وسمع سن ياتسن بثورة أنصاره التي انفجرت قبل أوانها وهو يطوف المدن الأمريكية لجمع المال استعدادا للثورة التي تقرر موعدها بعد ذلك بسنة، وعلم من الصحف الأمريكية أنه رئيس الجمهورية المنتظر ... فلم ير التعجيل بالعودة إلى بلاده، واهتم قبل كل شيء بوقف صرف الأقساط المتفق عليها من القروض الدولية لحكومة بكين، والسعي عند الدول الكبرى للاعتراف بالحكومة الجديدة والاتفاق على السياسة المقبلة.
وسافر إلى لندن باسم مستعار، فوجد هناك برقية أرسلت إليه بعنوان المفوضية الصينية التي لم تزل تنوب عن ابن السماء، يعرضون عليه رئاسة الجمهورية بصفة رسمية ... وفي دار هذه المفوضية كان معتقلا قبل سنين لتسليمه إلى حكومة بكين!
ولقي المسئولين من رجال الحكومة الإنجليزية، وأعضاء مجلس الديون، ثم انتقل إلى فرنسا فتحدث مع بعض وزرائها ونوابها في شأن الحكومة الجديدة، وبرح أوروبة إلى بلاده وهو على شيء من الارتياح إلى موقف الدول من الوجهة الرسمية.
وقبل أن يصل إلى بلاده بستة أيام كان المندوبون في حكومة بكين والمندوبون عن اللجنة الثورية قد اتفقوا على اللقاء بشنغهاي للتفاهم والتقريب بين الطرفين، فظهر من سياق البحث بينهم أن الطرفين كانا على وعد من اليابان بالمؤازرة، ونمى إليهم أن اليابان همت بإنزال جنودها على الأرض الصينية والتقدم إلى العاصمة، فاستمهلتها إنجلترا صديقتها يومئذ وذكرتها بمخالفة العمل المنفرد للاتفاقات الدولية، وحقيقة الأمر على ما اعتقده الطرفان المتفاوضان أن إنجلترا خشيت أن يؤدي التدخل الياباني إلى بسط الحماية على عرش الصين بطلب من الأسرة المالكة، وهي نتيجة يأباها الثوار بطبيعة الحال، ويأباها القائد يوان شي كاي؛ لأنه يطوي النية على تنصيب نفسه ملكا بعد فترة الثورة الأولى، وتأباها إنجلترا أو الدول الكبرى؛ لأنها تقضي على نفوذهن جميعا، وتسلم الصين فريسة سائغة لدولة واحدة.
فأسرع الفريقان إلى التفاهم على وقف القتال قبل أن تنطلق الدسائس الأجنبية من عقالها.
ووصل سن ياتسن شنغهاي في الرابع والعشرين من شهر ديسمبر (سنة 1911) ونودي به رئيسا للجمهورية في التاسع والعشرين منه، وافتتح مراسم العهد الجديد بزيارة ضريح العاهل الوطني عميد أسرة منج التي كانت تحكم الصين قبل الأسرة المانشوية، فبايع روح الأسلاف على إحياء الصين الخالدة وصد المغيرين على استقلالها، واختار للدولة علما مثلث الألوان من الأزرق والأبيض والأحمر، رمزا لمبادئ الثورة الثلاثية وهي الوطنية وسيادة الشعب والاشتراكية أو رخاء المعيشة، وفيه اثنا عشر شعاعا تنبعث من الشمس رمزا إلى أقسام الصين الأرضية.
ووجه اهتمامه الأكبر إلى تدعيم القواعد الدستورية، فأذاع الدستور المؤقت مشتملا على الحقوق الأساسية وأصول التشريع، واعترضته عقبة الهيئة النيابية في تلك المرحلة، فلم يكن من المتيسر انتخابها بغير معدات الانتخاب التي لم تعهدها الصين من قبل، ولم يكن من المتيسر الانتظار إلى ما بعد تحضير هذه المعدات، وأبى أن يحصر النيابة عن الأمة الصينية بين أعضاء حزبه ولجانه التي كانت تنبث في الحواضر والأقاليم لنشر الدعوة وتنظيم المقاومة، فاكتفى بما تيسر يومئذ وجمع المجلس الأول من المندوبين الذين اختارتهم دواوين الحكومة ولجان الجماعات الثورية، وذوي الرأي بالشهرة المستفيضة ومنهم من لم يصطحب معه توكيلا من الدواوين أو اللجان، وارتضى المسئولون جميعا تأليف المجلس على هذه الصورة على أن تخلفه بالانتخاب هيئة من مجلسين خلال عشرة شهور يناط بها وضع الدستور.
واختار الزعيم وزراءه من أكفأ رجالات الصين الحديثة، ومنهم من كانت له شهرة عالمية كالدكتور وانج شنجهوي الذي عين بعد نحو عشرين سنة (سنة 1930) قاضيا بمحكمة لاهاي الدولية، واتخذ نانكين عاصمة للدولة الجديدة: عاصمة بلا خزانة ولا سجلات ولا دواوين ولا موظفين، ثم شعر بقيود المنصب ومحرجاته وعن له أن يندب غيره للرئاسة ويفرغ للقيادة الشعبية، فوافق ذلك مقترحا من القائد يوان شي كاي يندبه هو للرئاسة أثناء فترة الانتقال بين النظام الملكي والنظام الجمهوري، ورأى سن ياتسن أن يستفيد من هذا المقترح للدولة الناشئة فعلق قبوله على نجاح يوان في إقناع الأسرة المالكة بالنزول عن دعاواها وحقوقها بسلام، فانقضى شهر في المساومة والمناورة قبل الوصول إلى نتيجة يحسن إعلانها.
وفي الثاني عشر من شهر فبراير سنة 1912، أعلنت الوصية باسم الإمبراطور الصبي سوان تونج وثيقة النزول عن العرش، وفيها تقول: «إن الأمة اليوم جانحة كلها إلى حكومة ذات شكل جمهوري، وبدت هذه الرغبة واضحة في أول الأمر من الأقاليم الجنوبية والأقاليم الوسطى ثم وعد القادة العسكريون من الأقاليم الشمالية بتأييدهم لهذه الرغبة، ونحن برعاية ميول الشعب نعلم مشيئة السماء، وليس بالجميل منا أن نقاوم ميول الشعب حرصا على مجدنا، فنحن - والإمبراطور إلى جانبنا - نولي الشعب حقوق السيادة ونأمر بإنشاء حكومة دستورية على النظام الجمهوري، ولا يحدو بنا إلى هذا القرار حبنا لرضى شعبنا الذي طال حنينه إلى حسم الشقاق السياسي وكفى، بل تدعونا مع ذلك رغبتنا في اقتفاء وصايا الحكماء الأقدمين الذين علمونا أن السيادة ترجع آخر الأمر إلى مشيئة الأمة.»
واشتملت وثائق الاتفاق على شروط أخرى تضمن للعاهل الصبي أن يحتفظ بلقب الإمبراطور مدى حياته، وأن يتقاضى من الدولة معاشا سنويا يزيد على نصف مليون جنيه، وأن يترك له قصر الصين وحاشيته وحرسه، وأن تصان أضرحة الأسرة وتتكفل الدولة بإتمام الناقص منها.
ناپیژندل شوی مخ