وجعل رياض ينصت وهو يهز رأسه موافقا، ثم بدا على كمال الإعياء والضيق فقال رياض: أنا مضطر إلى الذهاب فما رأيك في أن تصحبني إلى محطة الترام لعل المشي يريح أعصابك؟
ونهضا معا وغادرا الحجرة، وقابلا ياسين عند مدخل الدور الأول - وكان على معرفة سطحية برياض - فدعاه كمال إلى مصاحبته. غير أنه استأذن منهما دقائق ريثما يلقي نظرة على أمه. ومضى إلى حجرتها فوجدها كما تركها في غيبوبة، وكانت خديجة جالسة في الفراش عند قدميها وقد احمرت عيناها من البكاء، وعلت وجهها الكآبة التي لم تفارقه منذ امتدت يد الحكومة إلى ابنيها. أما زنوبة وعائشة وأم حنفي فقد جلسن على الكنبة صامتات، وكانت عائشة تدخن سيجارة في سرعة وقلق، على حين راحت عيناها تجولان في المكان في اضطراب عصبي، وسألهن: كيف حالها؟
فأجابت عائشة بصوت مرتفع ينم عن الضيق والاحتجاج: لا تريد أن تصحو!
وحانت منه التفاتة إلى خديجة فتبادلا نظرة طويلة دلت على تفاهم حزين ويأس مشترك فلم يتمالك إلا أن يغادر الحجرة ويلحق بصاحبيه.
وساروا في الطريق متمهلين، فقطعوا الصاغة إلى الغورية في شبه صمت، وعندما بلغوا الصنادقية صادفوا الشيخ متولي عبد الصمد ينحدر منها إلى الغورية متوكئا على عصاه، في خطوات مخلخلة، وقد كف بصره وارتعشت أطرافه، وكان يتلفت فيما حوله متسائلا في صوت مرتفع: من أين طريق الجنة؟
فأجابه مار وهو يضحك: أول عطفة على يمينك ...
وقال ياسين لرياض قلدس: أتصدق أن هذا الرجل قد جاوز المائة بما يقرب من عشرة أعوام؟ ...
فقال رياض باسما: إنه لم يعد رجلا على أي حال ...
وكان كمال ينظر نحو الشيخ متولي بعطف. كان يذكر به أباه، وكان يعده معلما من معالم الحي كالسبيل القديم وجامع قلاوون وقبو قرمز، ووجد كثيرين وهم يعطفون عليه، غير أن العجوز لم يسلم من شقاوة بعض الغلمان الذين راحوا يصفرون في وجهه أو يتبعونه محاكين حركاته.
وأوصلا رياض حتى محطة الترام، وانتظرا معه حتى ركب، ثم عادا معا إلى الغورية. وتوقف كمال عن السير فجأة وقال لأخيه: آن لك أن تذهب إلى القهوة ...
ناپیژندل شوی مخ