واتسعت أعمال المرسلين الإنجيليين خلال هذه المرحلة، بعد السماح للأجانب بالتنقل في داخل البلاد، ثم صادف هذا التوسع إقبالا من الناشئة على العلم الحديث وثقة بفضل الثقافة العصرية فتسابقوا إلى مدارس المرسلين، ولم يتردد بعضهم في قبول الشعائر والعبادات التي فرضتها هذه المدارس على طلابها، ولا سيما المدارس العليا التي لم يكن لها في ذلك الوقت نظير من المعاهد الوطنية. •••
والإسلام هو أكثر الديانات أتباعا في الصين بعد الديانة الوطنية، ويترواح تقدير المسلمين بين عشرين مليونا وخمسة وخمسين مليونا، أو أكثر من ذلك في تقدير بعض الرحالة المسلمين، ومعظمهم من سكان الأقاليم الغربية، ويسميهم الصينيون هوي هوي، إما من كلمة هو بمعنى الغرب أو من كلمة هوي بمعنى الالتفات والاستدارة؛ لأنهم يستقبلون الغرب في الصلوات.
وقد اتصل خبر الفتوح الإسلامية بملوك أسرة تانج من جيرانهم أمراء الفرس الذين لاذوا بعرش ابن السماء يستنجدونه على جيوش العرب، ووجدت في سجلات الأسرة صحيفة تذكر بلاد العرب ونشأة الإسلام، وتقول عن الجزيرة العربية (تاه شيه) إنها كانت ولاية فارسية، وإن رجلا منها تلقى وعدا من السماء بملك العالم والانتصار على كل من يحاربه، ولم يستجب العاهل (تاي تسنج) رجاء الأمراء الفارسيين على كل حال، سواء لاتقائه الاشتباك في حرب مع الجنود الموعودين بالنصر أو لقلة الجدوى من تلك الحرب على أطراف الدولة النائية، ثم تقدم العرب في آسيا بقيادة قتيبة، ووصل رسل الخليفة الوليد إلى العاصمة الصينية، فرضي ابن السماء لأول مرة أن يعفي هؤلاء الرسل من قواعد (الكوتو) أو البروتوكول الصيني الذي يقضي بسجود كل داخل إلى ساحة العرش ثلاث مرات قبل الوقوف في حضرة ابن السماء؛ لأن أولئك الرسل هموا بالعودة من حيث أتوا وقالوا: إن دينهم ينهاهم أن يسجدوا لأحد غير الله، وبقيت للدولة الإسلامية هذه السمعة المرهوبة إلى الجيل التالي؛ فأرسل العاهل (شي تيه) يستعدي أبا جعفر المنصور على الثائر لوشان ثم سمح للجيش العربي الذي هزم ذلك الثائر الخطر بالمقام في الأرض الصينية، فمن ذرية هذا الجيش جلة المسلمين الصينيين، ثم لحق بهم طوائف من المسلمين رجعوا مع ملوك التتار بعد غارات جنكيز خان وأتباعه، فاستحبوا المقام وتزاوجوا وتناسلوا حيث أقاموا، ولم يزالوا محافظين على عاداتهم من تحريم الخمر ولحم الخنزير والمعاملة بالربا، واقتبسوا من العادات الوطنية غير قليل، ومنها المغالاة بتعظيم الأسلاف؛ لأن هذه العادة لم تكن غريبة عن طباع العرب أو أبناء القبائل البادية التي تألف منها جيش المسلمين في ذلك الحين.
فتاريخ الإسلام في الصين يخالف تاريخ البوذية وتاريخ المسيحية؛ لأنه تاريخ سلالة إسلامية انتقلت بعقيدتها من تخوم البلاد الخارجية، ولم يكن للتبشير عمل في نشر عقيدتهم، إلا ما كان من تحول الزوجات والجيران المقتدين بجيرانهم، ومما لاحظه المؤرخون على المسلمين الصينيين أنهم لم يحفلوا بنشر الدعوة الدينية حولهم، وأن شهرتهم العسكرية كفت عنهم عدوان القبائل التي تحيط بهم، وأنها في كثير من الأحيان كانت تغري أبناء السماء باستخدامهم في جيوشهم، فكان منهم قادة مشهورون إلى أيام أسرة منج الوطنية، وكان أشهر قادتها «شنج هو» يسمى بالحاج ويقود الحملات البحرية كما يقود الحملات البرية، واشتملت إحدى حملاته (سنة 1405) على نيف وستين سفينة عليها من المقاتلين نحو ثلاثين ألفا من أبناء الملل المختلفة.
وتعتبر الثورات الإسلامية نذير الخطر في تاريخ الصين الحديثة خلال القرن التاسع عشر على الخصوص، فقد تعددت ثورات المسلمين منذ أول ذلك القرن فكانت علامة على سوء الحال واليأس من صلاح الأمور، وبلغت ثورتهم الكبرى أشدها بأقاليم شنسي وكانصوه سنة 1847، فلم تمض ثلاث سنوات حتى أعقبتها الثورة المعروفة باسم التايبنج؛ أي دعوة السلام السماوية، واحتدمت نيران هذه الثورة أكثر من عشر سنين، ثم تلاحقت الثورات بعد ذلك من الشمال والجنوب، ولم تنحسم ثورة المسلمين الجنوبية بإقليم يونان إلا بعد إخماد ثورة التايبنج بسبع سنوات. •••
هذه لمحة عابرة إلى أحوال التدين في الأمة الصينية، مدارها على بيان الصبغة التي تصطبغ بها الملكات العامة في تلك الأمة العريقة، ونعني بالملكات العامة ما كان من قبيل الشعور الوطني أو الشعور العنصري أو الشعور الديني أو ضروب الشعور التي تشترك فيها الأمم والطوائف الكبيرة، ومن هذه اللمحة العابرة نرى أن الشعور الديني - على كونه في الصين قوة غير مهملة - لم يكن محور الأطوار الكبرى في سياستها وتقلب الدول فيها، ويندر في تاريخ الصين أن يضطهد قوم لعقيدتهم الدينية دون سبب آخر يجعل لهم صفة سياسية أو اجتماعية خاصة ولو في وقت من الأوقات. ومن هذا القبيل اضطهاد كهان «التيبت» لمخالفيهم حين جمعوا في أيديهم سلطة الكهانة وسلطة الحكم واحتكار تجارة الشاي، فكانت أغراضهم السياسية والتجارية سبب هذا الاضطهاد، ومن هذا القبيل أيضا أن بعض الأسر اضطهدت البوذيين؛ لأنها نظرت إليهم نظرها إلى الأجانب الممالئين للدول الأخرى، أو اضطهاد أتباع كنفشيوس؛ لأن دعوتهم الثقافية كانت تحبب إلى الشعب نوعا من الحكومة غير الحكومة القائمة.
ولما ثار المسلمون غير مرة كان السبب الغالب سوء الحال، وأنهم بطبيعتهم أقل خضوعا للحكومة الظالمة من عامة أهل الصين، وتأتي الأسباب الدينية عارضة مع هذا السبب الغالب، ولهذا كانت ثوراتهم تعقبها ثورات أخرى من أهل الصين الذين يدينون بغير الإسلام، ويسخطون على حكوماتهم لغير البواعث الدينية.
وليس جنكيز خان وأولاده مثلا صادقا للذهن المغولي كما ارتقت به الحضارة الصينية العريقة، ولكنهم مثل صادق لهذا الذهن في النظرة التي تنظر بها إلى الأديان المتعددة، فقد كانت شريعة جنكيز خان تفتتح بنص يسوي بين خدام الأديان جميعا ويعفيهم جميعا من الضرائب بغير تفرقة بين كهنة البوذيين وقساوسة المسيحيين وشيوخ المسلمين، وجرى حديث بين الراهب فرا ربروكيز
Rubruquis
ومانجو خان حفيد جنكيز خان، فقال مانجو: إن الله جعل في اليد خمس أصابع وجعل للإنسان مذاهب شتى، أعطاكم الكتاب وأنتم لا تعملون به، فهل في كتابكم أن يذم بعضكم بعضا ويقدح أحدكم في أخيه؟
ناپیژندل شوی مخ