهرة، وبراهينه لائحة، ومذاهب كل المبطلين داحضة، ومقالتهم متناقضة، ورأيت القوم ذهبوا في الضلالة كل مذهب لضروب من الدواعي، وانصرفوا من الحق لضروب من الصوارف، منها: الإلف والعادة، فإن العدول عن المألوف مما يصعب ويشق، ومنها التقليد، إما للآباء وإما للرؤساء، كما قالوا: ?إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون?[الزخرف:23]، ومنها الهوى الذي يميل بالرجل عن سواء السبيل، ومنها الرئاسة وما فيها من المنافسة، ومنها الإعراض عن النظر الصحيح، والإشتغال إما بالشبه أو بالهوى واللعب، ومنها العناد، إلى غير ذلك، فإن دعاوي الباطل كثيرة، والصوارف عن الحق جمة، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وآله -: ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)).
ووجدت أولى ما يشغل به المرء العاقل أمور دينه من علم يحصله ثم عمل يعمل به، فإن مبني أمور العقلاء على شيئين: جلب نفع، ودفع ضرر، ولا نفع أعظم من الثواب، ولا ضرر أعظم من العقاب، فلا شيء من المنافع يرغب العاقل في طلبه إلا وهو حاصل في الثواب، فمنها أنه نعمة، ومنها أنه كثير، ومنها أنه دائم، ومنها أنه خالص غير مشوب بما ينغصه، ومنها أنه مستحق، ومنها أن النعيم فيه يدوم له، ومنها أنه يقارنه التعظيم إلى غير ذلك من الوجوه.
مخ ۲۶