سوډان
السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية (الجزء الثاني)
ژانرونه
وقبلما نظر مؤسس الأسرة المصرية الحالية المالكة محمد علي الكبير جد صاحب الجلالة مولاي الملك فؤاد المعظم إلى حالة البلاد وتعهدها بعين عنايته وحول أنظمة الري من حالتها الطبيعية إلى حالتها الفنية الراقية، كان المزارعون يحصلون على ما يحتاجون إليه من المياه بوسائل فطرية بسيطة للمزروعات الصيفية أو لمزروعات الفيضان، ولم يكن القطن من بين هذه المزروعات. فقضت حكمة المصلح الكبير بإدخال زرع القطن إلى مصر بعد إتقان وسائل الري، فكان منبع الثروة لمصر وجعلها على اتصال وثيق بلانكشير. وأصبحت أيضا تحتاج كل الاحتياج إلى المهندس البارع لخزن المياه وتنظيمها وتقديم ما يحتاج إليه محصول القطن منها، فانصرف الاهتمام إلى إنشاء مشروعات عظمى من الأحواض والقناطر والسدود، وتم إنشاء كثير منها حتى الآن، وما زال الباقي تحت الإنشاء. ومشروعات الري هذه منتشرة على طولي مجرى النيل: وجميعها متوقف بعضها على البعض الآخر ومتصل بعضها بالآخر؛ مما يقضي بجعلها تحت سيطرة سلطة واحدة وإدارتها. ومن الواضح أن هذه السلطة التي تدير بيدها مصالح حيوية خطيرة تستطيع أن تقوى على فعل كل شيء. فكل خطأ ترتكبه عن عمد أو غير عمد في تنفيذ سيطرتها التي توزع بها ماء الحياة على النفوس يؤدي إلى عواقب مهلكة تصيب أرواح الشعب الخاضع لتلك السيطرة وأملاكه.
إنكم تعرفون - ولا شك - أهمية السلسلة الفقرية للهيكل الجسدي. وهي تقسم إلى ثلاثة أقسام مهمة. فإذا حرم الجسم من أحد هذه الأقسام؛ بل من جزء يسير منها أصبح مشلولا طول الحياة.
ويمكن أن تقسم مصر أيضا إلى ثلاثة أقسام: السودان والنوبة ومصر السفلى؛ فإذا تدخلتم قهرا في أي من هذه الأقسام الثلاثة فإنكم تشلوننا. ولكن إذا سعيتم إلى حرماننا من قسم حيوي كالسودان فإن حياتنا برمتها تبيد.
إن رجال السياسة يرسمون خطوطا على الخرائط ويلونونها بألوان مختلفة ويلعبون بالألفاظ وفاقا لما تصوره لهم مخيلاتهم، ولكن الطبيعة تأبى أن تتقيد بشيء من ذلك، ولا تلبث في كل حين أن تثبت وجودها.
وليس ثمت مجال للاختلاف في أن تسلم قلب مصر ومنبع دم الحياة الذي يجري في عروقها يفضي إلى شل لأعصابها وتعريضها للاعتلال والفناء. ولكن مصر واثقة بأن اتضاح حقوقها المقدسة سيزيل جميع الاختلافات في شأن سيادتها العملية المطلقة في السودان. وهذه السيادة العملية على إحدى مقاطعاتها الطبيعية التي تحتوي حاجاتها من المياه تخول مصر أن تكون قوية بمركزها متقدمة بنشوئها ونشاطها ثابتة في شؤونها السياسية، وبذلك تكون عاملا عظيما للسلام في مجتمع الأمم.
إن مصر المتمتعة بالثقة والعطف من جميع الشعوب الأوروبية عامة ومن بريطانيا خاصة تستطيع أن تقيم الدليل على أنها تخدم الإنسانية بأسرها خدمة لا شك فيها.
إن مصالحكم في وادي النيل هي مصالح تجارية واقتصادية. أما نحن فمسألتنا فيه مسألة حياة أو موت. فمصر بلاد لا ترويها الأمطار. ولا بد لنا أيضا من أن نهتم لمسألة سكانها الذين يزداد عددهم على الدوام، فهؤلاء السكان لا يحتاجون إلى العمل وتوفير وسائل العيش فقط في الوقت الحاضر، بل إلى منفذ ينفذون إليه في المستقبل.
إن لكم مستعمرات عديدة يستطيع أن يهاجر إليها الذين يزيدون عما تحتمله بلادكم من السكان، أما نحن فلنا سوداننا الذي هو إحدى مقاطعاتنا، وهو يحتوي على أراض شاسعة تكون منفذا طبيعيا شرعيا يجلو إليها الذين يزيدون من سكان مصر ويستثمرونها. ومن الطبيعي أن يذهب السكان الذين يزيدون في قسم من مملكة واحدة إلى قسم منها، حيث يكونون بين قوم منهم يدينون بدينهم ويتكلمون لغتهم ويعيشون في مثل مناخهم. وعلينا أن نضع موضع الاهتمام بنوع خاص أن معظم الأراضي المجاورة صحراء قاحلة.
فإذا كنتم توافقونني على رأيي وتنظرون إلى مصالح مصر الحيوية بما تنظرون به إلى المصالح البريطانية من حسن النية متمسكين بمبادئ حرية التجارة وحرية التبادل التي نشرتها منشستر قبل كل مدينة أخرى في العالم الذي طالما ظهرت عليه دلائل حب الذات، ففي وسعنا حينئذ أن نوفق بين مصالح بلدينا على المبادئ المقبولة التي تبنى عليها المصالح التجارية والاستقامة والصداقة.
لقد اعتادت الشعوب في هذا الزمن - وياللأسف - أن يتجر بعضها بالبعض الآخر بدلا من بذل تضحيات متقابلة توجد جوا تسود فيه الثقة والعلاقات الودية المنتجة على المصالح. وقد أظهرت الحرب العمومية وما عقبها من قلب التجارة بأسرها رأسا على عقب أن جميع المخاصمات التي سارت إلى أقصى مداها وأهلكت النسل وبددت الثروة الوطنية، ليست مما تستثمر فيها الأموال استثمارا صالحا؛ لأن القوات المبيدة التي أطلقتها أحقاد الشعوب المختلفة قد أوقعت المشروعات التجارية في الفوضى والاضطراب، وأصابت الشعوب نفسها بمثل ذلك. فالسياسة العملية الصحيحة هي التي تقضي بأن يوضع رأي الفريق الآخر موضع النظر، وأن تحقق المقاصد الأساسية التي تلغيها الشعوب الأخرى. فجميعها تود أن تعيش وتتقدم بانية مستقبلها على قواعدها الوطنية الخاصة.
ناپیژندل شوی مخ