هذه النصوص من أوضح نصوص اسپينوزا دلالة، وليس من الصعب الاستدلال على المعاني الحقيقية الكامنة من ورائها؛ إذ إن القشرة اللاهوتية التي غلفت بها هذه النصوص رقيقة هشة إلى أبعد حد، وهي تكشف بشكل مباشر عن الاتجاه العلمي الواضح المتضمن فيها.
ذلك لأن مجرد إدخال فكرة الضرورة في مجال اللاهوت هو في ذاته ثورة على كل ما كان يقال في هذا المجال؛ إذ إن اللاهوتيين كانوا يرون في فهمهم الخاص لفكرة الله وسيلة لإيجاد مخرج من فكرة الضرورة وحتمية القانون الطبيعي، ولإظهار العالم بصور ينقاد فيها لنوع من الأوامر الاعتباطية الشبيهة بأوامر حاكم لا يعترف بقانون؛ فالهدف الواضح لاسپينوزا هو تأكيد فكرة الضرورة وسيادة القانون في جميع أرجاء الكون، ومع ذلك فهو يعبر عن هذه الفكرة، على طريقته المعهودة، بالقول إن فكرة الضرورة أليق بالكمال الإلهي من فكرة الحرية العشوائية التي تتمثل في تحدي القانون أو تغييره عمدا، ويكون المعنى المقصود بالفعل من ذلك هو أن صفة الضرورة أصلح للانطباق على العالم الذي يسير بقوانين ثابتة، منها على التصور اللاهوتي لكائن مشخص عال على الطبيعة ذي مشيئة حرة. وبعبارة أخرى: فإن الفهم العلي للعالم يحتم استبعاد فكرة الخروج العشوائي على القانون والنظام المطرد من مجال تلك الحقيقة التي نتخذها حدا نهائيا لجميع تفسيراتنا وأفكارنا، فماذا يكون الدور الحقيقي لفكرة الله، عندئذ، خارج القوانين الطبيعية الضرورية، التي يصفها اسپينوزا بأنها «أزلية»؛ أي لم تبدأ في الوجود ولن تتبدل أو تبطل أبدا؟ من المؤكد أن اسپينوزا لم يجعل لهذه الفكرة أي دور يخرج عن الدور الذي تقوم به فاعلية الطبيعة ذاتها، ولا يجد المرء مفرا كلما أمعن النظر في هذا الموضوع، من القول إن الفكرة عنده إضافة لفظية لا داعي لها، ومن الممكن أن تستقيم فلسفته تماما بدونها، وهو يكاد يعبر مباشرة عن قصده الحقيقي حين يقول «يعتقد البعض أن الله علة حرة؛ لأنه في اعتقادهم يستطيع ألا يحدث الأشياء التي قلنا إنها تتلو من طبيعته؛ أي الأشياء الواقعة في نطاق قدرته، أو يجعلها غير واجبة الحدوث منه، ولكن هذا أشبه بقولهم أن الله كان يستطيع أن يجعل طبيعة المثلث لا تحتم أن يكون مجموع زواياه الداخلة قائمتين، أو أن معلولا معينا لا ينتج من علته، وهو قول ممتنع.»
37
وإذا عبرنا عن فكرة اسپينوزا هذه من خلال المصطلح الحديث، لقلنا إن العلاقة بين الله وبين الأشياء تعد عندئذ علاقة «تحليلية» والضرورة فيها هي نفس الضرورة التحليلية التي تربط بين المثلث ومجموع زواياه الداخلة. ومثل هذا النوع من العلاقة يستبعد أية علية خارجية أو عالية، وهو بلا شك ينطبق كل الانطباق على العلاقة التي تربط الأشياء الجزئية بمجموع العالم من حيث هو ينطوي على كل ما يمكن تصوره من الإمكانيات. (2) «الخيرية»: الوصف بالخيرية من أكثر الأوصاف الإلهية شيوعا في كل مذهب يقول بأي نوع من الانفصال بين الله والطبيعة؛ إذ يكون الخير عندئذ هو الغاية التي يستهدفها الله في توجيهه للعالم. ولقد رأينا من قبل كيف انتقد اسپينوزا فكرة تأكيد وجود القيم - كالخير أو الجمال - على مستوى الضرورة الكونية. ولما كان مجال البحث هنا على نفس ذلك المستوى، فإنه يطبق نقده هذا على فكرة الخيرية الإلهية لينفيها بدورها.
ومن الواضح أن نفي هذه الصفة يرتبط ارتباطا وثيقا بنفي صفة العرضية والمشيئة الحرة، التي عرضنا لها من قبل، فسيادة الضرورة في الطبيعة تعني عدم وجود غايات. والقول إن الخير غاية إلهية، معناه في رأي اسپينوزا أن هناك قوة خارجية تتحكم في الأفعال الإلهية. وهذا لا يختلف كثيرا عن القول بالمشيئة الحرة. وإنما الصورة التي يكونها اسپينوزا هي صورة فعل محض لا تغيير فيه، ولا غائية يخضع لها. وهو يرد على من يقولون إن الفعل الإلهي يستهدف دائما تحقيق ما هو خير بقوله إنهم يفترضون شيئا ما خارجا عن الله يستهدفه الله، بوصفه أنموذجا أو غاية محدودة، في أفعاله،
38
وهو محال نتيجة لما أثبته مرارا من أن فكرة الله شاملة لكل شيء. والواقع أن صفة الخير هذه صفة مستمدة من المجال البشري، ولا يمكن تصورها بدون الإنسان. أما الكائن الشامل لكل شيء فلا ينبغي تصوره من خلال مثل هذه الأوصاف؛
39
ذلك لأن الكائن الشامل لا ينظر إليه إلا من خلال العقل، ولا تنطبق عليه إلا القوانين الضرورية. وحيث يسود العقل وتسري الضرورة المطلقة لا يكون للخير - أو للشر - أي مجال. وإنما الخير والشر ينطبقان على مجال الآمال والمخاوف والقيم البشرية فحسب. فليس في الطبيعة، من حيث هي ضرورية، خير ولا شر، وليس للحادث إذا ما نظر إليه من حيث علاقاته الضرورية بمجموع حوادث الكون أية صلة بقيمة من هذه القيم؛ ذلك لأنه «لو كان البشر قد ولدوا أحرارا، لما كونوا أية فكرة عن الخير والشر.»
40
ناپیژندل شوی مخ