93

تفسير الشعراوي

تفسير الشعراوي

ژانرونه

إقامة الصلاة معروفة. وهي تبدأ بالتكبير وتختم بالتسليم. بشرائطها من عناصر القيام والركوع والسجود. ولكن الحق يقول { وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين } [البقرة: 43] إما أنه يريد منهم أن ينضموا إلى موكب الإيمان الجامع لأن صلاتهم لم يكن فيها ركوع. إذن فهو يريدهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. ولا يظنوا أن إيمانهم بموسى عليه السلام يعفيهم من أن يكونوا خاضعين لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. ويقولون ديننا كافينا. إنما جاء الإسلام لمن لا دين له وهم الكفار والمشركون.. فيقول لهم: { واركعوا مع الراكعين } [البقرة: 43]. إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتهم إلى أن صلاتهم لن تقبل منهم إلا أن يكون فيها ركوع، وصلاة اليهود ليس فيها ركوع.. وإن كان فيها سجود، وفي كلتا الحالتين فإن الحق سبحانه وتعالى يلفتهم إلى ضرورة الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم. الحق سبحانه وتعالى حينما قال:

ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا

[البقرة: 41] يريد أن يلفتهم إلى أن العكس هو المطلوب وأنهم كان يجب أن يشتروا الإيمان ويختاروا الصفقة الرابحة. ولن يحدث ذلك إلا إذا آمنوا بالرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم.. فهذا هو الطريق الوحيد لرضا الله سبحانه وتعالى. الله سبحانه وتعالى يريد أن يهدم تكبرهم على الدين الجديد فأمرهم بالصلاة كما يصلي المسلمون، وبالزكاة كما يزكي المسلمون. فلا يعتقدون أن إيمانهم بموسى والتوراة سيقبل منهم بعد أن جاء الرسول الجديد الذي أمروا أن يؤمنوا به، بل إن إيمانهم بموسى والتوراة - لو كانوا مؤمنين بهما حقا - يستوجب هذا الإيمان عليهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لأن التوراة تأمرهم بذلك. فكأن عدم إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم كفر بالتوراة ونقض لتعاليمها. والصلاة كما قلنا.. استحضار العبد وقفته بين يدي ربه، وحينما يقف العبد بين يدي الله.. لابد أن يزول كل ما في نفسه من كبرياء، ويدخل بدلا منه الخشوع والخضوع والذلة لله، والمتكبر غافل عن رؤية ربه الذي يقف أمامه. إنما عدم إيمانهم بهذا النبي، والوقوف بين يدي الله للصلاة كما يجب أن تؤدى، وكما فرضها الله تعالى من فوق سبع سماوات. إنما هو رفض للخضوع لأوامر الله. وبعد ذلك تأتي الزكاة. لأن العبد المؤمن لابد أن يوجه حركة حياته إلى عمل نافع يتسع له ولمن لا يقدر على الحركة في الحياة. والله سبحانه وتعالى حينما يطالبنا بالسعي في الأرض لا يطالبنا أن يكون ذلك على قدر احتياجاتنا فقط، بل يطالبنا أن يكون تحركنا أكثر من حاجة حياتنا حتى يتسع هذا التحرك ليشمل حياة غير القادر على حركة الحياة. فيتسع المجتمع للجميع، ويزول منه الحقد والحسد، وتصفى النفوس.

[2.44]

بعد أن لفت الله أنظار اليهود إلى أن عدم إيمانهم بالإسلام هو كفر بالتوراة.. لأن تعاليم التوراة تآمرهم أن يؤمنوا بالرسول الجديد، وقد أعطوا أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزمنه في التوراة، وأمروا أن يؤمنوا به. قال تبارك وتعالى: { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم } [البقرة: 44] لقد كان اليهود يبشرون بمجيء رسول جديد، ويعلنون أنهم سيؤمنون به. فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن من قومهم كفروا به لأنهم كانوا يريدون أن تكون السطوة لهم بأن يأتي الرسول الجديد منهم. فلما جاء من العرب.. عرفوا أن سطوتهم ستزول، وأن سيادتهم الاقتصادية ستنتهي، فكفروا بالرسول وبرسالته. ولابد أن ننبه إلى أنه إذا كانت هذه الآيات قد نزلت في اليهود، فليس معناها أنها تنطبق عليهم وحدهم، بل هي تنطبق على أهل الكتاب جميعا، وغير المؤمنين. فالعبرة ليست بخصوص الموضوع، ولكن العبرة بعموم السبب. إن الكلام منطبق هنا حتى على المسلمين الذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا وهؤلاء هم خطباء الفتنة الذين رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تقرض شفاهم بمقارض من نار. فسأل: من هؤلاء يا جبريل: فقال خطباء الفتنة. إنهم الذين يزينون لكل ظالم ظلمه. ويجعلون دين الله في خدمة أهواء البشر. وكان الأصل أن تخضع أهواء البشر لدين الله، وهؤلاء هم الذين يحاولون - تحت شعار التجديد - أن يجعلوا للناس حجة في أن يتحللوا من منهج الله. فهم يبررون ما يقع. ولا يتدبرون حساب الآخرة. إن علماء الدين الذين يحملون منهج الله ليس من عملهم تبرير ما يقع من غيرهم، ومنهج الله لا يمكن أن يخضع أبدا لأهواء البشر، وعلى الذين يفعلون ذلك أن يتوبوا ويرجعوا إلى الله، ويحاولوا استدراك ما وقع منهم لأن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. وقوله الحق سبحانه وتعالى: { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم } [البقرة: 44] يعطينا منهجا آخر من مناهج الدعاة. لأن الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحمل منهج الله.. يريد أن يخرج من لا يؤمن من حركة الباطل التي ألفها. وإخراج غير المؤمن من حركة الباطل أمر شاق على نفسه لأنه خروج عن الذي اعتاده، وبعد عما ألفه، واعتراف أنه كان على باطل لذلك فهو يكون مفتوح العينين على من بين له طريق الإيمان ليرى هل يطبق ذلك على نفسه أم لا؟ أيطبق الناهي عن المنكر ما يقوله؟ فإذا طبقه عرف أنه صادق في الدعوة، وإذا لم يطبقه كان ذلك عذرا ليعود إلى الباطل الذي كان يسيطر على حركة حياته. إن الدين كلمة تقال، وسلوك يفعل.

فإذا انفصلت الكلمة عن السلوك ضاعت الدعوة. فالله سبحانه وتعالى يقول:

يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون

[الصف: 2-3]. لماذا..؟ لأن من يراك تفعل ما تنهاه عنه يعرف أنك مخادع وغشاش. وما لم ترتضه أنت كسلوك لنفسك. لا يمكن أن تبشر به غيرك. لذلك نقرأ في القرآن الكريم:

لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا

[الأحزاب: 21]. فمنهج الدين وحده لا يكفي إلا بالتطبيق. ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمر أصحابه بأمر إلا كان أسبقهم إليه، فكان المسلمون يأخذون عنه القدوة قولا وعملا، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين يريد أن يقنن أمرا في الإسلام يأتي بأهله وأقاربه ويقول لهم: لقد بدا لي أن آمر بكذا وكذا، والذي نفسي بيده من خالف منكم لأجعلنه نكالا للمسلمين. وكان عمر بن الخطاب بهذا يقفل أبواب الفتنة، لأنه يعلم من أين تأتي. وفي الدعوة الإسلامية.. لابد أن يكون العلماء قدوة لينصلح أمر الناس. ففي كل علوم الدنيا القدوة ليست مطلوبة إلا في الدين. فأنت إذا ذكر لك عالم كيمياء بارع، وقيل لك إنه يتناول الخمر، أو يفعل كذا. تقول مالي وسلوكه. أنا آخذ عنه علم الكيمياء لأنه بارع في ذلك، ولكن لا شأن لي بسلوكه. وكذلك كل علماء الأرض ما عدا عالم الدين. فإذا كان هناك عالم يبصرك بالطريق المستقيم، وتتلقى عنه علوم دينك ثم بعد ذلك تعرف أنه يشرب الخمر أو يسرق. أتستمع له؟ أبدا. إنه يهبط من نظرك في الحال، ولا تحب أن تسمعه، ولا تجلس في مجلسه. مهما كان علمه. ستقول له كفاك: دجلا. وهكذا فإن عالم الدين لابد أن يكون قدوة. فلا ينهى عن منكر ويفعله، أو يأمر بمعروف وهو لا ينفذه. فالناس كلهم مفتحة أعينهم لما يصنع، والإسلام قبل أن ينتشر بالمنهج العلمي انتشر بالمنهج السلوكي، وأكبر عدد من المسلمين اعتنق هذا الدين من أسوة سلوكية قادته إليه. فالذين نشروا الإسلام في الصين كان أغلبهم من التجار الذين تخلقوا بأخلاق الإسلام، فجذبوا حولهم الكثيرين فاعتنقوا الإسلام. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:

ناپیژندل شوی مخ