وبعضهم يقول: إن الإنسان يطلب الخير؛ لأنه محروم منه شاعر بما ينطوي عليه من الشرور، ويرد عليه معارضوه متسائلين: كيف يخطر طلب الخير في قلب شرير؟ فيجيب أنصار هذا المذهب بأن طالب الخير إنما يطلبه مضطرا غير مختار؛ لأن الشر حالة لا يستقر عليها القرار، ومن تصادم الشرور يشل بعضها بعضا فيأتي الخير بغير تدبير.
وما من عجب أن تتعدد المذاهب في أمة مضى على حكمائها ألوف السنين، وهم يتدارسون الأخلاق والآداب بين عهود تتعاقب وأحوال تتباين وأقاليم تتباعد المسافات بينها بآلاف الأميال، ولكن العجب حقا أن تصطبغ هذه المذاهب بصبغة واحدة لا تخفى على من يلمحها لأول نظرة، وصدق من قال: إن أفكار الصين كمصابيحها تختلف ما تختلف بالألوان والأشكال، ولكنها تحمل طابعا واحدا من وراء جميع الألوان والأشكال.
وقد دخلت الصين مذاهب من بلاد قريبة أو بعيدة، فلم تلبث أن اصطبغت بهذه الصبغة وخالفت ما كانت عليه في بلادها الأولى. دخلتها البوذية من الهند فنقلت إليها فكرة الروح الباقية، ولكنها فهمت هذه الروح كما كانت تفهم أرواح الأسلاف غير مقترنة بحالة النعيم أو حالة العذاب، واستباح البوذي الصيني أكل الحيوان ومتاع الحريم، ومن شذ عن هذه الإباحة كان بدعة في شذوذه مخالفا فيه لأشد المتنطسين من أصحاب المذهب الأصيل، فكان عميد أسرة ليانج في القرن السادس يجاوز تحريم ذبح الحيوان إلى تحريم تصويره على الحرير؛ لأنه يتعرض للقص والتقطيع ... ولم تحل هذه الغيرة على الحياة عند هذا البوذي العجيب دون قتل الألوف من جنده وجند أعدائه في حروب الفتح وغارات الانتقام ... وأعجب ما فيه أنه كان من القادة الأشداء الصلاب، ولم يكن حالما ولا قانعا كما يسبق إلى الخاطر من تورعه عن المساس بالحيوان حتى في الرسوم.
والذي حدث للبوذية من التطور في عقول الصينيين حدث للمسيحية في العهود الأربعة التي دخلت فيها إلى الصين، وقد دخلتها أربع مرات: مرة مع النسطوريين بين القرن السادس والقرن السابع، ومرة مع رهبان القديس فرنسيس (الفرنسيسكان) في القرن الثالث عشر، ومرة مع اليسوعيين في القرن السادس عشر، ومرة مع الإنجيليين في القرن التاسع عشر، ولهذا يقل عدد المسيحيين الإنجيليين من أهل الصين عن عدد الكاثوليك، فهم أقل من ربع المسيحيين، وعددهم اليوم جميعا يزيد على أربعة ملايين.
وقد حظي النسطوريون عند أبناء السماء وتقربوا إليهم بمعلوماتهم الرياضية والطبية، ونقشوا صورهم على جدران الكنائس، وظل الشعب يسمي هذه الكنائس بالمعابد الفارسية؛ لأن النسطوريين قدموا إلى الصين من بلاد فارس، ثم أصيبوا بجور السياسة في أيام الملوك الذين كانوا يتوجسون من الأجانب، ولكنهم عكفوا على معابدهم وحافظوا عليها إلى القرن الثالث عشر؛ إذ قدم الرحالة ماركو بولو إلى الصين فوجد لهم معابد على طول الطريق من بغداد إلى بكين.
ولم يكن لرهبان القديس فرنسيس مثل هذه الحظوة؛ لأنهم دخلوا الصين في إبان القلاقل على حدودها الغربية.
أما صاحب الأثر الأكبر في نشر المسيحية بين القوم فهو الأب اليسوعي مانيو ريتشي الذي سبر غورهم وتألفهم باتخاذ عاداتهم في ملابسهم ومآكلهم، وتسمى باسم صيني فعرف بعد ذلك باسم «لي هسي ثاي» ثم حذق اللغة الصينية وترجم إليها دروس الجغرافية والفلك والرياضة، ومهد الطريق لتلاميذه فندب بعضهم لوظيفة الفلكي الإمبراطوري، وخصص له مكان من قصر ابن السماء، وكان يتسمح مع القوم فيثني على حكمة كنفشيوس ويأذن لهم في تكريم أسلافهم، متدرجا بهم من عبادة أرواحهم إلى ذكرهم بالترحم والتحميد، وقبل منهم أن يطلقوا اسم السماء على الإله، ولم يدعهم قط إلى المسيحية على اعتبارها ديانة أشرف وأصدق من ديانتهم، ولكنه جمع بين الأيسر والأقوم من الديانتين، فلم ينفروا من الإصغاء إليه.
واتبعه أناس من تلاميذه على سنته ولكن بغير مقدرته وسماحته، حتى وقع الخلاف بين هؤلاء التلاميذ وبين الآباء البيض (الدومينيكان) على مسائل التوفيق بين الديانة الصينية والديانة المسيحية، ونمي الخبر إلى كنيسة رومية (سنة 1704)، فأنفذت أحد وكلائها - الأب تورنون - إلى بكين لتصحيح الموقف وأشفق هذا عند وصوله إلى العاصمة من مجابهة القوم برسالته فتردد في تبليغها ثلاث سنوات، ثم اضطر إلى إعلانها وإنذار من يخالفها بالحرمان إن لم يبرح البلاد الصينية وينفض يده من أعمال كنائسها.
وغضب ابن السماء من إعلان هذا الأمر في بلاده، واستكبر أن يسيطر أحد بالأمر والنهي على رعاياه، فاعتقل القائمين بمعارضة القساوسة الموفقين، وأصدر أمرا آخر ينذر فيه كل من يسمع إلى المعارضين بالنفي من البلاد.
ولما قدم المبشرون الإنجيليون لأول مرة في أوائل القرن التاسع عشر (1807) كان معظم مقامهم في الموانئ والمناطق التجارية المباحة، وأعقب مقدمهم ظهور طائفة مسيحية وطنية يدعي صاحبها أنه الأخ الأصغر للسيد المسيح، ويبشر بعقيدة وسطى بين عقائد أهل الصين وعقيدة الإنجيليين، وأوشك هذا الرجل - واسمه هونج - أن يسقط ابن السماء من عرشه؛ إذ كان قد استولى على نانكين ونادى بنفسه ملكا سماويا على الصين بأسرها، ولكنه أخفق بعد نجاحه عشر سنوات؛ لأنه خسر المسيحيين والوطنيين وأنصار الأسرة المالكة وأعداءها بخطته في التوفيق الذي ينكره كل فريق، ولم تمت ثورته مع هذا كل الموت، بل كانت بمثابة «المسودة» الأولى للثورة المنتظرة، فنشأ أبناء الشطر الأخير من القرن التاسع عشر وهم يتذاكرون حركته ويفكرون في أسباب نجاحه وأسباب إخفاقه، وفي طليعتهم سن ياتسن زعيم الثورة التالية التي كتب لها النجاح بعد هذه التجارب والتمهيدات.
ناپیژندل شوی مخ