وفي برهان اسپينوزا على هذه القضية ذاتها يقول: «أعني بالحر من لا يقوده إلا عقله؛ ومن ثم فإن من ولد حرا، وظل حرا، لا تكون لديه إلا أفكار كافية
adequate ؛ وعلى ذلك ... فليست لديه فكرة عن الشر، وبالتالي (طالما أن الخير والشر متضايفان) عن الخير.»
ولنتأمل جيدا دلالة فكرة تضايف الخير والشر؛ فالشر، كما يؤكد اسپينوزا، هو سلب وعدم، وليس صفة لها وجود أو كيان، ومن المحال أن يكون في طبيعة الأشياء ذاتها شر، ولكن حيث لا يوجد الشر لا يوجد الخير أيضا. والحادث الواحد يمكن أن يفسر على أي نحو نشاء، طالما أننا ننظر إليه من منظورنا البشري، ومن حيث هو حادث جزئي منعزل عن التيار العام للضرورة الطبيعية، إن الزلزال ذاته، الذي لا نكاد نتصوره إلا كارثة فادحة، وهو بالفعل كذلك في نظر معظم الناس، قد يكون سببا في إنعاش صناعة البناء أثناء فترة التعمير التالية. وقد تذكره كثير من النفوس بالخير لأنه قضى على منافس أو جلب ميراثا قبل الأوان أما إذا نظرت إلى الأمور في ذاتها، وتأملت الزلزال وسط سلسلة الحوادث الطبيعية السابقة عليه واللاحقة له، فلن يكون إلا حادثا ضروريا كان ينبغي أن يقع على هذا النحو، ولا يجوز لك، طالما أنك تتحدث من منظور الضرورة، أن تحكم عليه بأنه خير أو شر.
فإذا كان الخير والشر متضايفين في الإنسان، ألا يكون معنى ذلك أنهما متضايفان في الله؟ وإذا كان الإنسان الحر لا يعرف الخير، أليس معنى ذلك بالأحرى أن فكرة الخير لا شأن لها بالطبيعة الإلهية أيضا؟ إن اسپينوزا يكاد هنا يذكر رجال اللاهوت بحقيقة طالما غابت عن أذهانهم؛ فهؤلاء لم يكن لهم من هدف، من قديم الزمان، إلا إثبات أن الشر لا يمكن أن ينتج عن الطبيعة الإلهية، وإنما هو حكم على الظواهر من خلال منظورنا البشري المحدود، ولا شأن لله ذاته بالشر. وهذا صحيح كل الصحة، ولكن النتيجة الخطيرة التي فاتتهم في هذا كله هي أنك حين تنفي الشر عن الإرادة الإلهية تنفي عنها الخير أيضا. فكما أنك لا تستطيع أن تفهم لفظ «ابن» دون لفظ «أب»، فكذلك لا يمكن فهم الخير دون الشر. والفكرتان معا متضايفتان، إن وجدت إحداهما فلا بد أن توجد الأخرى وإن غابت واحدة غابت معها الثانية. والنتيجة الحتمية الوحيدة للمحاولات اللاهوتية لإثبات أن الشر معنى يوجد في المنظور البشري وحده، هي أنها تؤدي إلى استبعاد كل القيم (التي هي حقا بشرية آخر الأمر) عن الطبيعة الإلهية. أما أن تستبعد وتستبقي المتضايف معها، فذلك تناقض لا شك فيه. (3) «العلية الخالقة»: ينفي اسپينوزا عن فكرة الله أي وصف له صلة بفكرة العلية الخالقة، ففكرة الخلق ذاتها هي في نظره تشبيه للقوى الإلهية بقوى الإنسان حين «يحدث» شيئا أو يكون علة له.
41
فالطبيعة عنده ليست في حاجة إلى علة، بل إن اسپينوزا يحاول أن ينزع عن أذهان الناس ميلهم المأثور إلى تطبيق العلية على كل شيء، حتى على الكون في مجموعه؛ فهو يؤكد أن العلية لا تنطبق إلا على الأشياء الجزئية، ولكنها لا تنطبق على الجوهر، أو الطبيعة في مجموعها، ومن العبث أن نبحث عن علة للجوهر مثلما نبحث عادة عن علل للأشياء الجزئية، فهو هنا يدعو إلى التوقف عن البحث عن علة للطبيعة بأسرها، ويحاول تعويد الأذهان على قبول فكرة الطبيعة الموجودة منذ الأزل، غير الناتجة عن علة.
42
ولو تحقق له هذا العرض، لزال بذلك أقوى سبب يؤدي بالناس إلى افتراض موجود خارج عن الطبيعة عال عليها، يكون علة لها؛ فالعلية داخل المجموع علية باطنة. وهذا هو ما يعنيه اسپينوزا بفكرته القائلة إن الجوهر «علة ذاته
Causa sui » - وهي فكرة سنعرض لها فيما بعد بمزيد من التفصيل. وبعبارة أخرى: فليس لك أن تلتمس للطبيعة في مجموعها علة؛ لأن هذه الطبيعة أزلية لا تستطيع أن تقول إنها لم تكن في أي وقت موجودة ثم وجدت.
أما الأشياء الجزئية فتعليها يرجع إلى أشياء أخرى جزئية مثلها، ويعبر اسپينوزا عن تلك الفكرة بالأسلوب المدرسي المحافظ الذي اتخذه لكتاباته، فيقول «إن علة الفكرة الفردية هي فكرة فردية أخرى، أو الله لا من حيث إنه لا متناه، بل من حيث هو متأثر بفكرة شيء فردي آخر يكون الله علة له، ويكون علة لهذا الأخير من حيث هو متأثر بفكرة شيء فردي ثالث. وهكذا إلى ما لا نهاية
ناپیژندل شوی مخ