وهذه أبيات رقيقة الحواشي عذبة المجاني متناسبة الألفاظ بعيدة المعاني. وأنشدني أعز الله نصره، في امرأة أصابها الجدري، وما أظنه سُبق إلى هذا المعنى:
ولمّا التظى في القلب نار غرامها ... تمثّل في الأحشاء شبه شَرارها
كذاكَ يكونُ الماءُ في غليانهِ ... يمجّ حَبابًا من شديدِ أوارِها
وأنا أذكر ما سمعته في الجدري، فمن ذلك:
وقالوا شانه الجدريّ فانظر ... إلى وجه به أثرُ الكلومِ
فقلتُ ملاحةً نُثرتْ عليه ... وما حسنُ السماءِ بلا نجومِ
ومنه:
يا قمرًا جُدّر لما استوى ... فزاده حسنًا وزادت هموم
كأنما غنّى لشمس الضحى ... فنقّطته طربًا بالنجوم
وقريب منه:
لنا جربٌ من البنان نحكه ... رضينا به والحاسدون غضابُ
وكنَّا معًا كالماءِ والراحِ صحبةً ... علانا لفرطِ الامتزاجِ حبابُ
ومثل هذا:
يا صروف الدهر خبِّي ... أيّ ذنب كان ذنبي
علّة خصّت وعمّت ... من حبيب ومحبّ
دبَّ في كفيه يا من ... حبّه دبّ بقلبي
فهو يشكو حرَّ حَبٍّ ... واشتكى بي حرَّ حبِّ
الحديث ذو شجون وإنما ذكرت أبيات المخدوم، عز نصره، استحسانًا لدرها المنتظم، وختمت بها وصف النسيب إذ العقد بالدرة الحسناء يختتم.
وصف في الخمر
وما يتصل بها وذكر مجالسها وما ينضاف إليها ويناسبها من الغناء والمغنين ووصف الربيع والأزهار والرياحين وغير ذلك.
كان يقال: إن الشراب مشمة الملك وتاج يده وعروس مجلسه وتحفة نفسه وقيم جسده ودواء همه وحافظ بدنه وشفاء حزنه، لم يزل بتوليد التودد معروفًا وبتآلف الشمل المتبدد موصوفًا، إن تمشى في عظام الإخوان منحهم صدق الحس وذكاء النفس، وإن جرى في مفاصل الندمان أباحهم فراغ البال، وإن تطرب إلى شربه ذو أدب أو ارتاح لمصافحته ذو حسب طال باعه ورحب ذراعه وزين لنفسه الجود وبذل منها فوق الموجود وتطوع بالإحسان وتناسى جرائم الزمان ولم يفكر في عواقب الحدثان ورغب في التوسع ومدح التشجع.
أقول: إن في هذه الأوصاف ما هو بالذم أليق وفي باب هجاء الشراب أدخل.
وقيل: إن الشراب أجلب الأشياء للسرور الكامل وأصنعها للفرح العاجل، يمازج الأشباح ويراوح الأرواح ويؤدي إلى نشاط القوى وانبساط المنى ويعفى من الحذر ونصبه والتحرز وتعبه، ويحبب المزاح والمفاكهة وينغص الاستقصاء والمحادة ويزيل عن المقتصد في شربه العارف مقدار منفعته في تحصيل لذته تفقد الحشمة وكد المروة.
وقيل: إن من خصائص الشراب جودة الهضم ونفي الهم ودفع مضرة الماء وإزالة مكروه الدواء، قال الأعشى:
وكأسٍ شربتُ على لذةٍ ... وأخرى تداويتُ منها بها
ليعلمَ منْ لامَ أنّي امرؤٌ ... أتيتُ اللذاذةَ من بابها
البيت الأول أخذه أبو نواس فقال:
دعْ عنكَ لومي فإنّ اللوم إغراءُ ... وداوني بالتي كانت هي الداءُ
ولأبي نواس في الخمريات بدائع رائعة هي للإحسان جامعة، وأنا أذكر ما يخطر من أشعاره فيها وأشعار غيره غير مراع أزمنة الشعراء وتقدمهم وتأخرهم ولكن بقدر ما يسنح. قال أبو نواس:
وندمانٍ يرى غبنًا عليه ... بأنْ يمسي وليس به انتشاءُ
إذا نبّهته من نومِ سكرٍ ... كفاهُ مرةً منكَ النداءُ
وليس بقائلٍ لك إيهِ دعني ... ولا مستخيرٍ لك ما تشاءُ
ولكن سقِّني ويقول أيضًا ... عليك الصرفَ إن أعياكَ ماءُ
أراد أن يقول: ولكن يقول سقّني فحذف يقول اختصارًا واكتفاءً بيقول الثانية. وقال أيضًا:
أثنِ على الخمرِ بآلائها ... وسمِّها أحسنَ أسمائها
لا تجعلِ الماءَ لها قاهرًا ... ولا تسلِّطها على مائها
كرخيّةً قد عُتِّقت حقبةً ... حتى مضى أكثر أجزائها
فلم يكد يُدركُ خمّارها ... منها سوى آخرِ حوبائها
والخمرُ قد يشربُها معشرٌ ... ليسوا إذا عُدوا بأكفائها
وقال أيضًا:
يا ليلةً بتُّها أُسقّاها ... ألهجني طيبها بذكراها
تلهّبُ الكاسُ من تلهّبها ... وتحسرُ العينُ أنْ تقصّاها
كأنَّ نارًا بها محرّشةً ... نهابُها تارةً ونغشاها
كان لها الدهرُ من أبٍ خلفًا ... في جحرهِ صانَها وربّاها
1 / 57