تصور آل عايدة في حياة متواضعة! كحياة هؤلاء الناس حولنا، فهل تمضي بدور يوما بجورب مرفو؟ وهل تتخذ من الترام مركبا؟ أو تتزوج من موظف بمصلحة كذا؟ ولكن ماذا يهمه من ذلك كله؟ آه .. لا تغالط نفسك فأنت اليوم حزين ومهما يكن لعقلك من رأي في الطبقات وفوارقها، فإنك تشعر من جراء هذا الانقلاب بانهيار مخيف، ويعز عليك أن تسمع بأن مثلك العليا تتمرغ في التراب، فلتهنأ على أي حال بأنه لم يبق من الحب شيء، أجل .. ماذا بقي من الحب القديم؟ إذا قال لا شيء فإن قلبه يخفق في حنان عجيب عند تردد أي أغنية من أغاني ذلك العهد، رغم ابتذال ألفاظها ومعانيها وأنغامها، فما معنى ذلك؟ لكن مهلا، إنها ذكرى الحب لا الحب نفسه، ونحن نحب الحب في جميع الأحوال خاصة الأحوال التي لا حب فيها، أما في هذه اللحظة فإني أشعر كأني غريق في بحر الهوى؛ ذلك أن المرض الكامن ينفث سمومه حين الضعف الطارئ، وما الحيلة ما دام الشك الذي زلزل الحقائق جميعا يقف عند الحب في حذر، لا لأنه شيء فوق الشك، ولكن احتراما للحزن، وحرصا على حقيقة الماضي.
وعاد إسماعيل إلى المأساة سائقا كثيرا من التفاصيل، حتى ضاق بها فيما بدا، فقال بلهجة من يود الفراغ من السيرة كلها: الدوام الله، إنه شيء مؤسف حقا، ولكن حسبنا نكدا ..
ولم يحاول كمال أن يدعوه إلى مزيد. كان فيما قال الكفاية. إلى أن وجد رغبة إلى الصمت والتأمل. وكان يبكي بكاء صامتا بدموع غير منظورة يذرفها قلبه. وأدهشه ذلك بصفته مريضا قديما قد برئ من مرضه، وقال لنفسه متعجبا: تسعة أعوام أو عشرة! ما أطولها وما أقصرها، ترى ما صورة عايدة الآن؟ كم يود أن يديم إليها النظر؛ ليطلع على سر ذلك الماضي الساحر. بل ليقف على سر نفسه. إنه الآن لا يراها إلا لمحا خاطفا في نغمة قديمة معادة، أو صورة في إعلان صابون، أو من سباته كالفزع وهو يهمس: هذه هي .. ولكن ما هي على الحقيقة قسمة من قسمات نجمة سينمائية، أو ذكرى متسللة، فيستيقظ والواقع؟! ونبا به مجلسه، فتاقت نفسه إلى رحلة مغامرة في دنيا الغيب، فقال لإسماعيل: أتقبل دعوتي إلى كأسين في مكان لطيف مأمون؟
فقهقه إسماعيل قائلا: إن زوجتي تنتظرني؛ لنذهب معا إلى زيارة خالتها ..
ولم يكترث لرفض دعوته. طالما كانت نفسه نديمه. وغادرا المكان وهما يتبادلان الحديث: أي حديث: وفيما بين ذلك قال كمال لنفسه : قد نضيق بالحب إذا وجد، ولكن شد ما نفتقده إذا ذهب.
7
مليح هذا المجلس .. غير أن اليد قصيرة، من هذا الموضع الدافئ ترى الغادي والرائح .. من شارع فاروق وإليه .. ومن الموسكي وإليه .. ومن العتبة وإليها، ولولا برودة يناير القاسية لما توارى المشتاق وراء زجاج القهوة، تاركا رغم أنفه الركن البديع التابع للقهوة على الطوار المقابل، ولكن سيأتي الربيع يوما .. أجل سيأتي، غير أن اليد قصيرة، ستة عشر عاما أو يزيد وأنت حبيس الدرجة السابعة، دكان الحمزاوي بيع بأبخس الأثمان .. وربع الغورية على ضخامته لا يدر إلا جنيهات .. أما بيت قصر الشوق فمسكني ومأواي، وإذا كان لرضوان جد غني؛ فكريمة لا عائل لها غيري، رب أسرة وعشيق، ولكن للأسف اليد قصيرة.
وفجأة وقعت عيناه الحائرتان على شاب طويل نحيل ذي شارب مربع ونظارة ذهبية، يخطر في معطفه الأسود قادما من الموسكي. متجها نحو العتبة، فابتسم ونهض بنصفه الأعلى كأنما يهم بالقيام، ولكنه لم يفارق مجلسه. ولولا أن الشاب كان مسرعا لمضى إليه ودعاه إلى مجالسته. كمال خير سمير حين الضجر، لم يخطر الزواج له على بال رغم اقترابه من الثلاثين، لم تعجلت الزواج قبل الأوان؟ ولم وقعت فيه مرة أخرى قبل أن أفيق من لطمته الأولى؟ ولكن من ذا الذي لا يشكو؛ أعزب كان أم متزوجا؟ وكانت الأزبكية ملاذا ومتعة، ثم حل بها البوار فهي اليوم بؤرة الحثالة والسفلة، لم يبق لك من عالم المسيرات إلا لذة المشاهدة في هذا المفرق من الطرق، ثم، الصيد الرخيص، وخير الصيد الرخيص خادمة مصرية من العاملات في الأسر الإفرنجية .. فهي في الغالب مهذبة المظهر نظيفة، أما سيد مزاياها دون منازع فضعف الخلق، وتوجد أكثر ما توجد بسوق الخضار بميدان الأزهار.
كان قد فرغ من حسو قهوته، وجلس وراء زجاج النافذة المغلقة يرسل طرفه إلى ملتقى الطرق، يتابع كل ذات حسن، فتنطبع على عدسة عينه صور النساء من ذوات المعاطف والملاءات اللف، يراهن كلا وأجزاء في مثابرة لا تعرف الكلال. كان يجلس أحيانا فيطول به الجلوس حتى العاشرة، وفي أحيان أخرى ربما لم يطل به الجلوس إلا ريثما يشرب قهوته، ثم ينهض مسرعا في أثر صيد قد آنس منه استجابة ورخصا، كأنه تاجر روبابيكيا. ولكنه كان يقنع في الغالب بالمشاهدة، وربما تبع الحسناء دون مقصد جدي، أما الإقدام الحق، كأن يصطاد خادما خليعة أو أرملة فوق الأربعين، فكان يقع على فترات وفي حرص شديد؛ إذ إنه لم يعد الرجل الذي كان؛ لا لأن الموارد قد ناءت بالأعباء فحسب، ولكن لسن الأربعين التي نزلت به ضيفا دون دعوة أو استئذان. يا لها من حقيقة مرعبة! «وشعرة بيضاء في عارضي طالما أوصيت الحلاق بمعالجتها، وقال الحلاق إن أمر الشعرة هين، ولكن الشيب لا يلبث أن ينفجر. تبا لهما، للحلاق وللشيب، ووصف الرجل صبغة مفيدة ولكني لن ألجأ إليها، بيد أن أبي بلغ الخمسين دون أن تحترق له شعرة، أين أنا من أبي؟! لا في الشيب وحده؛ كان شابا في الأربعين، وكان شابا في الخمسين، أما أنا! رباه، لم أفرط أكثر مما فرط أبي ...» أرح رأسك وأتعب قلبك. ترى أكانت حياة هارون الرشيد حقا كما يرويها الرواة؟ أين زنوبة من هذا كله؟! جانب من الزواج خدعة بنت كلب، ولكن قوته في أنك تحتضن الخدعة ما حييت، وسوف تدول دول وتنقلب أزمان، ولم يزل الدهر يتمخض عن امرأة سارحة ورجل جاد في أثرها، الشباب لعنة، والكهولة لعنات، فأين راحة القلب أين؟ وأتعس ما في الدنيا أن تتساءل يوما ذاهلا أين أنا!
وغادر القهوة في منتصف العاشرة، فقطع العتبة متمهلا إلى شارع محمد علي، ثم مال إلى حانة «النجمة»، وحيا «خالو» الماثل وراء البار في وقفته التقليدية، فرد الرجل تحيته بابتسامة عريضة كشفت عن أنياب صفر مثرمة، ثم أشار بذقنه إلى الحجرة الداخلية كأنما ليخبره بأن أصحابه في الانتظار. وكان يمتد أمام البار دهليز ينتهي إلى ثلاث حجرات متداخلة يضج جوها بالعربدة، فمضى إلى الأخيرة منها، ولم يكن بها إلا نافذة واحدة ذات قضبان حديدية تطل على عطفة الماوردي، قد صفت بها ثلاث موائد متفرقة في الأركان، خلت اثنتان وأحدق بالثالثة أصحابه الذين استقبلوه مهللين، شأنهم كل مساء. كان ياسين - رغم شكواه - أصغرهم سنا، أما أكبرهم فكان أعزب من أصحاب المعاشات، يليه في مجلسه باشكاتب بالأوقاف، فرئيس المستخدمين بإدارة الجامعة، ثم محام من ذوي الأملاك غير مشتغل. كان الإدمان يلوح في سحناتهم نظرة ذابلة وبشرة محتقنة أو بالغة الشحوب، وكانوا يتوافدون إلى الحانة فيما بين الثامنة والتاسعة فلا يفارقونها إلا في الهزيع الأخير من الليل، يتجرعون أردأ أنواع الخمر وأشدها مفعولا وأرخصها ثمنا، غير أن ياسين لم يكن يلازمهم من البداية إلى النهاية، أو لم يكن يفعل ذلك إلا في القليل النادر، وفيما عدا ذلك فكان يمضي معهم ساعتين أو ثلاثا كيفما اتفق؛ وكالعادة استقبله الأعزب العجوز قائلا: أهلا بالحاج ياسين ..
ناپیژندل شوی مخ