{ و } من الأركان المفروضة في دينكم أيها المحمديون { أتموا الحج } أي: الخصائل والسنك المحفوظة المفروضة فيه، وإن أدى إلى المقاتلة والمشاجرة { والعمرة } الأمور المسنونة فيه { لله } قاصدين التقرب إليه والتوجه إلى بابه؛ إذ الحج الحقيقي هو الوصول إلى الكعبة الحقيقية التي هي الذات الأحدية { فإن أحصرتم } منعتم وحبستم بعدما أحرمتم للحج والعمرة من الوصول إلى المقيات، وتتميم الواجبات { فما استيسر من الهدي } أي: فعليكم إذا أردتم التحلل والخروج من الإحرام، ذبح ما تيسر لكم حصوله من الهدي المحلل، مثل البقرة والبدنة والشاة وغيرها بحسب طاقتكم وقدرتكم، بأن تبعثوها إلى الحرم أو تذبوحها حيث أحصتم { ولا تحلقوا رؤوسكم } أيها المحصورون المريدون التحلل { حتى يبلغ الهدي محله } المبعوث إليه، أو تذبحونه في المكان المحصور فيه، والحاصل ألا تحلقوا رءوسكم قبل ذبح الهدي أو قبل وصولها إلى الحرم.
{ فمن كان منكم مريضا } أزداد بشعر الرأس { أو به أذى } ناشئا { من } شعر { رأسه } من تزاحم قمل أو صداع مفرط أو جرب مشوش وحلق لأجله { ففدية } أي فاللازم عليه الفدية سواء كان { من صيام } مقدر بثلاثة أيام للفقراء العاجزين عن غيره { أو صدقة } مقدرة بثلاثة آصع من الطعام للمتوسطين { أو نسك } من بدنة أو بقرة أو شاة للأغنياء على اختلاف طبقاتهم { فإذآ أمنتم } أي: إذا أحرمتم للحج حال كونكم آمنين من الموانع من إحصار العدو والمرض العارض ونزول الحادثة وغير ذلك من العوائق، فعليكم إتمام نسكه على الوجه الذي أمرتم به بلا إهمال شيء من آدابه المحفوظة فيه.
{ فمن تمتع } تقرب إلى الله { بالعمرة } من أشهر الحج قبل تقربه إليه بالحج، وبعد ما تم مناسك عمرته قصد { إلى الحج فما استيسر } أي: فعليه ما استيسره { من الهدي } ويقال له عند الفقهاء: دم الجبران، يذبح حين أحرم للحج ولا تأكلوا منه { فمن لم يجد } الهدي منكم لفقره { فصيام ثلاثة أيام في } زمان { الحج وسبعة إذا رجعتم } إلى أوطانكم وأهليكم؛ إذ الصوم فيها خصوصا في أيام الحج من أصعب المشاق المفضي إلى الحرج { تلك عشرة كاملة } قائمة مقام الهدي للفقراء الغرباء الفاقدين وجه الهداية، وإنما أمرتم بصوم ثلاثة فيها؛ لئلا تحرموا عن إتمام متممات الحج في أوقاته { ذلك } الحكم المذكور { لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } أي: من جملة المتوطنين فيها، أو في حواليها أقل من مقدار مسافة القصر { واتقوا الله } في محافظة أوامره التعبدية { واعلموا أن الله } المطلع بضمائر المتهاونين في أوامره { شديد العقاب } [البقرة: 196] إذ أكثر الأمور الشرعية والعزائم الدينية تعبدي لا يدرك سره، خصوصا الأعمال المنسوبة إلى الحج.
[2.197-198]
ثم لم أمر سبحانه عباده بالحج، بأن يأتوا إلى بيته من كل بلد بعيد وفج عميق، عين له وقتا معنيا من الأوقات التي لها فضيلة ومنزلة عنده سبحانه، فقال: { الحج } أي: أوقات الحج { أشهر معلومات } متبركات معروفات، وهي: شوال وذو القعدة وذو الحجة بتمامها أو بعضها على ما خولف فيه { فمن فرض } على نفسه { فيهن الحج } بأن ارتكب بشرائطه وأركانه عاديا له في خلال هذه الأشهر، لزمه إتمامه بلا فسخ العزيمة وقلب النية وحل المحرمات فيه { فلا رفث } أي: لا جماع ولا وقاع وإن طالت المدة { ولا فسوق } ولا خروج عن حدود الله بارتكاب المحظورات { ولا جدال } ولا مجادلة ولا مراءاة مع الخدام والرفقاء { في } أيام { الحج } إذ الحج كناية عن الموت الإداري المنبئ عن الحياة الحقيقة، وهذه الأمور من أوصاف الأحياء بالحياة الطبيعية، فمن قصد الحج الحقيقي والحياة الحقيقية، فله أن يميت نفسه من لوازم الحياة الطبيعية المستعارة، الغير القارة؛ ليفوز بالحياة الحقيقية الازلية والبقاء الأبدي السرمدي، وذلك لا يتيسر إلا بالخروج عن مقتضيات عقل الجزئي المشوب بالوهم والخيال، بل هو مقلوب منها محكوم لها دائما.
ولا يحصل ذلك إلا للسالك الناسك الذي جذبه الحق عن نفسه متدرجا مرتقيا من عالم إلى عالم من العوالم المنتخبة عنها ذاته إلى أن وصل إلى مقام ومرتبة طويت المراتب كلها عنده، وفنيت العوالم بأسرها فيها، وفني فيها أيضا، وهي فناؤها أيضا فيها، ولم ينزل فيها هابطا أصلا، بل تقرر وتمكن واطمأن فيها كما نشاهد مثلها متحسرين، متمنين لها من بعض بدلاء الزمان، مد الله ظلاله العالي على مفارق أهل اليقين والعرفان، وإبهام اسمه لإبهام شأنه، هيهات هيهات ما لنا وما لحتى حتى نتكم عنه.
جعلنا الله من خدام تراب أقدامه.
وبعدما أمر سبحانه عباده بحج بيته تعظيما له ولبيته، حثهم على الخيرات، وبذل المال فها وفي طريقها؛ لتقرر في نفوسهم هذه الخصلة الحميدة؛ إذ هو المناع من ميل القلوب إلى المحبوب الحقيقي وهو رأس كل فتنة فقال: { وما تفعلوا } لرضاء الله { من خير } خالص عن ثوب المنة والأذى، عار عن العجب والرياء، سالم عن وسوسة شياطين الأهواء { يعلمه الله } بالحضور،؛ إذ أمثال هذه الخيرات جار على الصراط المستقيم الذي هو صراط الله الأعظم الأقوم { وتزودوا } للعبور على صراط الله بالتقوى عن الدنيا وما فيها { فإن خير الزاد } للعباد ليوم المعاد هو { التقوى } عن جميع الفساد { واتقون يأولي الألباب } [البقرة: 197] المتوجهين إلى لب اللباب، والمتمايلين عن القشور العائقة عن الحضور، أدركنا بلفطك يا خفي الألطاف.
{ ليس عليكم } أيها المؤمنون { جناح } ضيق وتعب اتقائكم من سخط الله وتزويدكم بالتقوى { أن تبتغوا } أي: كل منكم { فضلا } من المعارف اليقينية واللذات الروحانية { من ربكم } الذي رباكم بأنواع اللطف والكرم { فإذآ أفضتم } أيها المؤمنون { من عرفت } الذات المحيطة بجميع الصفات المرتبة لكم، جمعها باعتبار وصول كل من الواصلين إليها بطريق مخصوص، وإن كانت بعد الوصول واحدة، وحدة حقيقية ذاتية لا كثرة فيها أصلا { فاذكروا الله } المستجمع لذواتكم { عند المشعر الحرام } أي: الصفات المحرمة ثبوتها لغير ذات الله، أفرده لاختصاص كل بصفة مخصوصة يربيه { واذكروه كما هدكم } بتفويض الأمور كلها إليه، واتقائكم نحوه من وساوس الشياطين المضلة { وإن كنتم من قبله } أي: قبل إهدائه { لمن الضآلين } [البقرة: 198] التائهين في بيدات الضلالة، الناكبين عن الهداية الحقيقية.
[2.199-202]
ناپیژندل شوی مخ