1
الفاتحة
أتبرك في كل مباح وعبادة ، ولاتكتب البسملة في أول ديوان الشعر ، إلا إن كان علما أو وعظا ، أو نفعا لا محذور فيه شرعا . وأجاز سعيد بن جبير كتبها في أول ديوان الشعر ، ووجدتها مكتوبة في نسخة قديمة بأكثر من خمسمائة عام من ديوان الشعراء الستة ، معروضة على أبي على الشلوبين ، وأعطى الإجازة فيها لبعض تلامذته ، وعنه A ، لو أن أحدكم أراد أن يأتى أهله قال : بسم الله ، اللهم جنبنا الشيطان ، وجبن الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان وقال A : ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخلوا الكنيف أن يقولوا ، باسم الله ، أي إذا أرادوا الدخول . والله مختص به تعالى ، والإله أعم ، سواء أقلنا ، أصل لفظ الله إله أم لا فلا تهم ، وقرىء بنصب الرحمن ، وجر الرحيم ، والنصب على تقدير أحمد ، وسماه أبو حيان عطف توهم ، أي على طريق التوهم ، وأصاب . ووجه توهمه أن الإتباع بعد القطع ضعيف ، فلتسميته وجه ، ونص هو على ضعف ذلك ، لاختصاص التوهم بالعطف .
مخ ۱
2
{ الحمد لله } إخبار بأن الله مالك لجميع الحمد من الخلق ، أو مستحق لأن يحمدوه ، ومن ذكر الجملة وأراد بها الثناء على الفعل الجميل الاختيار تعظيما كان محصلا للحمد ، ولو لم يقصد الإنشاء ، ولا يجوز قصد الإنشاء على أن الآية نزلت إخبارا إلا لمن أراد غير الآية ، وإلا أن يقال ، المعنى قولوا هذه السورة ، فحينئذ يجوز لقارئها التصرف في الحمد بالإخبار والإنشاء ، لكن الإنشاء بالجملة الاسمية قليل . ومختلف فيه ، ولا يحمد الله على صفاته ، بل على أفعاله ، وقيل بالجواز على إسقاط لفظ الاختيارى من الحد ، أو على أن المراد به نفى الضرورة ، وصفاته ليست ضرورية ، كما أنها ليست اختيارية ، لا إله إلا الله ، سبحان الله ، ولفظ الجلالة لا يدل على فعل ولا صفة ، بل على الذات ، فهو جامد ، وقيل : أصله الاشتقاق من لفظ يدل على معنى العبادة ، أو العلو ، أو الطرب . أو التحير ، أو الاحتجاب ، أو نحو ذلك ، بمعنى خلقه احتجبوا عن رؤيته ، بأن حجبهم عنها ومنعهم ، وليس هو بمحتجب ، وفزعوا إليه واضطربوا وتحيروا ، { رب } سيد { العلمين } أو مالكهم ، الناس عالم ، والملائكة عالم ، والجن عالم ، والفرس عالم ، والجبال عالم ، والنبات عالم ، والفعل عالم ، والاعتقاد عالم ، وهكذا كل صنف عالم ، الجميع عالمون ، جمع تغليبا للعاقل جع قلة . إيذانا بقلتهم بالنسبة إلى قدرته تعالى على خلقه ، أصنافا غير الموجودة ، وسميت لأن فيها علامة الحدوث . كالتركيب والحلول ، وعلامة وجود الله .
مخ ۲
3
{ الرحمن } المنعم بالنعم العظيمة ، أو مريد الإنعام به ، وليس معربا من رحمن بالخاء المعجمة كما قيل { الرحيم } المنعم بالنعم التي دون تلك ، أو مريدها ، وليس بينها عموم وخصوص على هذا ، فضلا عن أن يقال ، قدمت الخاصة على العامة ، وإنما ذلك لو فسر الرحيم بالمنعم بمطلق النعم ، أو هما سواء ، كنديم وندمان ، جمعا تأكيدا ، كما روى ، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ، وعلى الأخصية ، فقد قيل بجواز تقديم الصفة الخاصة على العامة للفاصلة ، كما في قوله تعالى « رءوف رحيم » . وقوله تعالى : « رسولا نبيا » . وقيل : يا رحمن الدنيا ، لأنه يعم المؤمن والكافر ، ورحيم الآخرة ، لأنه يخص المؤمن . وقيل : يا رحمن الدنيا والآخرة ، ورحيم الدنيا ، لأن نعم الآخرة كلها عظام ، وأما نعيم الدنيا فجليلة وحقيرة ، وهي هنا مبنية على الميم ، نظير النون في العالمين والدين .
مخ ۳
4
الجزاء بالجنة والنار ، وخصه لأنه لم يجعل فيه مالكا ، بخلاف الدنيا ، ففيها ملوك ، والملك السلطان القاهر ، هو مالك يوم الجزاء إذا حضر يوم الجزاء ، أو صفة مبالغة ، أي أنه مالك ليوم الدين ملكا قويا ، إذا شاء أحضره ، ولك تقدير مالك الأمور يوم الدين ، كما ملكها في الدنيا ، أو ملكها فيه وحده .
مخ ۴
5
{ إياك } قدم للحصر ، والثاني للحصر والفاصلة ، ومقتضى الظاهر ، إياه نعبد ، وإياه نستعين ، ليهدنا بلام الدعاء ، أنعم عليهم بصيغ الغيبة مثل ما قبله ، إلا أنه لما أتى بالأوصاف الكاملة من كمال الرحمن المشاهدة ، وصفات الجلال المحود عليها ، وقدرته الكاملة بتدريج الأفهام في ذلك على وجه الغيبة ، وقوى برهان ذلك صار الغائب شاهدا بتكلم معه بصيغ الخطاب ، وفي صيغة الخطاب تلذذ { نعبد } نخدم بكل ما نقدر عليه ، وهذا العموم أفاده الإطلاق القابل لكل ممكن على سبيل البدلية ، فيحمل على العموم الشمولى الشامل لكل أفراد البدلى ، وكذا في قوله : { وإياك نستعين } على تحصيل العبادة والمباح ، وعلى دفع المعاصى عنها والمضار ، وخدمته إما للشراب والهروب عن العقاب ، وذلك زهد ، وهى عبادة ، وإما للشرف بها والنسبة إليه تعالى ، وهى عبودية ، وإما لإجلاله ، وهى عبودية ، وهى أعلى ، وقدم العبادة لنتوسل بها إلى دفع المكروه ، وجلب المحبوب ، أو قدمها لأن المراد بها التوحيد ، فذكر بعدها الاستعانة على مطلق العبادة ، وأيا كان الأمر فالواو لا ترتب ، وفى الوجه الأخير حصول التخلى قبل التجلى .
مخ ۵
6
ما لم يكن عندنا من الدين حتى يتم عندنا ، وللذين اهتدوا زادهم هدى ، ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ، أو أدمنا عليه ، والأصل اهدنا الصراط ، أو إلى الصراط ، والمراد هدى البيان ، أو هدى الإيصال بأن نقيم عليه ، ولا نموت على خلافه ، أو التوفيق للعمل والتقوى .
مخ ۶
7
{ صرط الذين أنعمت عليهم } بعلم الدين والعمل به ، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من كل أمة { غير } قال سيبويه : نعت الذين ، لأن الذين كالنكرة ، لأنه جنس ، ولفظ غير نكرة ولو أضيف إلى معرفة ، ولا سيما أنه أضيف لمعرفة هى للجنس فهى كالنكرة ، وعندى جواز إبدال لمشتق الوصف وما أول به . { المغضوب عليهم } اليهود المخالفين لموسى وعيسى . { ولا الضالين } النصارى المخالفين لها ، قال A : « المغضوب عليهم لتقدمهم زمانا ، ولأن الإنعام يقابل بالانتقام ، ولأنهم أشد في الكفر والعناد والفساد ، وأشد عداوة للذين آمنوا ، ولأنهم كفروا بنبين ، عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم ، والنصارى بواحد ، وهو سيدنا محمد A » وروى ابن عدى والديلمى والسلفى عنه A : من لم يجد صدقة فليلعن اليهود .
مخ ۷
1
سورة
البقرة
بسم الله الرحمن الرحيم الله هو العالم بمعناه ، وبمعنى ، المص ، و ، المر ، الر ، و ، كهيعص ، و ، طه ، و ، طسم ، و ، طس ، و ، يس ، و ، ص ، و ، حم عسق ، و ، ق ، و ، ن ، وأذكر ما قيل ، الهمزة الله ، واللام لطيف ، قال الخليل : نحو به ، وكه ، بالحركة وهاء السكت ، مسميات ، ونحو الباء والكاف اسم ، قلت ، فمسمى الهمزة ، أه بالحركة بعدها هاء السكت ، والاسم ءاء بهمزتين بينهما ألف ، ولم ينطق غيرى بهذا .
مخ ۸
2
{ ذلك الكتب } القرآن ، الشبيه في علو شأنه بالعالى حسا كالعرش ، وأصل الإشارة أن تكون إلى محسوس ، فإذا أشير إلى غير محسوس لاستحملة إحساسه ، مثل ، ذلكم الله ربكم ، أو لعدم حضوره نحو ، تلك الجنة ، فلتحققه كالمشاهد ، وعبارة البد للتعظيم ، ولأن كل ما انقضى ، أو ليس في يدى فهو بعيد { لا ريب فيه } ليس أهلا لأن يشك فيه عاقل ، لظهور براهينه . ومن شك فيه ، أو من الله ، فلقصور نظره ، أو عدم استعمال عقله . قيل ولا ريب فيه عند الله والمؤمنين والنبى ، ويضعف أن يكون المعنى ، لا تشكوا فيه ، لما علمت من ضعف مجىء الجملة الاسمية للإنشاء ، { هدى } من الشرك والمعاصى { للمتقين } الذين قضى الله أن يرجعوا إلى التوحيد والعبادة ، وترك المعاصى ، والحذر منها ، ومن العقاب عليها ، أو ذلك ثابت لهم أو زيادة ، أو أراد للمتقين وغيرهم ، فحذف ، وهذا ضعيف ، أو خصهم ، لأنهم الفائزون ، كقوله تعالى : « إنما أنت منذر من يخشيها » وهذا على الحذف ، والتقوى تقوى الشرك ، وهى تقوى العوام ، ولا تنفع فى الآخرة بلا أداء فرض ، واجتناب فسق ، وتقوى الخواص ، وهى تقوى الشرك والمعاصى مع أداء الوجب والسنن المؤكدة ، وتقوى خواص الخواص ، وهى تقوى ما يشغل عن الله ، D ، ويسميه بعض العلماء ورع الصديقين ، وهدى خبرثان لذلك ، أو لا ريب محذوف الخبر ، وفيه خبر لهدى .
مخ ۹
3
{ الذين يؤمنون } في قلوبهم وألسنتهم لا فيها فقط { بالغيب } بذى الغيب أو الغائب ، وهو الله ، جل جلاله ، وما أخبر عنه مما سيكون في الدنيا أو الآخرة ، أو كان ولم يشاهدوه أو آمنوا بذلك ، وهم في غيب عنه { ويقيمون الصلوة } يأتون بها في وقتها المختار ، لا الضرورى إلا لعذر بطهارة ، وخشوع وإخلاص ، وترك ما يكره حتى كأنها كجسم مستقيم لا عوج فيه ، أو كسوق أقيمت ورغب فيها ، وذلك مستتبع لإقامة صلاة النفل إلا أنه لاعقاب عليها ، وقال الجمهور : المراد صلاة الفرض ، وعليه ابن عباس ، ومثل هذا اللفظ حقيقة شرعية عن معنى لغوى مجاز لغوى؛ كما هو المشهور ، وقال الباقلاني مجاز ، وقال المنزلة حقيقة شرعية مخترعة ، وليست منقولة عن معان لغوية { ومما رزقنهم } طعاما أو دارهم أو ثيابا ، أو دواب ، أو عقارا ، أو غير ذلك من الحلال ، إذ لا مدح بإنفاق الحرام ، لأن التصرف فيه وإمساكه كفر { ينفقون } في طاعة الله ، كإنفاق من تجب نفقته من أهل ورحم وتنجية مضطر ، وضيف وإنفاق الزكاة ، وكإنفاق تطوع ، وكإنفاق نفسه بنية أن يتقوى على العبادة وأن ينفر عن مال الناس ، قيل ، إن أريد بالتقوى في قوله ، المتقين ، اتقاء المشرك فالذين . . . الخ صفة مخصصة . أو ترك ما لا بأس به مخافة أن يقع في اليأس فمادحة ، كما فى حديث الترمذى عنه A : « لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا ما فيه بأس » .
مخ ۱۰
4
{ والذين يؤمنون بما أنزل إليك } القرآن وسائر الوحى { وما أنزل من قبلك } على الأنبياء ، من كتب وغيرها { وبالآخرة } البعث ، والموقف ، والجنة ، والنار ، قدم الاهتمام ، والفاصلة على قوله { هم يوقنون } وذكر الذين يؤمنون بما أنزل إليك تخصيص بعد تعميم ، وهو شامل لمن لم يكفر من أهل الكتاب بسيدنا موسى ، أو سيدنا عيسى ، عليهما السلام ، ولما بعث سيدنا محمد A لم يكفر به ، ولكنه طلب الدليل ، فآمن به A ، كعبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، أولئك يؤتون أجرهم مرتين ، وقيل : هم المراد ، وفي الآية ترغيب لأهل الكتاب بسيدنا موسى ، أو سيدنا عيسى ، عليهما السلام ، ولما بعث سيدنا محمد A لم يكفر به ، ولكنه طلب الدليل ، فآمن به A ، كعبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، أولئك يؤتون أجرهم مرتين ، وقيل : هم المراد ، وفى الآية ترغيب لأهل الكتاب في الإيمان ، وعطف الذين عطف صفة في وجه العموم ، وإن أريد مؤمنو أهل الكتاب فمجرد عطف أو مبتدأ خبره أولئك . . . إلخ .
مخ ۱۱
5
{ أولئك } الموصوفون بتلك الصفات ، العالون شأنا ومرتبة ، وقس على ذلك سائر إشارات البعد فى سائر القرآن . وما كان في السوء فإشارة البعد فيه للبعد عن مقام الخير { على هدى } متمكنون من الهدى تمكن الراكب من مركوبه ، القوى المطاوع الملجم بلجام فى يده المستولى { من ربهم } آت من ربهم ، أو ثابت منه دلالة وتوفيقا { وأولئك } كرر الإشارة إذ لم يقل وهم المفلحون ، تنبيها على مزيد الاعتداء بشأنهم ، وعلى أن اتصافهم بتلك الصفات يقتضى أن يحصل لهم الكون على الهدى من ربهم ، وكونهم مفلحين ، كما قال { هم المفلحون } الفائزون بالحظ الأكمل ، النجاة من النار ودخول الجنة ، وهذا حصر ، فمن ترك الصلاة أو الزكاة فليس مفلحا ، فهو فى النار مخلد ، لأن مقابل الإفلاح الخسار والهلاك .
مخ ۱۲
6
{ إن الذين كفروا } من سبقت لهم الشقاوة كأبى جهل وأبى لهب ، ممن نزل فيه الوحى ، أو لم ينزل { سواء عليهم ءأنذرتهم } أعلمتهم بما أنزل إليك مع تخويف فى وقت إمكان أن يتحرزوا بالإيمان عن الوعيد { أم لم تنذرهم لا يؤمنون } لسبق القضاء بأنهم لا يؤمنون ، أخبره الله بذلك ، لئلا يتأسف على من أعلمه الله بشقاوته ، وليقل أسفه على من أبى من الإيمان ، ولم يعلم ، أهو شقى ، إذ يقول ، لعله شقى ، فكيف أكثر التأسف عليه ، وعلى كل حال لا يترك الإنذار والتبليغ إليه .
مخ ۱۳
7
{ ختم الله على قلوبهم } لم يوفقهم ، سمى القلب قلبا لتقلبه ، روى البيهقى عن أبى عبيدة بن الجراح عن رسول الله A : قلب ابن آدم مثل العصفور ، يتقلب فى اليوم سبع مرات ، وليس المعنى فى الآية الإجبار ، جل الله شبه الخذلان بالربط أو الإعلاق على شىء حتى لا يدخله غيره ، فقلوبهم من حيث عدم نفوذ الحق إليها واستقراره فيها كالخابية والخريطة المختوم عليهما ، وهذا تصوير للمعقول بصورة المحسوس للإيضاح ، وكذا الختم فى قوله { وعلى سمعهم } أي آلات سمعهم ، فلذلك لا ينتفعون بما سمعوا من الحق ، قال A : إذا أذنب العبد ضم من قلبه هكذا ، فضم خنصره ، وإذا أذنب ضم من قلبه هكذا ، وضم التى تليها ، وهكذا إلى الإبهام . والمراد بالقلوب هنا الجسم اللطيف القائم بالقلب ، الكثيف الصنوبرى الشكل قيام العرض بالجسم ، وقيام الحرارة فى الوقود ، والبرودة بالماء ، وبهذا اللطيف يحصل الإدراك وترتسم المعرفة ، وكذا الأسماع يقوم بصماخها جسم لطيف يدرك الأصوات ، { وعلى أبصرهم غشاوة } غطاء عظيم ، كأنه لا يرون بها ، فيستدلون بما يرون على قدرة الله ، لما لم ينتفعوا فى الدين بالنظر بها كانوا كمن جعل على بصره غشاوة ، وفى ختم استعارة تصريحية تبعية . وفى غشاوة تصريحية أصلية ، أو الاستعارة تمثيلية ، شبه قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وأحوالهم المانعة من الانتفاع بأشياء معدة للانتفاع ، منع مانع من الانتفاع بها { ولهم } على كفرهم { عذاب عظيم } عظم شدة وأنواع ودوام ، ولم يعطف إن الذين كفروا لأن المراد ، والله أعلم ، استئناف بيان أن عدم اهتداء الأشقياء لسبق شقوتهم وبيان مقابلتهم بإصرارهم لمن اتصف بالكمال ومضاتدتهم ، لا لقصور فى القرآن عن البيان ، فإنه غاية فى البيان ، وإنما ضلوا باختيارهم للسوء ، كما قال قائل :
والنجم تستصغر الأبصار رؤيته ... والذنب للطرف لا للنجم في الصغر
مخ ۱۴
8
{ ومن الناس } أصله النوس بفتح الواو ، وقلبت ألفا لتحركها بعد فتح ، من ناس ينوس ، بمعنى تحرك ، ولا يخلو بنو آدم من تحرك ، ووجه التسميه لا يوجبها ، فلا يلزم أن يسمى ناسا كل ما يتحرك ، أو أصله أناس حذفت الهمزة ، وعوضت أل ، وهو من الأنس ضد الوحشية ، فالألف زائدة ، والناس يستأنس بهم ، قال بعض :
وما سمى الإنسان إلا لأنسه ... ولا القلب إلا أنه يتقلب
والأصل نيس بكسر الياء ، قلبت ألفا لتحركها بعد فتح ، ووزنه على هذا فلع من النسيان ، إذ لا يخلو من نسيان ، قال الله تعالى فى آدم : { فنسى ولم نجد له عزما } ويطلق على الجن مجازا ، وقيل حقيقة : { من يقول ءامنا } فى قلوبنا وألسنتنا إيمانا مستمدا { بالله } وجودا وألوهة ، ومخالفة لصفات الخلق { وباليوم الآخر } الوقت الآخر ، وهو وقت البعث إلى مالا نهاية له ، والوقت الأول وقت الدنيا ، ولا يقال اليوم الآخر وقت دخول الجنة والنار ، وقبله وقت وهو البعث وما بعده إلى الدخول ، لأن الإيمان بالبعث والموقف والحساب أيضا واجب { وما هم بمؤمنين } ذلك الإيمان الذى ادعوه ، بل الإيمان فى ألسنتهم والكفر فى قلوبهم ، والخروج عن مقتضاه فى جوارحهم .
مخ ۱۵
9
{ يخدعون } أي يخدعون ، بفتح الياء وإسكان الخاء ، فالمفاعلة ليست على بابها ، بمعنى الفعل ، وهو إظهار ما يوهم السلامة وإبطان ما يقتضى الإضرار بالغير ، أو التخلص منه ، أو هو أن توهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه ، وتصيبه به ، ودخل فى المكروه جلب نفع منه لا يسمح به لك أو لغيرك { آلله ولى الذين آمنوا } يظهرون خلاف ما أبطنوا ، ويظنون أن الله لا يعلم ذلك منهم . فأخبرنا الله D ، أنهم عاملوا الله والمؤمنين بالمكر ، والله لا يخفى عليه شىء ، أو يخادعون الله مخادعة مجاز ، على أنهم معتقدون لكون الله عالما بما فى قلوبهم ، وذلك أن تلفظهم بالإيمان ، وإظهار مقتضياته مع مخالفته فى الأعمال والقلوب شبيه بالخداع ، ويقدر محذوف ، أى ، ويخادعون المؤمنين خداعا حقيقيا ، إذ يدفعون بإظهار الإيمان وشأنه القتل والسبى وما يصنع بالمشركين ، ويجلبون الإكرام والمعاملة بمعاملة المؤمنين ، وإنما قدرت محذوفا لئلا يكون لفظ يخادع فى مجازه وحقيقته معا ، أو أراد يخادعون الذين آمنوا ، وذكر الله معهم إكراما وتعظيما لهم ، بأنه من خانهم فقد خان الله ، أو يخادعون نبى الله ، قال الله تعالى : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } { من يطع الرسول فقد أطاع الله } والحاصل أن لفظ المفاعلة مبالغة ، ويجوز إبقاؤها على معناها مجازا ، وذلك ، أنهم أظهروا الإيمان ، وهم كافرون ، والله D أجرى عليهم أحكام المؤمنين ، وهم عنده غير مؤمنين ، ولهم عنده الدرك الأسفل من النار ، وإجراء المؤمنين تلك الأحكام تشبه صورة المكر بهم ، إذ ليس لهم ما لمن تحقق إيمانه فى الآخرة ، وذلك استعارة تمثيلية فى الكلام ، أو مفردة تبعية فى يخادعون ، والله D لا يكون خادعا إذ لا يخاف أحدا ، ولا ينقض فعله أحد إذا أجهره ، ولا مخدوعا ، لأنه لا يخفى عليه شىء ، ولا يناله مكروه ، ولاينتفع بشىء ، وإذا قدرنا يخادعون نبى الله الله تقدير معنى ففيه إيقاع الفعل على غير ما يوقع عليه للملابسة بينهما ، وهى الخلافة ، فذلك مجاز عقلى فى النسبة الإيقاعية لا الوقوعية { وما يخدعون إلا أنفسهم } ما يعاملون بمضرة الخداع إلا أنفسهم؛ وهى الافتضاح بإخبار الله ، سبحانه وتعالى نبيه A بما أحفوه ، والعقاب فى الآخرة { وما يشعرون } لا يعلمون أن وبال العقاب راجع إليهم ، إنما فسرت يخادع بيخدع لأن الله والمؤمنين لا يخدعونهم .
مخ ۱۶
10
{ في قلوبهم مرض } كفر بالقرآن والنبي A ، وعداوته وعداوة المؤمنين ، وسره الاعتقاد والجهل ، وذلك شبيه بمرض الجسم فى الإيصال إلى مطلق الضر ، فإن المضر موجع وقاتل ومانع من التصرف فى المصالح ، وما فى قلوبهم مؤد إلى النار مانع من التصرف بأعمال الإسلام ، أو يشبه تألم قلوبهم بقوة الإسلام وانتظام أمره بتألمهم بمرض البدن ، فسمى التألم مرضا ، وحقيقة المرض حالة خارجة من الطبع ضارة بالفعل لا بالقوة خاصة ، والقرينة المشروطة فى المجاز تمنع الحقيقة ، ولا يلزم أن تمنع احتمال مجاز آخر . فلك حمل الآية علىهذا التألم ، وعلى ما ذكرت قبل { فزادهم } بسبب ذلك المرض { الله مرضا } بما أنزل من القرآن بعد ما كفروا بما أنزل منه قبل ، والله يجازى المذنب بالإيقاع فى ذنب آخر ، كما يجازى المطبع بالتوفيق إلى طاعة أخرى ، وكلما نزلت آية أو وحى كفروا به ، لأنه طبع على قلوبهم ، وذلك زيادة مرض { ولهم عذاب أليم } موجع بفتح الجيم والموجع بفتحها حقيقة هم لا العذاب ، لكن أكد شدة العذاب حتى كأنه معذب بفتح الذال ، وهذا بليغ ، ولا بلاغة فى قولك عذاب موجع ، بكسر الجيم ، فأليم فعميل بمعنى مفعل بضم الميم وفتح العين ، ولك إبقاؤه على ظاهره ، أى متوجع بكسر الجيم ، ففيه البلاغة { بما كانوا يكذبون } أى بتكذيبهم النبي A ، وما مصدرية ، وجرت عادتهم بالاكتفاء بالمصدر من خبر كان الذى بعدها ، والأصل أن يقال بكونهم يكذبون ، ولا حاجة إلى قولك بالتكذيب الذى كانوا يكذبونه النبي A ، أو يتكذيب يكذبونه A على أن ما اسم موصول ، أو نكرة موصوفة ، والهاء مفعول مطلق .
مخ ۱۷
11
{ وإذا قيل لهم } المعنى ، من الناس من يقول ، آمنا بالله وباليوم الآخر وهو كاذب ، ويقول ، إنما نحن مصلحون إذا قيل لهم لا تفسدوا ، ويقول ، أنؤمن كما آمن السفهاء إذا قيل لهم آمنوا ، ويقول للمؤمنين آمنا ، ويقول لأصحابه ، إنا كافرون { لا تفسدوا فى الأرض } بالكفر وأعماله وأعماله والمعاصى ، ويمنع الناس من التوحيد وأعماله ، فإن الإسلام صلاح الأرض ، والكفر فساد وليس من صفات الله ولا من أفعاله ، فإذا أزال الله الثمار أو نور البصر أو نحو ذلك ، فلا تقل أفسدها ، والأرض أرض المدينة ، أو جنس الأرض ، وليست للاستغراق { قالوا إنما نحن مصلحون } للأرض من مكارم الأخلاق كالصدقة وقرى الضيف ، وهذا جواب بالإعراض عما نهوا عنه من الكفر والمعاصى ، والأولى أن يكون الجواب له ، فيكون المعنى مصلحون الأرض بما نفعل من الكفر وأعماله ، والمنع الجواب له : فيكون المعنى مصلحون الأرض بما نفعل من الكفر وأعماله ، والمنع من التوحيد والإفساد هو ما عليه المؤمنون من التوحيد والدعاء إليه ، والعمل بمقتضاه ، وعطف الجملة على قلوبهم مرض ، أو على كانوا يكذبون فينسحب عليها معنى الباء ، والأصل فى التعليل أو السبية ، فى غير مقام مجرد الإخبار ، أن يكون بوصف معلوم عند المخاطب ولو بالالتزام ، وهذه الشرطية غير معلومة الانتساب لكن لا مانع من التعليل أو التسبب بما ليس عنده إخبار بالواقع ، وأنه أحق ، ولو لم يعرف ، وأنه كيف لا يعرف .
مخ ۱۸
12
{ ألا إنهم هم المفسدون } انتبهوا أيها الناس قد تأكد أن هؤلاء مفسدون دون المؤمنين ، فالحصر إضافى ، وإن فسرنا الفساد بالنفاق كان حقيقيا ، لأنه لا نفاق إلا فيهم بخلاف مطلق الفساد ، فى غيرهم من المشركين أيضا . والوجهان فى أنهم هم السفهاء . { ولكن لا يشعرون } بأنهم المفسدون ، أو بوبال كفرهم ، أو لا شعور لهم ألبتة ، هكذا ، ولو استعملوا عقولهم لشعروا . ذكر هنا الشعور لأن الفساد يعرف بلا تأمل . والسفة يعرف بالتأمل ، فذكر معه العلم كما قيل :
يقضى على المرء فى أيام محنته ... حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
ولم يذكر لكن فى المخادعة لأنه لم يتقدم عليها ما يتوهم منه الشعور .
مخ ۱۹
13
{ وإذا قيل } أى قال النبي A ، أو بعض أصحابه { لهم آمنوا } بما يقول النبي A { كما ءامن الناس } المعهودون الكاملون ، أصحاب النبى A ، ومن آمن به ، ولم يحضره بعد إيمانه ، وهو من التابعين لا من الصحابة ولو كان فى عصره { قالوا } فيما بينهم ، أو بحضرة من أمرهم بالإيمان ، بحيث يجدون السبيل إلى إنكار القول ، أو عند المؤمنين بحيث لا يسمعون ، قيل ، أو عند من لم يفش سرهم من المؤمنين لقرابة أو مصلحة ، وهو قول ضعيف ، والأصل أن المؤمن لا يستر عليهم وعلى كل كشفهم الله D ، ولو جهروا مطلقا لم يسمعوا منافقين { أنؤمن } توبيخ لمن أمرهم بالإيمان ولو غاب ، أو إنكارا لأن يكون الإيمان حقا يؤمر به { كما ءامن السفهاء } الصحابة ، ومن آمن ولو لم يكن صحابيا ، نسبوا من آمن إلى السفه ، وهو الجهل ووضع الشىء فى غير وجهه ، ويطلق على نقصان العقل والرأى ، أو أرادوا من يحتقر من المسلمين لفقره ، أو ضعفه ، أو عبوديته كصهيب وبلال ، وأكثر المسلمين فقراء ، أو أرادوا بالسفه مطلق الخمسة بالجهل أو الفقر أو غيره ، والحاصل ، أنهم قالوا ، لا نفعل فعل السفهاء وهو الإيمان ، وذكر الله D نهى الناهى لهم عن الفساد ، ثم أمر الآمر لهم بالإيمان ، لأن التخلى قبل التحلى { ألا إنهم هم السفهاء } الجهلاء المحتقرون لكفرهم ، رد عليهم بأن السفه بالكفر ومساوىء الأخلاق لا بالفقر ، فلا يلزم أن يكون هذا معينا للتفسير الأول فى السفهاء { ولكن لا يعلمون } من السفيه وما السفه ، ذكر هنا العلم ، وهنالك الشعور ، لأن الإفساد يدرك بأدنى تأمل بخلاف السفه والأمر بالإيمان ، وأيضا السفه خفة العقل والجهل بالأمور ، فناسب نفى العلم أتم مناسبة .
مخ ۲۰