أله عن وهمك يا بني، وضع الأمر على قاعدته، وسدد نظرك إلى حقيقته، ودعني من حبل الباطل الذي تجر فيه شيطان هواك، أو يجرك هو فيه، وما تتكلم عن اثنين من الخليقة: أنت، وهي، ولو أن الأمر قد انحصر فيكما، وفنيت بالحب فيها لكانت هي الكون كله، ولو فنيت هي فيك لكنت أنت ذلك الكون، وهذا - حرسك الله - موضع النقص في النفوس العاشقة؛ إذ تنقطع إحدى نفسين من العالم إلى نفسها الأخرى: وهو نقص أشبه بجنون المجانين، بل هو متمم له؛ فإنما ذهاب العقل في المجنون المختبل هو نصف الجنون الإنساني، أما النصف الآخر فهو تجرد العقل في العاشق المتدله.
نصف الجنون في العاشق الذي يتجرد من الناس إلا من أحب، ونصفه في المعتوه الذي يتجرد من الزمن إلا الحاضر!
إنه ليس للمجنون عند نفسه ماض ولا مستقبل؛ إذ لا يأمل هذا، ولا يذكر ذاك، وكل سعادة نفسه في هذا النسيان الذي طمس عليها، وتركها كأنما تعيش في غير عمرها، بل في كل أعمار الإنسانية، بل بغير عمر، وكذلك ليس للعاشق مع الحبيب شخص آخر ممن مضى، وممن يأتي، مادام الحب قائما؛ فالحبيب هو الحبيب، وكل الناس بعده أدوات، وشخص واحد هو الألف واللام، والحاء والباء، والناس جميعا نقطة صغيرة ملقاة تحت الباء فقط ... (قال الشيخ علي): ثم يبرأ المجنون، ويثوب إليه عقله؛ فيعرف أنه كان مجنونا، ويبغض المحب، أو يسلو ويبرأ من وهمه في تلك المرأة، فلا يرى إلا أنه كان بها مجنونا، أفلا يكفي هذا - ويحك - في الدلالة على أن الحب والجنون من أم واحدة وإن اختلف أبواهما؟ ... وإن رأي العاشق في كل النساء كرأي المجنون في كل الناس: لا يجوز أن نأخذ بواحد منهما إلا إذا أخذنا بالآخر، وأقررناه في باب الصواب والعقل؛ إذ كلاهما حاصل من حالة متى تغيرت فانقلبت اعترف صاحبها عليها بالجنون، وإن كانت إحدى الحالتين في طبيعتها، ووصفها غير الأخرى؟ ويلمه وصفا من العاشق لو كان مع صاحبه رأي وويلمه
15
رأيا من المجنون لو كان مع صاحبه عقل! ••• (قال الشيخ علي): سئل الحلاج
16
وهو مصلوب يعاني غصة الموت: ما التصوف؟ فقال لسائله: أهونه ما ترى ... فهذا رجل يموت في سبيل حقيقة تقتله بغموضها السماوي العجيب، وعلى أنها قد دقت المسامير في أطرافه، وجمعت لموته آلام الحياة كلها، وأنبتت في كبده من وخزات الجوع شجرة من الشوك، وأطلقت في عروقه من لذعات العطش لهيبا من النار، وتركته على صليبه ممدودا تتساقط نفسه كما ينشر الثوب الذي بلي وانسحق، فهو يتمزق من كل نواحيه؛ على هذا البلاء كله، لم تتغير الحقيقة في رأي الرجل، ولا فساد موضعها في نفسه، ولا أرى ما يكرهه الناس من الألم مكروها في ذاته فيميل عنه، ولا ما يحبونه من اللذة محبوبا فيميل إليه، ولا تسحب قلبه حركة واحدة في السخط على الحكمة الإلهية فانتقصها برأي، أو اغتمز فيها بكلمة، بل نظر نظرة الحكيم من وراء الحد الإنساني المنتهي فيه، إلى ما يبدأ عنده الحد الإلهي الذي لا ينتهي، ورجع آخره إلى أوله، فكأنما يقول بلسان حكمته فيما نزل به: اللهم إنك بدأتني طفلا غرا جعله فقدان العقل لا يملك مع أحد إلا صياحه، فخذني إليك طفلا عاقلا جعله العقل لا يملك مع أحد، ولا صياحه!
واذكر الطفل يا بني، فرب معضلة من أمور هذه الدنيا يحار الناس في آخرها، وهي محلولة من أولها. وما هؤلاء الأطفال إلا الأساتذة الذين يعلموننا وهم يتعلمون منا؛ غير أننا لا نأخذ عنهم فلا نصلح، ويأخذون عنا فيفسدون! أفرأيت ولد الشوهاء تعرف عيناه في كل ما طلعت عليه الشمس أجمل من وجه أمه، أو يرى طائلا في وجه سواها، أو يحن إلى غير طلعتها، أو يسكن إلى صدر غير صدرها، حتى كأن الله لم يخلق وجه حبيب لقبلات محبه إلا وجهها هي لقبلاته؟
17
إنه في ذلك ينظر من ناحيتين؛ الأولى: ناحية صفاته هو، فإن القلب إذا لم يكن بهيميا منعكسا أشرق صفاؤه فيما حوله؛ فلا يرى إلا خيرا، ولبست المرئي صفة الرائي فلا ينظر إلا جمالا، واتصل الشعور الطيب الرقيق الجميل بين نظر النفس وبين ذات النفس، كما يصل الشعاع الذي يلقى على حائط من المصباح بين هذا الحائط وبين المصباح، فيغشيه النور وإن كان الحائط نفسه من الطين ... فإذا كان القلب بهيميا زائغا عن الإنسانية إلى حيوانيته، استفاضت ظلمته وشهواته على ما حوله، فلن يشهد من صفات الجمال شيئا، بل يرى في كل شيء من صفات نفسه هو؛ حتى ليكون الوجود كله في عين بعض الناس كما يكون الطعام كله في فم المريض ... ومثل هذا يعشق أجمل النساء فلا يرى فيها جمالا ألبتة، وإن هو خدع نفسه في ذلك، واختدع الناس، وإنما يرى شهوات، شهوات جميلة ليس غير!
ناپیژندل شوی مخ