وللإعلانات في نظامنا القائم قيمة تنويرية كبيرة لا تقل أحيانا عما تنشره الصحيفة من أخبار أو مقالات، فإن الشركة الجديدة - في تجارة أو صناعة - تحتاج إلى شرح أعمالها القادمة، وهي لا تنتظر الخدمة المجانية من الصحيفة في هذا الشرح؛ ولذلك تقوم هي بنشره إعلانا أو إعلانات متكررة حتى تقف الجمهور على مشروعاتها ويقدم على شراء أسهمها، وكثيرا ما تظهر هذه الإعلانات في صيغة مقالات، والجمهور يستنير بهذه الإعلانات والشركة تنتفع.
وقد يقال هنا إن الشركة أو المؤسسة التجارية أو الصناعية التي تغزو إحدى الصحف بإعلاناتها تستطيع أن تؤثر في سياستها وتحددها بالحرمان إذا هي أقدمت على انتقادها بما يؤدي إلى إيذائها ماليا.
واعتقادنا أن هذا صحيح، وقد مرت بي اختبارات صحفية من هذا النوع؛ فإني أذكر أن إحدى البواخر ارتطمت، وكان عليها مسافرون مصريون، وتسلمت الخبر بالإنجليزية من إحدى شركات الأخبار وترجمته، ولكن بعد أقل من عشر دقائق جاءنا رسول من مكتب الشركة التي تملك هذه الباخرة وطلب أن نمتنع عن النشر، وكان التهديد المضمر أننا إذا نشرنا الخبر أسأنا إلى سمعة الشركة، وعندئذ تقطع إعلاناتها عن الجريدة التي كنت أعمل فيها محررا ومترجما، وامتنعت الجريدة عن النشر خاضعة ذليلة، بل حدث ما هو أفدح من هذا، فقد كانت هناك شركة تأمين في التصفية، فرشت الصحف حتى لا تنشر خبر التصفية، واستطاعت أن تنتهي من التصفية قبل أن تؤدي التزاماتها للمؤمنين عندها، ونستطيع أن نزيد.
حدث هذا قبل نحو ثلاثين سنة.
وبالطبع هذا الامتناع من الصحيفة عن نشر الحقائق خشية أن تخسر الإعلانات يعد إجراما صحفيا يترفع عنه ويأباه الصحفي الأمين المخلص، كما يجب أن تترفع عنه وتأباه الشركة التجارية أيضا سواء أكانت شركة بواخر أم شركة تأمين.
ولكن في نظامنا الاجتماعي الحاضر مفاسد، تكاد تكون أصيلة فيه، وإن يكن هناك من الرجال الأشراف من يستطيعون من وقت لآخر أن يستعلوا وأن يأبوا الخضوع لهذه المفاسد.
اعتبر مثلا جريدة المقطم، فإننا كلنا نعرف الضرر الفادح الذي أنزلته بالشعب المصري حين عاشت حياتها وهي تؤيد الاستعمار البريطاني، ولكن كانت لها فضيلة أخرى لا يعرفها الجيل الجديد الذي سمع عنها ولم يرها؛ ذلك أنها طيلة سبعين سنة أو أكثر من عمرها رفضت نشر إعلان واحد عن المشروبات الكحولية، وخسرت بالطبع بهذا الرفض نحو مئة أو مئتي ألف جنيه، ولكنها ارتضت هذا الخسار التزاما لمبدئها وهو جحد الخمور.
وشبيه بذلك أيضا ما حدث في أيامنا، ففي 1953 كتبت الصحف بشأن إحداث التدخين لسرطان الرئة، وكان الأطباء الذين يصدرون مجلة «بريتش مديكال جيرنال» قد بحثوا هذا الموضوع واقتنعوا بصحته؛ فأعلنوا في يناير من 1954 أنهم يرفضون نشر الإعلانات عن السجاير، مع أن أقل ما كانت تحصل عليه هذه المجلة الطبية من هذه الإعلانات لم يكن لينقص عن خمسة أو عشرة آلاف جنيه في السنة.
ان لبعض الصحفيين أخلاقا عالية.
وأعود فأكرر القول بأن نظامنا الاقتصادي الحاضر، نظام المباراة يحتاج إلى الإعلانات، وربما لا يستطيع البقاء بدونها، ولكن في نظام آخر مثل روسيا ليست هناك حاجة إلى إعلانات في الصحف؛ ولذلك تصدر جميع جرائدها ومجلاتها بلا إعلان واحد، ونظامها الاقتصادي لا يحتاج إلى ذلك، فإن أحد الأسس الذي تنهض عليه فكرة الإعلان هي أن «سلعتي أفضل وأرخص من السلع التي يبيعها غيري».
ناپیژندل شوی مخ