14
{ وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا } أى ذكروا ما يفيد أنهم آمنوا ، وسائر الأقوال والأفعال ، وذلك أن الإيمان قد علم منهم فى الظاهر قبل ذلك ، وذلك دفع للمؤمنين عن أنفسهم واستهزاء ، ولا يتكرر مع ما مر؛ لأنه إبداء لخبثهم وخوفهم ، وادعاء أنهم أخلصوا الإيمان ، ولأنه بيان لكونهم يقولون ذلك خداعا واستهزاء ، وأنهم يقولون ذلك عند الحاجة إليه فقط ، وذلك عند لقاء المؤمنين { وإذا خلوا } عن المؤمنين راجعين { إلى شيطينهم } أو خلوا مع شياطينهم ، يقال ، خلوت إليه ، أى معه ، وشياطينهم رؤساؤهم ، كعب بن الأشرف من اليهود فى المدينة ، وأبو بردة فى أسلم ، وعبد الدار فى جهينة ، وعوف بن عامر فى أسد ، وعبدالله بن الأسود فى الشام ، وغيرهم ممن يخافونه ، من كبار المشركين والمنافقين ، سماهم شياطين تشبيها لمزيد فسادهن وإغوائهم ، وذكر بعض أن هؤلاء المذكورين كهنة ، وقيل : الشيطان حقيقة فى كل متمرد من الجن أو من الإنس وليس المراد الكهنة خلافا للضحاك ، ولو كان مع كل كاهن شيطان ، لأنهم أهون من أن يتملقوا إليهم ، بقولهم ، إنا معكم ، كما قال الله عنهم { قالوا إنا معكم } فى الدين اليهودى ، إن أريد بشياطينهم اليهود ، وإن أريد به مشركو العرب فالمراد فى الإشراك { إنما نحن مستهزءون } بالمؤمنين فى قولنا ، آمنا ، لا مؤمنون حقيقة ، بل قلنا ذلك لنكف عن أنفسنا القتل والشر والسبى وبحلب الخير ، كالأخذ من الصدقة والغنيمة ، مع الاحتقار والتهكم بهم ، ولا تظنوا أننا تبعناهم ، والاستهزاء بمعنى الهزء ، كاستعجاب بمعنى العجب ، وهو الاستخفاف والسخرية ، وأصله الخفة ، يقال هزأت به الناقة أسرعت به .
روى أن أبى بن عبدالله وأصحابه جاءهم نفر من الصحابة لينصحوهم ، فقال لقومه ، انظروا ، كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم ، فأخذ بيد أبى بكر الصديق ، فقال ، مرحبا بالصديق وشيخ الإسلام ، ثم أخذ بيد عمر ، وقال مرحبا بالفاروق القوى فى دينه ، ثم أخذ بيد على ، وقال : مرحبا بابن عم رسول الله ، وسيد بنى هاشم ، فقال له : يا عبدالله ، اتق الله ولا تنافق ، فقال له : مهلا . يا أبا الحسن؛ إنى لا أقول هذا والله ، إلا أن إيماننا كإيمانكم ، ثم انترقوا ، وقال لأصحابه ، كيف رأيتمونى فعل فإذا رأيتموهم فافعلوا مثل ما فعلت ، فأثنو عليه ، وقالوا : لا نزال بخير ما دمت فينا .
وأخبر المسلمون النبى A بذلك فنزلت الآية ، وليس ذلك عين سبب النزول ، بل مناسبة؛ لأن أبيا قال لأصحابه ، انظرواكيف أفعل ، والجملة مستأنفة فى كلامهم بلا تقدير سؤال هكذا ، ما لكم توافقون المؤمنين ، لقول عبدالقاهر موضوع إنما أن تجىء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته ، إلا أنه قد يصور السؤال فى صورة لا تحتاج إليه فيجوز التقدير المذكور ، وقد لا نسلم قول عبدالقاهر إذا ادعى أنه ذلك أصل إنما ، وأن مدخلوها معلوم ، وحىء بها لإفادة الحصر ، وليس كذلك أيضا ، فإنك تقول : إنما قام زيد لمن لا شعور له بقيامه وحده ، ولا مع غيره ، ولا بقيام غيره دونه .
مخ ۲۱