إسماعيل وهو يقهقه: أتذكر؟ يا لها من أيام!
أيام مضت، لم تعد نيرانها تحرق، لكنها مصونة في موضعها كالجثة العزيزة أو كعلبة الملبس المستكنة في مكانها منذ ليلة عائدة .. - ألم يبلغك شيء عن حسين شداد أو حسن سليم؟!
رفع إسماعيل حاجبيه الكثيفين، وقال: ذكرتني! حدثت أمور في العام الماضي الذي قضيته بعيدا عن القاهرة ..
ثم استطرد في اهتمام متزايد: علمت حال عودتي من طنطا أن أسرة شداد انتهت.
تفجرت في قلب كمال ثورة اهتمام طاغية، وعانى كثيرا وهو يغالب آثارها الظاهرة، ثم تساءل: ماذا تعني؟ - أخبرتني والدتي أن شداد بك أفلس، التهمت البورصة آخر مليم في حوزته، انتهى شداد، ثم إنه لم يتحمل الصدمة فانتحر! - يا له من خبر! متى حدث ذلك؟ - منذ أشهر، وضاع القصر الكبير فيما ضاع من متاع؛ ذلك القصر الذي عشنا في حديقته زمنا لا ينسى ..
أي زمن، وأي قصر، وأي حديقة، أي ذكريات، أي ألم نسي، أي نسيان مؤلم، الأسرة الرفيعة، الرجل العظيم، الحلم الكبير، أليس هذا الجيشان أضخم مما ينبغي أن يستدعيه الحال؟! وهذه الخفقة التي تمخض عنها القلب أشد مما تستحق ذكريات عفى عليها النسيان.
قال كمال بصوت حزين: انتحر البيك، وضاع القصر، ولكن ما مصير أهله؟
قال إسماعيل في امتعاض: لم تعد لأم صديقنا إلا خمسة عشر جنيها شهريا من ريع وقف، وقد انتقلت إلى شقة متواضعة بالعباسية، وقد زارتها والدتي فعادت تصف حالها وهي تبكي، تلك السيدة التي تقلبت في نعيم لا يتصوره الخيال، ألا تذكر؟
يذكر ولا شك، أم يظنه نسي؟ يذكر الحديقة والكشك والنعيم الذي كان يترنم به الهواء، ويذكر السرور والحزن، بل إنه الساعة حزين حقا، إن الدموع تطرق أبواب عينيه الخلفية، ولن يحق له أن يحزن بعد الساعة على قهوة أحمد عبده التي يتهددها الزوال، فكل شيء ينبغي أن ينقلب رأسا على عقب. - إنه لشيء محزن، ومما يضاعف الحزن أننا لم نقم بواجب العزاء، ترى ألم يعد حسين من فرنسا؟ - لا شك أنه عاد عقب الحادث، كذلك حسن سليم وعايدة، ولكن لا أحد منهم في مصر الآن. - وكيف عاد حسين تاركا أسرته على حالها؟ ومن أين له أن ينفق بعد إفلاس والده؟ - سمعت أنه تزوج هناك، ولا يبعد أن يكون قد وجد عملا في أثناء إقامته الطويلة في فرنسا، لا أدري شيئا عن هذا، فأنا لم أره منذ ودعناه معا، كم مضى على ذلك؟ عشرة أعوام على وجه التقريب. أليس كذلك؟ إنه تاريخ قديم، كم أثار شجوني!
كم وكم، أما هو فالدموع لا تزال تطرق أبواب عينيه الخلفية، إنها لم تفتح منذ ذلك العهد وعلاها الصدأ، وقلبه يقطر حزنا، فيذكر بذلك القلب الذي اتخذ من الحزن شعارا، إن هذا الخبر قد رجه رجا عنيفا حتى كاد ينفض عنه الحاضر كله، ويكشف عن الإنسان القديم الذي كان حبا خالصا وحزنا خالصا، أهذه هي نهاية الحلم القديم؟ الإفلاس والانتحار! كأنما قضي بأن تؤدبه هذه الأسرة بأدب الآلهة الساقطين! الإفلاس والانتحار، وإذا كانت عايدة لا تزال في بحبوحة من العيش بفضل مكانة زوجها، فماذا طرأ على كبريائها الملائكي؟ وهل هبطت الأحداث بشقيقتها الصغيرة إلى ... - كان لحسين أخت صغيرة: ما اسمها؟ إني أذكره حينا وأنساه أحيانا كثيرة! - بدور، إنها تعيش مع والدتها وتقاسمها متاعب الحياة الجديدة ..
ناپیژندل شوی مخ