21 (ب)
ومنهم «ليوشتراوس» الذي يقول عن اسپينوزا: إنه كان في ذلك الكتاب «حذرا بمعنى أنه لم يذكر الحقيقة كلها بوضوح وصراحة، بل أبقى عباراته، بقدر إمكانه، في الحدود التي تفرضها تلك المطالب التي عدها مطالب مشروعة لمجتمعه.»
22
ثم يضع القاعدة الآتية: «إن القاعدة السليمة لقراء «البحث اللاهوتي السياسي» هي أنه، في حالة التناقض، ينبغي أن ينظر إلى الرأي الأشد تضادا مع ما يعتقد اسپينوزا أنه هو رأي العامة، على أنه هو المعبر عن رأيه الصحيح ... فاتباع هذه القاعدة في القراءة هو الوسيلة الوحيدة التي تمكننا من فهم تفكير اسپينوزا كما كان يعنيه تماما، ومن تجنب خطر الانخداع بأساليبه الاسترضائية
his accommodations ».
23
وفي رأينا أنه إذا كان اسپينوزا قد تعمد هذا الإخفاء في البحث اللاهوتي السياسي، فقد كانت وسيلته إلى ذلك هي اتباع «طريقة المعادلات» التي أشرنا إليها، والتي يمكن، بشيء من التوسع، أن تعد بدورها تعبيرا عن المنهج الهندسي.
فالمنهج الهندسي إذن أوسع نطاقا مما يبدو لأول وهلة، وهو في جميع مؤلفات اسپينوزا (كما ذكرنا في المقدمة) يمثل اختبارا نفسيا لقدرة الذهن على التخلص من الارتباطات التقليدية للألفاظ إذا طلب إليه ذلك. وإذا حكمنا على الأمر من عدد الذين رسبوا في هذا الاختبار - ومنهم عدد ضخم من كبار المفسرين والفلاسفة المحترفين - فلا بد أن المعاني التقليدية للألفاظ ترسخ فيها، لا سيما إذا كانت كالألفاظ اللاهوتية مشحونة بارتباطات نفسية قوية، إلى حد تضطر معه هذه الأذهان إلى الرجوع إليها رغما عنها مهما طلب إليها أن تستبدل بها غيرها. •••
ولكن هذا التفسير الذي نقول به للمنهج الهندسي يحتاج إلى دعامة أخرى بدونها ينهار فرضنا هذا من أساسه. فلماذا كان اسپينوزا حذرا وما هي مظاهر هذا الحذر عنده؟ للإجابة على هذا السؤال ينبغي أن نرجع إلى مؤلفات اسپينوزا ذاتها، وإلى ظروف حياته وعصره، لنستخلص منها أسباب الحذر ومظاهره، وسوف نأتي في القسم التالي بالشواهد الكفيلة بإثبات هذا الرأي على نحو قاطع. (4) أسباب حذر اسپينوزا ومظاهره
كان حذر الكتاب من نتائج آرائهم الجريئة في القرن السابع عشر حقيقة واقعة، وصحيح أن اسپينوزا قد عاش فترة من حياته في ظل جمهورية مستنيرة هي جمهورية «دي ڨيت»، غير أن القوى التي كانت تقاوم اتجاه التسامح هذا كانت عديدة؛ فقد كانت هناك الأوساط الدينية المتعصبة من جهة، والدوائر السياسية الاستبدادية التي تشجع في سبيل الوصول إلى مآربها أشد الحركات الدينية رجعية، وأشد الاتجاهات الاجتماعية ظلما. وبالفعل أحرزت هذه السياسة الرجعية انتصارها الحاسم الذي قتلت فيه «دي ڨيت» وشقيقه ومثلت بهما وعاد التعصب وضيق الأفق ظافرا من جديده، على يد أسرة أورانج. فإذا كنا نجد من الكتاب من يقول: إن اسپينوزا كان فيلسوف النظام الجمهوري في عهد «دي ڨيت»، فذلك في الواقع لم يكن تملقا منه أو رغبة في مسايرة الحكم، وإنما كان دفاعا عن تلك الفترة القصيرة من الحرية الفكرية، أو على الأصح عن قدرته على إعلان آرائه دون التعرض لخطر شديد.
ناپیژندل شوی مخ