فقال رياض وهما يستأنفان المسير: المرجو ألا تكون ثمة مشكلة على الإطلاق، يؤسفني أن أصارحك بأننا نشأنا في بيوت لا تخلو من ذكريات سود محزنة. لست متعصبا، ولكن من يستهين بحق إنسان في أقصى الأرض - لا في بيته - فقد استهان بحقوق الإنسانية جميعا .. - جميل هذا القول، لا عجب أن رسالات الإنسانية الحقة كثيرا ما تنبعث من أوساط الأقلية، أو من رجال مشغولي الضمائر بالأقليات البشرية، ولكن ثمة متعصبون دائما .. - دائما وفي كل مكان، الإنسان حديث والحيوان قديم، وهم عندكم يعتبروننا كفارا ملاعين، وهم عندنا يعتبرونكم كفارا مغتصبين، ويقولون عن أنفسهم إنهم سلالة ملوك مصر الذين استطاعوا أن يحافظوا على دينهم بدفع الجزية ..
فضحك كمال ضحكة عالية، وقال: هذا قولنا وذاك قولكم، ترى الأصل في هذا الخلاف الدين أم الطبيعة البشرية المتطلعة أبدا إلى الخصام؟! لا المسلمون على وفاق، ولا المسيحيون على وفاق، وستجد نزاعا مستمرا بين الشيعي والسني، وبين الحجازي والعراقي، كالذي بين الوفدي والدستوري، وطالب الآداب وطالب العلوم، والنادي الأهلي والترسانة، ولكن رغم ذلك كله فشد ما نحزن إذا طالعنا في الصحف خبر زلزال باليابان! اسمع، لماذا لا تعالج ذلك في قصصك؟ - مشكلة الأقباط والمسلمين ..
فصمت رياض قلدس مليا، ثم قال: أخاف سوء الفهم ..
ثم مستطردا بعد فترة صمت أخرى: ثم لا تنس أننا رغم كل شيء في عصرنا الذهبي، كان الشيخ عبد العزيز جاويش يقترح في الماضي أن يصنع المسلمون من جلودنا أحذيتهم .. - وكيف نستأصل هذه المشكلة من جذورها؟ - من حسن الحظ أنها ذابت في مشكلة الشعب كله، مشكلة الأقباط اليوم هي مشكلة الشعب؛ إذا اضطهد اضطهدنا وإذا تحرر تحررنا .. «السعادة والسلام .. ذلك الحلم المنشود، قلبك يحيا بالحب وحده، فمتى يعرف عقلي سبيله؟ متى أقول بلهجة ابن أختي عبد المنعم: «نعم. نعم»؟ إن صداقتي لرياض علمتني كيف أقرأ قصصه، ولكن كيف أومن بالفن، في الوقت الذي وجدت الفلسفة نفسها قصورا غير صالحة للسكنى؟»
وسأله رياض فجأة، وهو يسترق إليه النظر: فيم تفكر الآن؟ .. أصدقني!
وفطن إلى ما وراء سؤاله، فأجابه بصراحة: كنت أفكر في قصصك. - ألم تتألم لصراحتي؟ - أنا! سامحك الله ..
فضحك كالمعتذر، ثم سأل: أقرأت قصتي الأخيرة؟ - نعم، وهي لطيفة، ولكن يخيل إلي أن الفن نشاط غير جدي، مع ملاحظة أني لا أدري أيهما أخطر في حياة الإنسانية: الجد أم اللهو؟! أنت مثقف ثقافة علمية عالية، ولعلك أدرى «غير العلماء» بالعلم، ولكن نشاطك كله يضيع في كتابة القصص وإني لأتساءل أحيانا: ماذا أفدت من العلم؟
فقال رياض قلدس في حماسة: أخذت من العلم للفن عبادة الحقيقة، والإخلاص لها، ومواجهتها بشجاعة مهما تكن مرة، والنزاهة في الحكم، والتسامح الشامل مع المخلوقات ..
كلمات ضخمة، ولكن ما علاقتها بملهاة القصص؟ ونظر رياض قلدس إليه، فقرأ الشك في وجهه، فضحك عاليا ثم قال: أنت تسيء الظن بالفن، ولكن عزائي أن شيئا في الدنيا لا يمكن أن يسلم من شكك، نحن نرى بعقولنا ولكننا نعيش بقلوبنا، أنت مثلا - رغم موقفك الشكي - تحب وتتعامل وتشارك مشاركة ما في حياة بلدك السياسية، ووراء كل ناحية من هذه النواحي مبدأ شعوري أو لاشعوري لا يقل عن الإيمان قوة، الفن هو المعبر عن عالم الإنسان، وإلى هذا فمن الأدباء من أسهم بفنه في معركة الآراء العالمية، فانقلب الفن على يديه عدة من عدد الكفاح في ميدان الجهاد العالمي، لا يمكن أن يكون الفن نشاطا غير جدي ..
دفاع عن الفن أم عن قيمة الفنان؟ لو أن لبائع اللب قدرة على الجدل لدلل على أنه يلعب دورا خطيرا في حياة البشر، ولا يبعد أن يكون لكل شيء قيمة ذاتية، ولا يبعد كذلك ألا يكون لشيء قيمة البتة، كم مليونا من البشر يلفظون أنفاسهم في هذه اللحظة؟! في الوقت نفسه يرتفع صوت طفل بالبكاء على فقد لعبة، أو صوت عاشق يبث الليل والكون متاعب قلبه، أأضحك أم أبكي؟ قال : لمناسبة ما قلت عن معركة الآراء العالمية، دعني أخبرك بأنها تنعكس على صورة مصغرة في أسرتنا، لي ابن أخت من الإخوان، والآخر من الشيوعيين! - ينبغي أن يكون لها صورة في كل بيت، عاجلا أو آجلا، لم نعد نعيش في قمقم، وأنت ألم تفكر في هذه الأمور؟ - قرأت عن الشيوعية ضمن دراستي للفلسفة المادية، كما قرأت كتبا عن الفاشستية والنازية .. - تقرأ وتفهم، مؤرخ بلا تاريخ، أرجو أن تعد يوم خروجك من هذا الموقف يوم عيد ميلادك السعيد.
ناپیژندل شوی مخ