ثم بسط عيسى الكلام مع ربه؛ تشفيا، فقال: { ما قلت لهم } قولا { إلا مآ أمرتني به } أي: بتبليغه وإيصاله إليهم، وهو { أن اعبدوا الله } الواحد الأحد الذي هو { ربي } أوجدني من العدم، ورباني بأنواع اللطف والكرم { وربكم } أيضا أوجدكم من العدم مثلثي، ورباكم، فتكون نسبة إيجاده وتربيته علي وعليكم على السواء، ما ترى من تفاوت في خلقه { وكنت } بأمرك وإرسالك ووحيك { عليهم شهيدا } أحفظهم بتوفيقكم عن أمثال هذه الهذيانات الباطلة { ما دمت فيهم فلما توفيتني } ورفعتني بجودك إلى ما رفعتني { كنت } بذاتك وأسمائك وأوصافك { أنت الرقيب } المحافظ { عليهم } المولي لأمورهم، تضلهم وتهديهم، ترشدهم وتغويهم { وأنت } المنزه بذاتك عن جميع الأكوان { على كل شيء } من الأمور الكائنة { شهيد } [المائدة: 117] حاضر غير مغيب.
{ إن تعذبهم } عدلا { فإنهم عبادك } فلك أن تتصرف فيهم على أي وجه تتعلق إرادتكم ومشيئتك { وإن تغفر لهم } فضلا وطولا { فإنك أنت العزيز } الغالب على الإنعام والانتقام { الحكيم } [المائدة: 118] المتقن في إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، ومنعه عنه بلا مشاركة ولا مظاهرة. فلما بث وبسط عسى مع الله الكلام، وبالغ في التفويض والرجوع إليه في جميع الأمور، خصوصا أمر قومه { قال الله } سبحانه: يا عيسى { هذا يوم } لا يكتسب فيه الخير، ولا يتسجلب النفع، ولا يدفع الضر، بل { ينفع الصادقين } الذين صدقوا في النشأة الأولى { صدقهم } السابق { لهم } شفي هذه النشأة لهؤلاء الصادقين إلى { جنات } منتزهات المعارف والحقائق { تجري من تحتها الأنهار } مملوءة بمياه المكاشفات والمشاهدات المثمرة للحياة الأبدية والبقاء السرمدي { خالدين فيهآ أبدا } لا يتحولون عنها أصلا { رضي الله عنهم } لتحققهم بمقام الصدق والإخلاص { ورضوا عنه } لإيصالهم إلى غاية ما جبلوا عليه لأجله بلا منتظر { ذلك } الوصول والتحقق هو { الفوز العظيم } [المائدة: 119] والفضل العميم، واللطف الجسيم لأهل العناية الفائزين من عنده بهذه المرتبة العلية.
ولا يستبعد من الله أمثال هذه الكرامات مع أرباب الولاء الباذلين مهجهم في سلوك طريق الفناء؛ إذ { لله ملك السموت والأرض } إظهارا وتصرفا واستقلالا { وما فيهن } من المكونات، فله التصرف فيها كيف يشاء حسب إرادته واختياره { وهو } بذاته { على كل شيء } من عموم مراداته ومقدوراته { قدير } [المائدة: 120] فله أن صول خلص عباده إلى فضاء فنائه بإفنائهم عن هوياتهم الباطلة، وإبقائهم بهويتهم الحقيقية السارية، الظاهرة في الأكوان.
خاتمة السورة.
عليك أيها المحمدي المتوجه لمرتبة الفناء المثمر للبقاء الأبدي شكران سعيك وأوصلك إلى غاية مبتغاك أن تجعل قرينك الرضا في جميع ما جرى عليك من القضاء؛ إذ كل ما يجري في عالم الأكوان والفساد إنما هو على مراد الله، ومقتضى مشيئته حسب تجلياته الجمالية والجلالية، واللطيفة والقهرية، والعارف إذا تحقق بمقام الرضا الذي هو نهاية مراتب العبودية فقد خلص عن الإضافات مطلقا، ومتى ارتفعت الإضافات لا يشوشه السراء والضراء، ولا اللذة ولا الفناء؛ إذ كل ذلك من لوازم الإمكان وأمارات البعد.
فعليك أن تصفي نفسك عن جميع الأمراض الباطنة من العجب والرياء والرعونة والهوى، وتلازم العزلة والإعراض عن أبناء الدنيا، والالتجاء إليهم والمخالطة معهم وتقلل عن حوائجك وحظوظك سوى سد جوعة وكن ولباس كيف اتفق، وعليك أن تروض نفسك في زاوية الخمول، وركن القناعة، ومنزل الفراغة.
وإياك أن تصاحب مع أهل الأهواء وتراجعهم، سيما في الأمور التي تتعلق بالمعاش المستعار، وكن في ورطة الدنيا كأنك غريب ليس لك ألف ومؤانسة مع من فيها وما فيها أو كعابر سبيل يروح فيها ويغدو بلا تمكن وقرار.
وبالجملة: عد نفسك من أصحاب القبور، وافعل مثل ما تشاهد منهم بالنسبة إلى الدنيا، بل موتك الأرادي لا بد أن يكون أعرق في قطع التعلق، وترك المألوف من الموت الصوري؛ لأن أكثر الأموات بالموت الصوري يخرجون من الدنيا متحسرين بحسرة عظيمة، والعارف المتحقق بمرتبة الموت الإرادي له مسرة ولذة، بحيث لو عاد على ما عليه لتغمم، بل هلك خوفا، فذلك أن تشمر ذيلك عنها وعن لذاتها بالمرة وتداوم الاستفادة الاسترشاد من كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وملتقطات المشايخ العظام التي ساتنبطوها منها بسعي بليغ - شكر الله مساعيهم - وتصرف عنان عزمك عما سواها من الأباطيل الزائفة، والمنسوبة إلى أصحاب الحجج والاستدلال، الضالين بتغريرات عقولهم القاصرة عن منهج الحق ومحجة اليقين.
جعلنا الله ممن أيد من عنده فتأيد، وأطلق عنان عزمه نحو الحق ولم يتقيد، بمنه وجوده.
[6 - سورة الأنعام]
ناپیژندل شوی مخ