ومع ذلك فقد كانت الأخطار موجودة وشديدة، حتى أثناء العهد الجمهوري، وكل ما في الأمر هو أن الحاكم، في هذه الحالة الأخيرة، كان يتولى بنفسه ضد الهجمات عن المفكرين الأحرار. والحق أننا ما زلنا في القرن العشرين نجد مجتمعات كثيرة تعد آراء كتلك التي أبداها اسپينوزا أخطر من أن يسمح بنشرها، فما بالك بالقرن السابع عشر، وفي تلك الظروف الخاصة التي عاش فيها اسپينوزا؟
لقد كان مصدر الاضطهاد في عهد اسپينوزا مزدوجا؛ فبالإضافة إلى خطر الحكام والسلطات الدينية الرسمية، كان هناك خطر الطائفة اليهودية التي طردته من بين صفوفها وحرمت كتبه. وعندما وجدت هذه الطائفة أنه لم يرجع عن موقفه منها، وأنه ظل يتحداها بتفكيره المتحرر، حاولت أن تستعدي عليه السلطات المدنية من جهة والسلطات الدينية المسيحية من جهة أخرى. وكانت هذه الطائفة، كما سنرى فيما بعد، تعتقد أن آراءه هذه تهدد كيانها بأسره، وربما جلبت عليها نقمة المجتمع المسيحي الذي تعيش هي أقلية فيه. وهكذا كانت أسرع إلى التبرؤ منه وإلى تحذير السلطات من آرائه حتى لا يلحقها الضرر من انتسابه إليها.
وإذن فقد كان موقف اسپينوزا حرجا يدعوه إلى الحذر إلى أقصى حد؛ فهو أولا قد طرد من طائفته بسبب ما قيل من مروقه وخروجه على الدين؛ أي إن الشبهات كانت تحوم حوله منذ البداية. وهو ثانيا قد أعرب بالفعل فيما بعد عن آراء جريئة إلى أقصى حد، ولا سيما في «البحث اللاهوتي السياسي» الذي كانت جرأته فيه تفوق إلى حد لا يتصور أكثر الآراء تحررا في عصره، وهو ثالثا قد شعر بالفعل ببوادر الاضطهاد تحل عليه، فكان من الطبيعي أن يأخذ في التأهب لها.
ولقد أورد «فرويدنتال» أكثر من خمسين وثيقة من كنائس مسيحية ويهودية، ومن جهات مدنية وسياسية، ومن معاهد علمية وجامعية، تندد كلها بكتب اسپينوزا ولا سيما «البحث اللاهوتي السياسي»، وتحرم ذلك الكتاب أو تحكم على صاحبه رسميا بالمروق،
24
كما قال بيل
Bayle
في مقاله المشهور عن اسپينوزا في قاموسه أن اسم «الاسپينوزيين» أصبح يطلق على «من ليس لهم دين، ولا يعبئون كثيرا بإخفاء ذلك.» بل إن «كوليروس»، مؤرخ حياة اسپينوزا، قد حمل عليه بشدة لأنه لم يعرف عن الله إلا الاسم فقط، ويفهمه بطريقة لم يعرفها أحد من المسيحيين حتى ذلك الحين - ويتساءل كوليروس: «أليس هذا أخطر إلحاد عرفه العالم؟ إن هذا هو ما حدا بالسيد «پورمانوس
Burmannus »، راعي كنيسة الإصلاح في «انكهوسه
Enkhuise » إلى أن يسمي اسپينوزا، عن حق أفجر زنديق عرفه العالم.» ويعدد كوليروس بعد ذلك النقاد الذين ألفوا كتبا في تفنيد آراء اسپينوزا، ومنهم الفلاسفة ورجال الدين والأساتذة، بل والتجار أحيانا، وهي كتب تتسم كلها بأنها تستعدي عليه سلطة الإيمان أكثر مما تناقشه على نفس المستوى العقلي الذي كان يتحدث منه.
ناپیژندل شوی مخ