كلمة
1 - القمر الطالع
2 - النجمة الهاوية
3 - السجين
4 - الربيطة1
5 - المنافق
6 - الصغيران
7 - الشيخ علي
8 - الشيخ أحمد1
9 - الشيخ محمد عبده
كلمة
1 - القمر الطالع
2 - النجمة الهاوية
3 - السجين
4 - الربيطة1
5 - المنافق
6 - الصغيران
7 - الشيخ علي
8 - الشيخ أحمد1
9 - الشيخ محمد عبده
السحاب الأحمر
السحاب الأحمر
تأليف
مصطفى صادق الرافعي
مقدمة الطبعة الأولى
بقلم مصطفى صادق الرافعي
لما كتبت «رسائل الأحزان» في فلسفة الجمال والحب كنت في تدبيره، والرأي فيه كمن يؤرخ عهدا من شبابه بعد أن رقت سنه،
1
وذهب يقينه من الدنيا، ولم يبق إلا ظنه، فهو يكتب والكلام يحن لديه، والقلم يئن في يديه، وكل وصف جاء به من الشباب قال رحمة الله عليه! وكنت أتعلق بأطراف اللغة التي فرت من الحياة معانيها، وذهب نورها وظلامها في أيامها ولياليها، فكان قلمي هو الذي يكتبها، ولكن قلبي هو الذي يمليها.
لغة الأحلام التي تعبر عن الحقائق على نحو ما وقعت يوما لا على نحو ما تقع كل يوم، فهي تترجم للحياة في زمن من العمر تاريخ هذه الحياة نفسها في زمن آخر، وترجع الإنسان كله لبقيته الباقية، وتأتي في الكلام لغير جدال، كما تأتي الأجوبة القاطعة على أسئلتها.
وهي لغة الماضي التي تحمل ما حملت عليها؛ لأنها صافية كالحق، منزهة عن الريب كالواقع؛ فإذا وصفت بها الخير كانت كالمرآة المجلوة، أشرق فيها وجه جميل؛ فملأ صفاءها جمالا وفتنة. وإذا صورت بها الشر كانت كالمرآة، ووجه الزنجي؛ يملؤها سوادا، ولكنه لا يطمس على شعاعها، وتضيف إلى سواده لمعان نورها ما دام فيها! •••
كتبته بلغة الأحلام؛ والأحلام هذه إنما هي بعض ما مات منا، أو ما مات لنا؛ فإن استحال رجوعنا في هذا العمر عودا على الماضي؛ فهي رجوع الماضي إلينا؛ ومن ثم كان في لغتها شيء ظاهر من روعة الخلق، وكانت لها معان كأنها راجعة من سفر بعيد إلى شوق طال به الصبر.
كتبت كتابة قال الغافلون: إني أتكلف لها خيالا ورواية؛ وقال العاشقون: إنها كلام قلوبهم، وقال الذين يفهمون الكلام: إنه هو في كلامه!
ولقد كنت من نفسي يومئذ كمن لو ضربه الحب بقشة لجرحه جرحا يدمى،
2
وكنت أكتب عن ساحرة تبسم حتى لتظن أنها لم توت وجها تعبس به، ثم تكون مع ذلك شر ما هي كائنة من حيث لا تظن أنت بها إلا الذي هو خير وأهدى!
وكنت في ذلك الكتاب شاعرا، وحب الشاعر لا يخلو من الوزن ...؛ وكنت متفلسفا؛ وهيهات إن أصبت الحب أيها الفيلسوف إلا في امرأة معقدة، يؤلفها الله تأليفا من العسر بين فهمك ومعانيها؛ فلا جرم كان الكتاب في نوع من الحب المتألم لا يكون مثله إلا بين اثنين مسح الله يده على وجهه أحدهما، ثم مسح يده على قلب الآخر، ثم تراءيا بعد؛ فما لبث أن أشرق الأثر الإلهي على الأثر، ووقع القضاء في الحب على القدر!
ألا إن كل باب يفتح ويغلق بمفتاح واحد هو يغلقه وهو يفتحه، إلا باب القلب الإنساني؛ فقد جعل الله له مفتاحين: أحدهما يغلقه، ثم لا يغلقه سواه، وهو مفتاح اللذات؛ والآخر يفتحه، ثم لا يفتحه غيره، وهو الألم! •••
كنت أستوحي «الرسائل» من تلك النفس التي طارت بي طيرتها البطيء وقوعها؛ فإني لأستعر بها فكرا،
3
وأشتعل منها خيالا، وكنت أرى الفصول تخلص في يدي حين أكتبها كما تخلص سبائك الذهب بعناصرها لا بالصناعة؛ وكان هذا القلم كالحديد إذا أحمي عليه: ليست يد لمسته من أيدي المعاني إلا وضع فيها سمة النار؛ ثم جاء الكتاب، وما أكاد أصدق أن الزمن مر به، وتم قبل أن يتم القمر دورة شهر واحد،
4
فنبهني ذلك إلى أن أستوفي الكلام في الحب استمدادا من أرواح أخرى، فوضعت هذا السحاب الأحمر.
5
وقد استوحيته من أرواح فيها الحبيب والبغيض والصديق والمظلوم والظالم لنفسه، ومن عقله قلبه، ومن حبه منفعته؛ وفيها أضعف ما عرفت من العقول وأقواها؛ فمن هذه السماء توكفت هذا السحاب؛
6
وإني لأشهد أني في بعض فصوله كنت أحامي عن الحب أن ينتقص؛
7
فأدير الكلام على ذلك فيلتوي، ثم أراه لا ينقاد، ولا يتابع إلا على خلاف ما أريد؛ فإذا أخذت في المذهب الذي يعن لي اتفاقا وعرضا،
8
تحدر الكلام تحدر الدمع من حيث لا يملك أحد أن يفيضه أو يكفه؛ لأنه عند أسبابه الباطنة، وفي فصل «الشيخ علي» خاصة كانت روح هذا الرجل الطبيعي كأنها هي التي تكتب، وكان مريدا على طبعه وخلقه،
9
فما ملكت معه محاماة ولا دفعا. وفي فصل «الشيخ محمد عبده» كنت أشعر كأني مرتق في صعداء مطلبها طويل بعيد،
10
فلا أخطو خطوة إلا مدافعا جاذبية الأرض، وشاعرا بأني أحمل نفسي حملا؛ وكنت كالذي يطأ على أضراس الجبل الصخري وأسنانه متئدا حذرا أن يزل فيسقط سقوط اللقمة الممضوغة ... ولا ينفعه في الصخر، وشموخه، وتعاليه أنه كان في عريض السهل عداء لا يلحق! •••
من الحب رحمة مهداة؛ فإذا كنت مع الله كانت كل أفكارك صورا روحانية؛ فأنت كالملك: هو في الأرض ما هو في السماء. ومن الحب نقمة مسلطة؛ فإذا كنت مع الشياطين كانت كل أفكارك صورا حيوانية، فأنت كهذا المتجهم الطياش
11
الذي لو نظر في كل مرائي الدنيا ما رأى في جميعها غير وجه القرد؛ لأنه القرد !
والناس في هذا الحب أصناف: فواحد يجاهد زلات قد وقعت، وهو المحب الآثم؛ وآخر يجاهد شهوات تهم أن تقع، وهو المحب الممتحن؛ وثالث أمن هذه وهذه، وإنما يجاهد خطرات الفكر، وهو المحب ليحب فقط؛ ورابع كالقرابة والصديق: عجز الناس أن يجدوا في لغاتهم لفظا يلبس هذه العاطفة فيهم؛ فألحقوها بأدنى الأشياء إليها في هذا المعنى، وهو الحب. وعلى الثالث وحده بنيت «رسائل الأحزان»، وعلى بعض الرأي في الباقيات كسرت هذا الكتاب.
من للمحب ومن يعينه
والحب أهنأه حزينه!
أنا ما عرفت سوى قسا
وته فقولوا كيف لينه؟
إن يقض دين ذوي الهوى
فأنا الذي بقيت ديونه
قلبي هو الذهب الكري
م فلا يفارقه رنينه
قلبي هو الألماس: يع
رف من أشعته ثمينه
قلبي يحب وإنما
أخلاقه فيه ودينه •••
يا من يحب حبيبه
وبظنه أمسى يهينه
وتعف منه ظواهر
لكنه نجس يقينه
كالقبر غطته الزهو
ر وتحته عفن دفينه
ماذا يكون هواك لو
كل الذي تهوى يكونه؟
دع في ظنونك موضعا
إن الحبيب له ظنونه
وخذ الجميل لكي تز
ين الحسن فيه بما يزينه
إن تنقلب لص العفا
ف لمن تحب فمن أمينه؟
ما لذة القلب المدل
ه لا يطول به حنينه؟
ما لذة العقل المح
ب ولم يجننه جنونه
الحب سجدة عابد
ما أرضه إلا جبينه
الحب أفق طاهر
ما إن يدنسه خؤونه
أفق الملائك نفسه
في البدء كان له لعينه
12 •••
ويلي على متدلل
ما تنقضي عني فنونه
كيف السلو وفي فؤا
دي لا تفارقني عيونه؟
هوامش
كلمة
كانت درتان متجاورتين في حلية على صدر حسناء؛ وكلتاهما يتيمة إلا من أختها،
1
تمج ذلك الشعاع النادر الذي جاءه الحسن من كونه ضوءا لم يولد من شمس، ولا من قمر! ولكن من ظلمات البحر؛ فتناجتا يوما، وكانت الجميلة قد استوفت كل زينتها، وحملت الدرتين على صدرها كأنهما عينا قلبها الثمين؛ فقالت إحداهما للأخرى وهي تشير إلي هذه الفتانة: انظري ... انظري، ما أحسن لؤلؤتنا!
صارت اللؤلؤة في هذا المنطق الشعري هي امرأة الأعماق المظلمة، وعادت المرأة الحسناء لؤلؤة الأعماق السماوية المضيئة؛ فلا شيء يريد أن يكون كما هو في نفسه؛ إذ لا يزال موضع الفصل من حكمة الله خفيا، لا يرى بل يتوهم، ولا يستيقن بل يظن؛ وكان خفاء هذه الحكمة في سماواتها إيجادا للخيال في الإنسان؛ حتى لا يظل أبدا في حيوانيته، ولكن هذا الخيال نفسه كثيرا ما أضاف إلى الإنسان حيوانية أخرى.
ولو كشف لك عن الحقيقة لرأيت أقبح ما في كل شيء أن لا يبرح أبدا محبوسا في حقيقة لا يجاوزها؛ ومن ثم خفف الله عن الإنسان؛ فأودع فيه قوة التخيل، يستريح إليها من الحقائق؛ فإذا ضجر أهل الخيال من الخيال، لم يصلحهم إلا الحب، فهو وحده ناموس التطور للقوة المتخيلة، ولن تجد في الأشياء العجيبة أعجب منه، حتى كأنه أم تلد؛ فالمرأة هي تلد الإنسان، ولكن حبها يلد النابغة. •••
وليس يقع التعجب من الأمر؛ لأنه عجيب في نفسه، بل لأنه متصل من الإنسان بروعه ،
2
أو بعقله، أو بهواه، أو بمطامعه؛ فإن دهش الروع، أو تحير العقل، أو اشتهى الهوى، أو تمكن المطمع من النفس، فهذه هي الألوان الأربعة التي تصور منها الطبيعة الإنسانية كل معاني التعجب، والذي هو أعجب من جميعها أن الطبيعة لا تحتاج إلى جميعها في تصوير شيء إلا واحدا، هو تصوير الحب الصحيح في قلب إنسان.
فهذا الحب ليس حقيقة واحدة عجيبة، بل هو أربع حقائق داخل بعضها بعضا، فلا يتميز لون منها من لون منها. وما حقيقة الحب الصحيح إلا امتزاج نفسين بكل ما فيهما من الحقائق، حتى قال بعضهم: لا يصلح الحب بين اثنين إلا إذا أمكن لأحدهما أن يقول للآخر: يا أنا؛
3
ومن هذه الناحية كان البغض بين الحبيبين - حين يقع - أعنف ما في الخصومة؛ إذ هو تقاتل روحين على تحليل أجزائهما الممتزجة، وأكبر خصيمين في عالم النفس، متحابان تباغضا!
وللحب العجيب جنس من النساء عجيب، خلقن جواسيس على القلوب يدخلن فيها، ويخرجن منها، وقلما تجسمت الواحدة منهن إلا لتفضح للدنيا أسرار روح عظيمة؛ وهذا الجنس تهيئه الطبيعة تهيئة المادة السحرية، وتولد المرأة منه مرتين؛ فإذا هي انحدرت إلى الدنيا طفلة جعلت تأخذ في دمها الجذاب من شعاع الشمس يتوهج، ومن القمر يتندى،
4
وذهبت تنمو في ظاهرها نموا، وفي باطنها نموا غيره، حتى إذا بلغت مبلغها، وانبعثت ملء شبابها، آن لها أن تولد الثانية، فولدت في قلب رجل!
والعجيب أنها في الولادة الأولى يكون أول وجودها هو أول وجودها؛ أما في الثانية فذلك أول فنائها؛ لأن المرأة متى حلت من قلب الرجل محلا، جعل يفنيها معنى في كل معنى حتى تفرغ، فلا يبقى منها إلا ذكرى زمن مضى ...
وكل امرأة من هذا الجنس هي معجزة عقلية ما دامت مخبوءة في الشعاع السماوي من جمالها، وما دام هذا الشعاع يفعل فعله الذي عرفه الناس أوضح ما عرفوه في أديانهم، وعقائدهم، وفيما أنزلوه منزلة الأديان والعقائد.
وآية مصداق هذا الإعجاز
5
في المرأة الساحرة المحبوبة ذلك النوع من الحب، أنه بينا يكون محبها رزين الطبع، وازن الرأي
6
كالجبل الراسخ الوطأة، إذا هو من سخافة رأيه في بعض أهواء الحب ونزعاته، كأنه جبل يطير بألف جناح، وقد ملأ الخوافق بين السماء والأرض أوهاما سحرية!
وهنا معضلة الحب التي لا حيلة في فهمها، ولا في تقريبها إلى الفهم، وهي تثبت أن العاشق يعطى في ناحية خياله قبل الناس جميعا؛ ولكنه ينتقص من ناحية عقله مع حبيبته وحدها؛ فهما سحران تظاهرا.
7
ولا يشبه تلك المعجزة إلا أن ترى إنسانا يقوم على ساحل البحر الملح؛ فيلقي فيه رطلا سكرا، ثم يتذوق البحر؛ فإذا هو في مذاقه، وفي رأيه، وفي حكمه شراب سائغ، كأنما ألقى الرجل فيه وزن كرة الأرض من هذا الطعم اللذيذ الحلو ... ومع ذلك فهو عاقل فيما عدا ذلك!
هوامش
الفصل الأول
القمر الطالع
في يدي الآن هذا القلم الذي أكتب به، وهو سن قائمة في نصاب
1
من الزجاج أحمر صاف يشف عن داخله؛ فإذا طاف به النور أشع فيه،
2
وانصبغ بلونه؛ فرمى على إصبعي ظلا مجروحا،
3
يريك الجلد كأنما جرحه من فوقه لا من تحته.
فإذا راوحته يدي،
4
وقلبته أناملي، رأيت له بريقا يستطير فيه كأنه شعلة من اللهب حبستها معجزة في عود من الثلج.
فإذا استعرضته بين العين وبين الضوء الساطع، رأيت منه ياقوتة حمراء قد افتر فيها نبع كالفم الحلو، يتنفس على قلبي الحزين بابتسامات تأتي إلي وفيها ألوان شفاهها الوردية!
فإني لجالس ذات مرة في جوف الليل أكتب على ضوء الكهرباء، إذ طارت فيه نظرة من نظراتي، وكان بإزاء الشعيلة؛
5
فرأيت في خلاله من انعكاس الضوء شميسة صغيرة لم أر قط أحسن منها حسنا، كأنها سبيكة تحترق، وتتناثر ضبابا من بخار الذهب؛ فمددت النظر؛ فإذا أنا بتلك الشميسة كأنها إحدى عذارى الجنة انغمست في غدير صاف فحولها جمالها، فانقلب من معنى الماء إلى معاني الجمال المستحي؛ فاحمر كأنه لون خد مورد!
وراعني ما أبصرت، فاستأنيت لحظة، ثم رفعت طرفي إلى مدار هذا الكوكب، فجعل يرمي بمثل شقائق البرق
6
تلمح واحدة لواحدة، ثم انقلب يتضرم كالتنور المستعر، ثم عاد لجة من «السحاب الأحمر» يموج بعضها في بعض كالحب المتوهج، يملأ فراغ قلب كبير؛ فاختلج الذي هو في صدري؛ وحضرتني
7
حاضرة من الذكرى لم تكد تعرض للفكر حتى انفلق السحاب عن وجه فاتن كالقمر الطالع، وكان متمثلا في نفسي مذ أبصرت تلك الشميسة، فكأنما أرى من السحاب مرآة فانطبع فيها؛ وما تلبث إلا يسيرا ثم اختفى.
وغصت في هذه النفس أفكر فيما رأيت، وأنا أمسك على قلبي أن يطير، فإذا «السحاب الأحمر» يمطر علي مطرة من الخواطر والكلمات، يتلاحق منها طرف بعد طرف، وتقبل طائفة وراء طائفة؛ كأن متكلما يتحدث بها في نفسي، أو كأنه وحي يوحى من ملك الجمال؛ فأسرعت أدونها، وأحصيها تحت عيني تلك الصورة الجميلة المشرقة علي، حتى امتلأ البياض سوادا، واستفاضت روح الحبر الأسود بالهم، على صدوع القلب وعلى شعابه.
8
وجاءت بعد ذلك ليال كان فيها السحاب يعرض لي صورا أعرفها، فإذا مثلها فاستوخيتها الفكرة سح علي الخواطر من روحها، فأقبلت كالمطر يفرغ إفراغا دفعة من غير تلبث.
9 •••
رأيت وجه فتاة عرفتها قديما في ربوة من لبنان، ينتهي الوصف إلى جمالها، ثم يقف؛
10
كنت أرى الشمس كأنما تجري في شعرها ذهبا، وتتوقد في خدها ياقوتا، وتسطع في ثغرها لؤلؤة، وكنت أرى الورد الذي يزرعه الناس في رياضهم، فإذا تأملت شفتيها رأيت ورقتين من الورد الذي يزرعه الله في جنته؛ وكانت لها حينا خفة العصفور، وحينا كبرياء الطاووس، ودائما وداعة الحمامة المستأنسة؛ وكانت روحها عطرة تنفح نفح المسك إذا تشامت الأرواح الغزلة بالحاسة الشعرية التي فيها!
وكنت إذا رأيتها بجملة النظر من بعيد صور لها قلبي من الحسن والهوى ما يموت فيه موتة ثم يحيا؛ فإذا جالستها، وأثبت النظر فيها رأيتها في التفصيل شيئا بعد شيء بعد شيء، كما أنظر نجما بعد نجم بعد نجم: كلها شعاع، وكلها نور، وكلها حسن!
وما نظرت مرة إلى النساء حولها إلا وجدت من الفرق بينها وبينهن ما يتضاعف من جهتها عاليا عاليا، ويتضاعف منهن نازلا نازلا؛ كأنه ليس في الأمر إلا أنها أخذت من السماء، ووضعت بينهن!
هي كالفتنة المحتومة تنبعث إلى آخرها، فليس منها شيء إلا هو يحسن شيئا، ويشوق إلى شيء، وبعضها يزين بعضها. •••
لقد تراخى الزمن بي وبها! فلو عددت لأحصيت مائة وخمسين قمرا منذ فارقتها، وما أحسب الأرض إلا انصدعت بيننا عن أقيانوس عظيم من الزمن تملؤه الأيام والليالي، فلا يخاض، ولا يعبر، ولا ينظر فيه أهل ساحل أهل ساحل غيره.
وعلى أن هذا الزمن قد محا في قلبي من بعدها وأثبت، فلا تزال تنشق لها زفرة من صدري كلما عرضت ذكراها، كأن القلب يسألني بلغته: أين هي؟
والقلب الكريم لا ينسى شيئا أحبه، لا شيئا ألفه؛ إذ الحياة فيه إنما هي الشعور، والشعور يتصل بالمعدوم اتصاله بالموجود على قياس واحد، فكأنما القلب يحمل فيما يحمل من المعجزات بعض السر الأزلي الذي يحيط بالأبعاد كلها إحاطة واحدة؛ لأنها كلها كائنة فيه: فليس بينك وبين أبعد ما مر من حياتك إلا خطوة من الفكر، هي للماضي أقصر من التفاتة العين للحاضر. •••
ليس بجمال إلا ذلك الروح الذي يرفع النفس إلى أفق الحقيقة الجميلة، ثم ينفخ فيها مثل القوة التي يطير، ويدعها بعد ذلك تترامى بين أفق إلى أفق؛ فإما انتهى المحب إلى حيث يصير هو في نفسه حقيقة من الحقائق، وإما انكفأ من أعاليه، وبه ما بالطيارة الهاوية: رفعت راكبها إلى حيث ترمي به ميتا، أو كالمغشي عليه من مس الموت!
والذين ينكرون أن الجمال يقتل أحيانا، أو يجعل الحياة كالقتل، ثم يدعون مع ذلك هوى وحبا، إنما هم أولئك الذين يعشقون بنفس العاطفة المادية الخسيسة التي يحبون بها الذهب، والفضة، وورق البنك ...
وليس بحب إلا ما عرفته ارتقاء نفسيا، تعلو فيه الروح بين سماوين من البشرية فتلوح منهما كالمصباح بين مرآتين: يكون واحدا وترى منه العين ثلاثة مصابيح؛ فكأن الحب هو تعدد الروح في نفسها، وفي محبوبها. •••
ولا سمو للنفس إلا بنوع من الحب مما يشتعل إلى ما يتنسم؛ من حب نفسك في حبيب تهواه، إلى حب دمك في قريب تعزه، إلى حب الإنسانية في صديق تبره، إلى حب الفضيلة في إنسان رأيته إنسانا؛ فأجللته وأكبرته.
فإذا أنت أصبت في الخليقة من أغفل الله قلبه
11
عن تلك الأربعة! فلا حب، ولا صلة! ولا يألف ولا يؤلف، فذلك هو الذي لا نفس له من نفوس الناس، كأنه سبع من السباع الضارية، أو هو الذي كله نفس، كأنه نبي من الأنبياء ... تجد الأول فيمن اعتزله العالم من شرار المجرمين، وأخلاط الشياطين الإنسية الذين لا يسعهم الناس بعد أن انفصلوا من إنسانيتهم، وانحطوا انحطاطا في أشد العنف؛ وتجد الثاني فيمن اعتزل هو العالم من خيار الأوابين، والشهداء الذين لا يسعون الناس بعد أن اتصلوا بإنسانيتهم الكاملة؛ فارتفعوا عن الخلق ارتفاعا في أرق الرحمة!
الحب بعض الإيمان: وكما أن الطريق إلى الجنة من الإيمان بكل قوى النفس؛ فإن الطريق إلى الحب من قوة لا تنقص عن الإيمان إلا قليلا؛ والخطوة التي تقطع مسافة قصيرة إلى القلب، تقطع مسافة طويلة إلى السماء!
وكما ينشأ الفكر أحيانا من عمل العقل الإنساني إذا هو تحكم في الدين، يأتي البغض من هذا العقل بعينه إذا هو تحكم في الحب.
وترى ما هذا الشبه بين المرأة وبين السماء؟ أكانت المرأة في أصل الخلقة مادة سماء بدأت تتخلق في الغيب، فحبسها الله في ضلع الرجل عقابا لها، ثم عاقبها الثانية فأخرجها للرجل تنظر إليه، كما ينظر السجين إلى سجنه ... ويكون الله سبحانه قد عاقبها مرتين؛ لتتعلم هي بطبعها كيف تتجنى على الرجل، وتعاقبه مرارا لا تعد؟
أيمكن أن يكون هذا الجمال الفتان في المرأة الجميلة خلاصة سماء من السماوات خلقت عينين وخدين وشفتين؛ تضحك أحيان بالنور، وتلتهب أحيانا بالبرق، وتنفجر أحيانا بالرعد؟
لقد عرفنا أن في السماء جنة ونارا، وأقسم لو صغرت الجنة، وجعلت أرضية تلائم حياة رجل من الناس، ثم عجلت له هذه الحياة الدنيا؛ لما كانت بمتاعها ولذاتها، وفنون الجمال فيها إلا المرأة التي يحبها ! ... أما الجحيم فلا أراني في حاجة إلى برهان على أنها صغرت وتجزأت، واندفقت على الأرض شعلا في أسماء من أسماء النساء!
لذلك أراني لا أستطيع أن أفهم المرأة الجميلة، بل لا أدري كيف أفهمها؛ فمن حيثما نظرت إليها لا أراها تبتدئ إلا من فوق العقل، فأنظر إليها ساكتا على أنها هي لا تنظر في إلا متكلمة. •••
يا ملون السماء، والوجوه الجميلة؛ يا مصور الروعة والحب، يا مبدع هذه المعاني الظاهرة إبداعا، جعلها لدقتها كأنها لم تظهر ... يا موجد القلب كما هو لتملأه السماء إيمانا، والجمال حبا، والمعاني فكرا منهما معا ...
ويا خالق الإنسانية العالية في الإنسان الكامل من إيمانه، وحبه، وفكره ... ... نعرف هذه السماء بما وسعت للإيمان، وهذه الطبيعة بما رحبت للفكر؛ فهل المرأة وحدها هي التي للحب؟
تباركت إذ جعلت ما وراء الطبيعة فوق الفكر مهما سما، وجعلت الطبيعة حول الفكر مهما اتسع، وأنزلت المرأة بين المنزلتين مهما كانت!
إن من النساء ما يفهم ثم يعلو في معانيه الجميلة إلى أن يمتنع، ومن النساء ما يفهم ثم يسفل في معانيه الخسيسة إلى أن يبتذل!
إن من المرأة ما يحب إلى أن يلتحق بالإيمان، ومن المرأة ما يكره إلى أن يلتحق بالكفر! •••
من المرأة حلو لذيذ يؤكل منه بلا شبع، ومن المرأة مر كريه يشبع منه بلا أكل!
هوامش
الفصل الثاني
النجمة الهاوية
طائفة من الخواطر في طائفة من النساء
وترقرق السحاب فإذا هو كنضج الدم،
1
وإذا هو يفور فوره؛
2
فبان كأنما يتدفق من طعنة أرى دمها، ولا أرى موضعها؛ لأن هذا الشلال الأحمر يتفجر منها.
ورأيتها هي طالعة كالشمس حين تغرب محمرة يتغالب طرفا الليل والنهار عليها؛ ففيها أواخر النور، وأوائل الظلمة، وسوادها يمشي في بياضها
3 ...
قلت يوما في صفة إحدى القصائد البديعة: إنها فن من الشعر؛ وفي إحدى الصور المحكمة: إنها فن من التصوير؛ وفي تلك الجميلة: إنها فن من المرأة! أما الآن فقد عرفنا أن اصفرار الشمس إيذان بسواد نصف أرضها.
وتقول العرب : امرأة مجلوة؛ ويفسرون ذلك بأنك إذا رامقت فيها الطرف
4
جال؛ يعنون أنها من جمالها ذات شعاع، فيجول الطرف فيها لأجل شعاعها وبريقها؛ أفلا يجوز لنا أن نزيد في هذه اللغة: وامرأة صدئة، ونفسرها بأنها هي التي إذا اتصلت بها تركت مادة الصدأ على روحك اللامع؛ لأنها كهذا الصدأ طينت على طينتها؟
5 •••
لست أريد أن أصنع في هذا الفصل كتابة؛ حتى لا أدير الكلام على شيء، فقد مسخت تلك النفس في نفسي فخلصت لي منها هذه الكلمة الجميلة: «تتم آمالنا حين لا نؤمل»، ولكني مرسل مطرة سحابي تهطل ما هطلت؛ فالمرأة الأولى أضاعت على الرجل جنته، ومن نسلها نساء يضيعن على الرجل الجنة وخيالها! ولو استطاعت الأرض أن تفر من تحت قدمي مخلوق براءة منه، لكان أول من تنخزل تحت رجليه
6
واحدة من هذا النوع!
ملح الله لا يحلو أبدا؛ فماذا تصنع في نفس لو سالت لكانت بحيرة؟
سرورك من الصديق الطيب لا يكلفك إلا أن تستمتع به، وأنت لا تخسر فيه إذا زال إلا أنه زال؛ فإذا لم يكن الطيب في نفسه طيبا كذلك في أثره فهو الخبيث!
بعض النساء تنقص بها الحزن، وبعضهن تغير بها الحزن، وبعضهن ... تتم بها حزنك!
لا يتقد الشجر الأخضر إلا من أشد النار سعيرا، وتتقد المرأة الجميلة حتى من أشعة وهمها!
في قلب الرجل ألف باب، يدخل منها كل يوم ألف شيء؛ ولكن حين تدخل المرأة من أحدها لا ترضى إلا أن تغلقها كلها!
النساء منجم السعادة؛ فرجل واحد لا يكاد يمد يده حتى يضعها على الجوهرة المشرقة؛ ومائة رجل يغربلون حصى المرأة وترابها ليجدوا فيها شذرة تلمع!
قال لي زوج عن امرأته: أنا وهي ينتج منهما أنا بلا أنا!
لم يخلق الله أحدا مكروها قط، وإنما نبغض من الناس الصور المكروهة التي يحدثونها: فعملك شخصك الحقيقي!
كم من امرأة جميلة تراها أصفى من السماء، ثم تثور يوما، فلا تدل ثورتها على شيء إلا كما يدل المستنقع على أن الوحل في قاعه؛ فأغضب المرأة تعرفها!
الحبيب من تلتهمه بكل حواسك، فإذا رأيته فقد رأيته، وسمعته، وذقته، ولمسته، وشممته؛ والبغيض من تقيئه من حواسك ...
في المرأة حقيقة، ولكنها لن تعرفها إلا بفكر رجل، فالكاملة من لا تسيء أحدا، وإلا أساءت إلى حقيقتها!
كل ما يخطر ببالك فقدر معه ضده إذا كنت تفكر في الحب والبغض!
يجب على المدارس حين تعلم الفتاة كيف تتكلم، أن تعلمها أيضا كيف تسكت عن بعض كلامها!
الخبيثات للخبيثين، قيل لأرض حطيبة:
7
من تشتهين أن يكون زوجك لو كنت امرأة؟ قالت: الفأس!
تجاورت شجرة من الحسك،
8
وشجرة من الورد؛ فزهت الوردة زهوا عاطرا بطبيعة العطر الذي في مادتها. فقالت لها الحسكة: ويحك! ما هذا الزهو الذي أفسدت به محلك من نفسي؟ قالت الوردة في كلام هو عطر آخر: لا تتعبي نفسك في تحقيري، فلست أفهم لغة الشوك إلا إذا كان ينبت الورد!
قد يتغير الرجل في نظر امرأته حتى تقول له: يا أنت الأول، يا أنت الثاني!
9 ... ... ولكني عرفت رجلا قال لامرأته: يا أنت الخامسة والخمسين!
قيل لحية سامة: أكان يسرك لو خلقت امرأة؟ قالت: فأنا امرأة غير أن سمي في الناب، وسمها في لسانها!
ما ألأم الشجرة التي لو نطقت لشتمت من يسقيها!
لا يفكر الرجل فيما لم يحدث على اعتبار أنه حادث، إلا في شيئين: المصيبة التي يكرهها، والمرأة التي يحبها!
قال رجل حكيم: إذا بلغك عن أخيك ما تكره، فاطلب له من عذر واحد إلى سبعين عذرا، فإن لم تجد فقل: ولعل له عذرا لا أعرفه! وقالت امرأة حكيمة: إذا بلغك عن رجل ما تكرهين فاطلبي له من ذنب إلى سبعين ذنبا، ثم قولي: ولعل له ذنوبا لا أعرفها ... زوجوا الحكمتين أيها الناس!
يخيل إلي أن عقل بعض النساء مثل وجوههن المزورة: تحته ما تحته، وليس عليه إلا «غبار» من العقل!
من المستحيل أن تسكر النار وإن كان شررها ينطفئ كحبب الكأس، ومن المستحيل أن تلذع الخمر وإن كان حببها يموج موج الشرر، ولكن من الممكن أن تجد في امرأة واحدة لذع النار، وإسكار الخمر معا، وهي شيطانة النساء، يجتمع ممكنها من مستحيلين!
شر النساء عندك وعندي هي التي تجعلك تتنبه إلى ما في النساء من الشر!
قال بعضهم لزاهد عظيم: إني رأيتك الليلة تمشي في الجنة؛ فقال له الزاهد: ويحك أما وجد الشيطان أحدا يسخر منه غيري وغيرك؟ وقال رجل لامرأة: إني رأيتك الليلة في الجنة؛ فقالت له: ويحك! تقولها من غير أن تشكر فضلي عليك مع أني أدخلتك الجنة!
أشأم النساء على نفسها من لا تحب ولا تبغض، وأشأمهن على الناس من إذا عدت مبغضيها لا تعد إلا الذين أحبوها!
يا هذه لا أدري ما تقولين؛ ولكن الحقيقة التي أعرفها أن نفس المرأة إذا اتسخت كان كلامها في حاجة إلى أن يغسل بالماء والصابون، وهيهات!
يا من على الحب ينسانا ونذكره
لسوف تذكرنا يوما وننساكا
إن الظلام الذي يجلوك يا قمر
له صباح متى تدركه أخفاكا
هوامش
الفصل الثالث
السجين
وتغيم سحابي هذه المرة، وأطبقت في حواشيه سوداء على سوداء
1
كأنه يجمع هم قلب بات الألم من عناصر حياته.
رأيت في سوائه
2
رجلا ألبس الذلة وسيم الخسف،
3
وقد انتصب كالجذع المشتعل، وله فروع من الدخان، وهو هذا السجين الذي أقص خبره.
ألا إنما الإنسان من الأقدار كالنبات بين الفأس التي تحرث له، والمنجل الذي يحصد فيه؛ وما هذه الدنيا إلا هذان، فلا يحسبن العود الطالع أنه شيء غير العود المقطوع!
كنت يوما في محكمة كذا، فجاء الجند بسجين قروي كالمارد، يزعمون أنه سبع من سباع القرى، وشيطان من شياطين الليل،
4
وقد غلوا يديه بسلسلة من الحديد لعل فقار ظهره أصلب منها.
خلق في هيئة مستصعبة شديدة المراس كالجمرة المتقدة، ولكن الحياة ما زالت به من نكد إلى أنكد منه حتى طمرته في رمادها؛ لأن له عثرة هو عاثرها يوما.
وخلق في مزاجه وعصبه من المادة المشتعلة، حتى إذا التهب رأت منه الحياة شكلها القوي الجميل في الرجل المشبوب يرسل فروعه النارية على ما حوله: فإذا خمد رأى منه الموت شكله العنيف الجميل في الجمرة العليلة الذابلة حين تمر أنفاس الهواء عليها.
رجل طوال إذا انتصب والناس وقوف حوله رأيتهم معه أشبه بهم قعودا، مما يفرعهم من طوله، وامتداد قامته، مجدول الذراعين، مشبوح العظام
5
قد تباعد منكباه، وترامى بينهما صدر مصفح، كل ثدي من ثدييه يجمع قوة أسد.
وهو في توثيق جسمه، وتفرع بعضه من بعض كأنه شجرة رجال: كل فرع منها بطل منكر؛ وهو في إحكام تركيبه، واندماج بعضه في بعض كأنه تمثال أفرغ من حديد؛ فتوزعت فيه الكتل هنا وهنا، وكل ما فيه من الإجمال والتفصيل أنه جسم آدمي يمثل للأعين ناموس «بقاء الأنسب».
وجاءوا به والناس متقصفون عليه من ازدحامهم ينثني بعضهم على بعض لينظروا إلى الرجل الكامل، بل الذي نقص حين كمل، وهو مطل عليهم ... كأنه عبارة مبهمة في صحيفة! وكأنهم من حوله شروح وتفاسير رقمت على حاشيتها بخط دقيق، وقف كالشيء الغامض يروعهم بغموضه أضعاف ما يعجبهم بروعته! وكانوا كالشعاع: خيطا يظهر من خيط؛ وكان كالظلمة: نسيجا من قطعة واحدة؛ وأحسبه لو صاح بهم صيحة البأس لسقطت قلوبهم من علائقها سقوط أورق الشجر في قاصف من الريح، وكأن ما بينهم وبينه في الروعة والقوة كالذي تقيسه بين ألف متر انخسفت تحت الأرض، وألف متر انبثقت فوقها؛ فالبعد بين طرفيهما مضاعف كل منهما؛ وما زالت سنة الله أن تتضاعف الفروق دائما بين الأشياء التي لا يمكن أن تتفق، حتى لا يمكن أبدا أن تتفق!
أما أنا فما يعجبني شيء ما تعجبني القوة السليمة في رجل شجاع، والضعف السليم في امرأة جميلة، وكما أنظر أكثر الوقت بالنظر الساكن المفكر، أحب أن أنظر أحيانا بمثل البرق المتطاير من عيني أسد مفترس، أو الازورار الزائغ في عيني جواد جموح، وخير الناس في رأيي من غسله تاريخ أهله بضوء السماء، وضوء السيوف معا.
6 •••
وكان الرجل يظهر كأنما هو لا يمسكه الحديد الذي يعض على يديه؛ بل ذنبه الذي يعض على قلبه: ولعله قتل ضعيفا مظلوما، فتحول ضعف القتيل، وذلته، ومسكنته إلى أرواح منتقمة من كبريائه، تدس في ضميره عنصر الجبن البغيض إليه، وتربط الروح الميتة إلى روحه؛ فلا ينزع ظلمتها عن قلبه كل ما في النهار من الضوء؛ ولا يجد النور إلا في الإقرار والندم؛ فيسكن إليهما.
وتبينته فرأيته ساكنا سكون الاستهزاء؛ كأنه على ثقة مما خفي عنه، تشبه ثقته بما وضح له؛ أو لتعاسته أخفق أكثر مما فاز. والإنسان متى كثر إخفاقه صارت الخيبة في الأعمال هي الخطة التي يبني عليها؛ أو لا هذه ولا تلك، ولكنها الشجاعة تجعل المطمئن إلى غاية الحياة لا يبالي بكل وسائل هذه الغاية المحتومة!
وقيل: إنه بعد أن غمس يده في الدم طار على وجهه تلفظه الأرض من جهة إلى جهة، حتى أسلمته يد النقمة إلى يد العدل! •••
ترى لو سألنا الوحش حين يفترس إنسانا: ماذا وقع في نفسك منه حتى ثرت به، وعدوت عليه؟ أكان يقول - لو أنطقه الله - إلا أنه أبصر في هذا المخلوق وحشا ماكرا خبيثا إن لا يكن في دقة ناب الثعبان، فهو في خطر سمه؛ وإنه لو رأى عليه سمت إنسان، وأبصر له نظرة إنسان، وأحس منه قلب إنسان للجأ من وحشيته إلى الإنسانية التي فيه؛ إذ الإنسانية هي حرم الأمن الإلهي الذي توضع عنده كل الأسلحة، حتى أسلحة الوحوش، وإذ الإنسان هو محرابها الذي تصرع عنده كل القوى، حتى قوى الطبيعة.
كأنما كبرت الإنسانية حتى عن أن تكون شيئا إنسانيا؛ فما هي فيمن ترى ممن حشو جلودهم ناس، وحشو نفوسهم بهائم؟ إنما الإنسانية هناك، بعد أن تخرج بنفسك من حدود الشهوات الأرضية، وترفعها فوق هذه الطبيعة، وبعد أن تعاني في شق طبقات النفس الحريصة طبقا عن طبق، مثل الذي يعانيه من يحفر في أصلب أحجار الأرض إلى غور بعيد!
فهناك لا تجد الأشياء، بل معانيها، وأسرارها، ولا الحوادث، بل أسبابها، وأقدارها، ولا نيران النفس، بل أضواءها وأنوارها؛ فترجع من ثم وفيك الناموس الذي ينبت الخضرة من العود المغبر،
7
ويخرج النار من الشجر المخضر، ويجعلك لبحر هذا الأزل كأنك مكان من البر. •••
كان السجين في بهو المحكمة، فصعد به الجند إلى غرفة «قاضي الإحالة»،
8
ووقفوه ساعة على مطل بين يديه فناء واسع أسفل منه، فتحول الناس إلى هذا الفناء، وتحولت معهم، وكان البطل يلوح كطرف المئذنة؛ فما هو إلا أن أدار عينيه في الناس حتى استقر بهما على ناحية، فنظرت حيث نظر؛ فإذا داء قلبه، وقلب كل من رأى ... ... ست نساء، وفتى، وطفلان، ورضيع؛ فأما واحدة فأمه، وأما الثانية فزوجه، والباقيات أخواته، والفتى فرع أبيه،
9
ثم الطفلان والرضيع أولاده، وقد جاءوا يودعونه، ويستودعونه؛ وحسبوا أن ليس بين رجلهم وبين الموت إلا هذا القاضي الذي مثل ببابه، فطرح الموت ظل فكره على وجوههم، وأخذ الرعب مأخذه فيهم؛ فما كانوا إلا كما يجتمع أهل الميت حول الميت.
رأيت أمه المفجوعة جالسة لا تحملها رجلاها، وعلى صدرها ذلك الرضيع تضمه كأنه قطعة من قلبها رجعت إليه، وتشد عليه بيديها شدة الجزع والحنان كما لو كانت تحسبه صلة بينها وبين ابنها، تنقل هذه الشدة بعينها إليه كما تنقل الكهرباء حركة المتحرك، وقد انطلقت دموعها، وفي كل نظرة إلى نكبة وحيدها مادة جديدة للبكاء!
وهي تنحني على قلبها حتى يداني وجهها الأرض، كأنها شعرت به ينكسر؛ فمالت ليلتئم صدع منه على صدع، ثم تعود فتعتدل؛ فيكاد ينشق قلبها فتضغطه بانحناءة أخرى؛ وهي في كل ذلك مرسلة عينيها تمطر مطرا، وكانت حين تنكف دمعها،
10
وتنحيه عن خديها، يتساقط من فروج أصابعها كأنه عدد أيام شقائها!
وحسب الرضيع أن هذه الحركة هدهدة
11
من أمه لينام، فنام هنيئا على صدرها، وأدفأه غليان هذا الصدر فضاعف لذة أحلامه! وإنما هو طفل سماوي لا يزال مس يد الله على جلده الرطب، فلو زفرت حوله جهنم فأحرقته لكفنته نسمة من نسمات الجنة؛ ويا سعادة من يستطيع بطبيعته أن ينقطع من وسائل نفسه إلى وسائل الله!
12
وأما زوجة الرجل - وهي شابة جزلة الخلق، ناضرة الصبا، تركها الحزن كالمرأة المهملة: تدل أنوار بريقها على مواضع الصدأ منها؛ فكانت واقفة تحمل على رأسها برمة أعدت فيها ما تعرف أن سيدها يشتهيه من طعامه، كأنها تريد أن تجعل من هذا الطعام الذي يحبه رسالة من الحب بين نفسها ونفسه ترسلها إليه في سجنه! ولما استقرت عينه عليها، أرسلت كل عواطفها في مجاري دمعها، وقد أيقنت أنه قطع بها دون عمادها، وزوجها، ووالد ابنها، وكنزها الذهبي الذي لا تملك غيره؛ فكانت تبكي لكل معنى من هذه المعاني بكاء بعينه، وتبكي على قدر وفائها الذي لا حد له، وحبها الذي لا صبر معه، ومصيبتها التي لا سبب فيها من أسباب العزاء؛ وكل نظراتها كانت تقول لزوجها: لك ما أبكي.
13
وأحاط بها أخواته الأربع، صفر الوجوه، ساهمات الخدود، ذابلات الأعين! كأنما تدلين إلى الأرض من مشنقة! والبنت قطعة من أمها، ولكنها في الحزن على أبيها أو أخيها بعدة أمهات؛ فهل تراه لا يستوفي في بطن أمها إلا نصف حياتها كهيئتها في الدنيا ... ويبقى النصف الآخر في أخيها، فإن مرض خامرها نصف الداء، وإن مات وقع عليها نصف الموت، ولا يكون حزنها عليه إلا هدة في حياتها لا يمكن أن تبنى؟
أما أخو السجين فوقف ناحية عن النساء، وجعل يبكي، ويعصر عينيه؛ ولا أدري إن كانت الفطرة هي التي أبعدته عنهن حتى لا يشبههن بوجه من الشبه، ولو كان دقيقا كهذه الخيوط من الدمع؟ أم هو انتحى جانبا كيلا تتصل به عدوى الضعف، وليستطيع أن يبكي على أعين الرجال بكاء رجل في دمعه شيء من القوة؟ أم هو انتبذ مكانه ليتكلم مع آلامه؛ فإن الآلام تتكلم، ولكن بإحساسنا؟ وكان له من أوجاع قلبه حديث طويل.
وأما الولدان فربض أحدهما في الأرض، ووقف الآخر؛ لأنه أكبر منه قليلا، وكلاهما ضامر الوجه، متقبض، منكسر من هول ما يرى، وكانت عيونهما الحائرة تدل على أنهما بإزاء حالة غير مفهومة، فأبوهما حي لم يمت، وعيونهما مكتحلة بعينيه، وليس بينهما وبينه إلا ارتفاع شجرة ... فلم لا يصلان إليه، أو يصل إليهما؟ وعلام هذه المناحة ولا ميت؟ وفيم هذا الجمع ولا معركة؟
أخذا يدرسان الدنيا كلها في معضلتهما الأولى من حيث لا يفهمان شيئا، وبدأ العدل الإنساني الرحيم يخشن صدرهما ليعلما ذات يوم معنى الظلم الذي يكون مرة باعثا على العدل، ويكون مرة هو إياه!
ألا ويحك أيتها الإنسانية ظالمة أو مظلومة! إن أمامك من هذين الطفلين الموتورين آلتي تصوير قد نقلتا هذه الصورة، وستحفظانها إلى يوم ما!
صورة بشعة على تلوينها؛ إذ لا سواد فيها إلا من الخطوط، ولا بياض إلا من الدموع، ولا صفرة إلا من الوجوه، ولا حمرة إلا من لهب القلب، وسيمضي كل شيء لسبيله؛ فينسى ولا تنسى؛ لأنها مادة علمية مصورة، كرسم تعليمي في جغرافيا الجريمة!
هي اليوم صورة طفل فهي للحفظ، وغدا صورة شاب فهي للعلم، وبعد غد صورة رجل فهي ... للعمل. •••
وكان السجين كالميت: تراه تحت أعين أهله وهو في عالم آخر، وبين أيديهم وكأنه حسرة بعد أمل ضاع! وكان كلامهم سمع أذنيه،
14
ولكنه من معنى ما يحب على بعد ما بينه وبين المستحيل؛ ابتلاه الله بالجريمة، ثم ابتلاه بالقصاص، ثم تمم عليهما بمصيبة في مقدار عذابهما معا، وهي رؤية أهله جميعا في حالة لا يملك فيها قدرة، ولا صبرا!
إنما يمسك الإنسان قوتان: قدرة يمضي بها؛ فيدرك فيطمئن، أو صبر يقعد به فيعجز فيطمئن؛ ولكنه متى امتحن بشيء لا يقدر عليه، وهو مع ذلك لا يصبر عنه، فقد وضعه الله من ثمة في حالة لا إنسانية، ولا وحشية، ولا دونهما، ولا فوقهما؛ إذ يسلط عليه كل القوى التي في داخله تدفعه بأشد العنف إلى القوى المحيطة به، ويغري المحيطة به ترميه إلى التي في داخله؛ فما إن يزال مرتطما بين هذه وتلك، وكأنه لشدة وقعهما يحطم تحطيما بين مطرقتين!
وهذه البلية من العذاب لا تتفق إلا في أشد ما يكره الإنسان حين لا يجد الإنسان منه مفرا، ولا يطيق عليه مقرا، وفي أشد ما يحب حين لا يقدر إلى حد اليأس، ولا يصبر إلى حد الجنون، وأحسب ما في الأرض منتحر قط أزهق روحه - إن لم يكن مجنونا - إلا وهو في إحدى هاتين الحالتين؛ فإن وجدت من يثبته الله على حالة منهما وجدته كالبقية من الحريق: إن لم تكن احترقت وذهبت، فقد احترقت وبقيت! •••
أجرم السجين فأخذ بذنبه، فما ذنوب هؤلاء جميعا؟ أهي إحدى الحقائق العليا الغامضة التي من أجل غموضها، واستبهام حكمتها يقول الحائرون: «كل شيء هو كل شيء!» ويقول المنكرون: «لا شيء في كل شيء!» ويقول المؤمنون: «كل شيء فيه شيء»؟
أم هي الحقيقة السهلة الواضحة من كل جهاتها، وإن أصبح الناس لا يفهمونها؛ إذ لا تحتاج إلى فهم، وإنما هم موكلون بما خفي ودق، كدأب هؤلاء العلماء والفلاسفة الذين يقطعون العمر في دقيق المباحث، وعويص التراكيب، ثم لا ينتهون من نتائجها إلا إلى النواميس المكشوفة انكشاف النور لكل ذي عين تبصر!
أهي الحقيقة السهلة التي تجزأت من أجلها آية الله، فيقول المنكرون: «لا علم!» ويقول الحائرون: «لا علم لنا!» ويقول المؤمنون: «لا علم لنا إلا ما علمتنا!»
15
ألا أيها القلب الإنساني المعجز؛ إن أيامك كلها مضي في سبيل الموت الأول، كما هي مضي في سبيل الحياة الأخرى؛ فأنت تسير في طريقين معا، وهذه هي معجزتك التي لا تفهم!
16
ونحن من ظلام الدنيا، ومن بحثنا عن الحكمة الإلهية الصريحة بوسائلنا الإنسانية العاجزة، كالذي يبغي أن تطلع عليه الشمس في ليله، ويبقى له مع ذلك ظلام الليل! يريد مستحيلين لا مستحيلا واحدا، وهذا هو عقلنا الذي لا يعقل!
لو أراد الله بك خيرا أيها القلب المسكين لما جعل شقاءك يربى فيك تربية كما تربى أنت في الإنسان، وكما يربى الإنسان في الحياة؛ فالحب، والرحمة، والشفقة، والصداقة، وكل المعاني التي هي روابط الإنسانية في اشتباكها، هذه كلها هي وسائل مسرتك في حالة، وهي بأعيانها أسباب عذابك في حالة أخرى!
جذور استسر بها الغيب،
17
وفي أيدينا فروعها، وأوراقها، وثمراتها: تلك هي شجرة الحياة، فلنا حلوها ومرها، وما يفيء من ظلها، وما ينحسر، ونشذب
18
منهما؛ فتنمو وتزيد، ونغير من أشكالها، ونلوي أو نكسر من فروعها ما شئنا، ونترك من ثمرها ما ينضج إلى أن ينضج، أو نتناوله فجا لا يساغ ولا يطعم، أما أن نجعل مرها حلوا، أو نرسل المادة الحلوة بأيدينا في جذور الفروع المرة التي لا تؤتي ثمرها إلا عللا، ومصائب ونكبات وموتا - فهذا ما لا سبيل إليه، ولا يغني فيه غناء، ولا تبلغ من حيلة، إلا إذا استطعنا أن نطفئ الفرع الأحمر من النار؛ فيتحول في أيدينا إلى شيء آخر غير الفرع الأسود من الفحم!
تأتي النعمة فتدني الأقدار من يدك فرع الثمر الحلو، وأنت لا ترى جذره، ولا تملكه، ثم تتحول فإذا يدك على فرع الثمر المر، وأنت كذلك لا ترى ولا تملك؛ ألا فاعلم أن الإيمان هو الثقة بأن الفرعين كليهما يصلانك بالله، فالحلو فرع عبادته بالحمد والشكر، وهو الأحلى عندك حين تذوقه بالحس. والمر فرع عبادته بالصبر والرضا، وهو الأحلى حين تذوقه بالروح!
القلب الإنساني ميدان تقتتل فيه القوى الأرضية والسماوية، فلا بد في النصر والخذلان جميعا من الدم يذهب كله أو بعضه، والجراح تبرأ أو لا تبرأ، والآلام تنسى أو لا تنسى ...
لا بد؛ لا بد؛ لا بد! •••
وجاءت حافلة السجن فركبها السجين، ومضت تجرها البغال طائعة منقادة، كما تنقاد إذا هي جرت مركبة ملك، وذهبت وما تحفل بشيء من الدنيا، وسياستها، وآدابها، وأحكامها ما تحفل بهذا السوط الدقيق المسلط على ظهورها ... أما أهل الرجل فتهالكوا وراء العربة؛ فالشاب يخطف في عدوه منكرا؛ كأن قربه منها يوصل بعض أنفاس الحرية إلى أخيه، والنسوة يهتلكن في جريهن، وكلما أبعدت الحافلة علا صراخهن ليبلغ السجين منهن شيء ما، أما الطفلان وجدتهما فوقفوا من الضعف كأنما وقفت قلوبهم، ولكن نظرات الجدة ارتمت إلى العربة، فلما غابت عنها ارتمت إلى السماء!
وأما الرضيع، هذا اليتيم في حياة أبيه، هذا المسكين الذي ابتدأ تاريخه بجريمة لا يد له فيها، هذا الضعيف الذي لا يزال جلده أرق ديباجة من ورق الزهر، ومع ذلك تدق فيه منذ الآن مسامير الفقر واليتم والضياع؛ أما الرضيع اليتيم المسكين الضعيف، فكان وحده بين هذه المصائب الماحقة دليلا على الأمل الإنساني في رحمة الله، إذ فتح عينيه للنور وابتسم! •••
نزت كبدي
19
لما رأيت الحب الهالك يستنفض امرأة السجين، ويسوقها جامحة في عنان الغيظ تترامى على وجهها.
كانت المرأة غريقة في يأسها، وكان شاطئ الأمل يفر أمام عينيها فرارا؛ لأن بينها وبينه موجة دمعها.
وقد صدع الحب في قلبها صدعا ليغرز فيه الشوكة المستجدة من ألم الفراق لمن تحبه؛ تلك الشوكة التي ما نفذت قلبا؛ فاستقرت فيه إلا جعلت الحياة كلها معاني شائكة حتى تحطم أو تنتزع.
امرأة والهة، فيها نفسها المعذبة، وفي نفسها رجلها المعذب، وبين هذين طفلها اليتيم الذي يقتضيها أن تظل حانية عليه حنو أبوين؛ فهي تجمع على قلبها عذاب ثلاثة قلوب، وتتألم بنفسها الواحدة ألم الرثاء لزوجها الذي نزلت به العقوبة في جسمه وروحه، وألم الإشفاق على مجدها الذي نصب على أعين الشامتين في موضع الذلة، وألم الرحمة لطفلها الذي بلغ سن الهم، وهو لا يزال في الثدي،
20
وألم اللوعة لحياتها التي لم تعد الأيام تناجيها بغير لغة الدمع، وألم الأسى على شبابها الذي تساقطت آماله كما تحط الشجرة الخضراء أوراقها لتجف!
ألا يا ماء البحر، ما أنت على أرض من الملح؛ فبماذا أصبحت زعافا
21
لا تحلو، ولا تساغ، ولا تشرب؟ إنك لست على أرض من الملح، ولكنك يا ماء البحر ذابت فيك الحكمة الملحة! •••
ما الفراق إلا أن تشعر الأرواح المفارقة أحبتها بمس الفناء؛ لأن أرواحا أخرى فارقتها؛ ففي الموت يمس وجودنا ليتحطم، وفي الفراق يمس ليلتوي، وكأنه الذي يقبض الروح في كفه حين موتها هو الذي يلمسها عند الفراق بأطراف أصابعه!
وإنما الحبيب وجود حبيبه؛ لأن فيه عواطفه، فعند الفراق تنتزع قطعة من وجودنا؛ فنرجع باكين، ونجلس في كل مكان محزونين، كأن في القلوب معنى من المناحة على معنى من الموت!
وكل ما فيه الحب فهو وحده الحياة، ولو كان صغيرا لا خطر له، ولو كان خسيسا لا قيمة له، كأن الحبيب يتخذ في وجودنا صورة معنوية من القلب! والقلب على صغره يخرج منه كل الدم، ويعود إليه كل الدم.
في الحب يتعلم القلب كيف يتألم بالمعاني التي يجردها من أشخاصها المحبوبة، وكانت كامنة فيهم، وبالفراق يتعلم القلب كيف يتوجع بالمعاني التي يجردها هو من نفسه، وكانت كامنة فيه.
فترى العمر يتسلل يوما فيوما، ولا نشعر به، ولكن متى فارقنا من نحبهم نبه القلب فينا بغتة معنى الزمن الراحل، فكان من الفراق على نفوسنا انفجار كتطاير عدة سنين من الحياة.
وترى العمر يمتلئ شيئا فشيئا، ولا نحس الزيادة كيف تزيد: فإذا فارقنا من نحبهم نبه القلب فينا معني الفراغ؛ فكان من الفراق على أكبادنا ظمأ كظمأ السقاء الذي فرغ ماؤه فجف، وكان الفراق جفافه.
ألا يا طائر الحب، إن لك إذا طرت جناحين؛ فما أقرب من هو على جناح الفراق ممن هو على جناح الهجر.
هوامش
الفصل الرابع
الربيطة1
واطلع في سحابي هذا الشيطان الذي تتلألأ على وجهه مسحة ملك،
2
فهو أخبث الشياطين؛ لأنه يسوق إلى الهلاك في نزهة على شاطئ نهر الحياة.
هي فلانة؛ كانت امرأة فرنسية ربيطة لرجل عرفته قديما لأعرفها منه فأكتب عنها رأي العين، وأكون أفهم بها، وأدنى إلى حقيقتها؛ كما يريد عالم الطبيعة أن يكتب عن بركان يتأجج؛ فهو يدلف إليه
3
يطأ على أرض كأن ترابها حريق يتنفس آخر أنفاسه!
ما ساح رجل في العمران، ولا ضرب في مجهل من الأرض، ولا ضل فيه تيه منها، ولا كشف للناس غمضا من غموضها،
4
ولا تطوح في بحر من أبحارها؛ إلا وأنت واجد من مثل ذلك معاني في نفوس النساء؛ كأن هذه المرأة تمثال مصغر خلق بمعانيه في مقابلة الأرض بمعانيها؛ فهي في روح الرجل إما الخصب أو الجدب، وهي له في الحياة إما الملح أو العذب، وهي منه العامر والخراب، ولكن في القلب! •••
كان صاحبنا فتى تلمع عليه غرة الشباب، وقد رق حتى كاد يخالط حد الأنوثة، ولان حتى قارب أن يفوت معنى الرجولة، وظرف حتى أوشك أن يكون إنسانا تتفتح في روحه معاني الزهر، ولكنك إذا كنت رجلا صحيحا أمررته على عينيك كما تمر كتابا لا تريد أن تقرأه!
فقد تمدن في أوروبا، ولبث عن قومه ما شاء الله،
5
ثم رجع إليهم كأن أمه لم تلده، وكأن أباه جده الأعلى ... فبينه وبين أبيه هذا بضعة أجداد، منهم المسيو أو المستر أو السنيور أو (الهر ...)، وأصبح يحس أن كل شيء في هذا الاجتماع الشرقي مسلط على نفسه الرقيقة النحيلة بالغلظة والجفاء، والعنت والأذى، كأنه (رحمه الله ...) ابن الضباب، فلما برز إلى هذه الشمس، وضحا في أشعتها الحامية جعل يذوب ويتبخر!
وكان من هؤلاء الفتيان الذين إذا تعلموا في أوروبا نفوا جهلهم بالعلم، ثم نفوا علمهم بجهل آخر ... ثم جاءوا كحرفي النفي: ما، ولا ... فليس منهم إلا التكذيب، والإنكار، والشك. وتراهم أظرف وأجمل وأزهى من فراشة الربيع، لا يريدون الحياة إلا أزهارا، ولا يطيقونها إلا ربيعا، وعلى أزهارهم وربيعهم، فليس لنا منهم إلا نقط من الألوان، وأصوات من الطين ... وأجسام ليس فيها رجالها! •••
سألت هذا الفتى مرة: أنت مصري؟
قال: ووطني صميم!
قلت: أفترى أنك تصلح في علمك وتهذيبك أن تكون مثالا يتأسى بك نشء بلادك؟
قال: إني لأرجو ذلك.
قلت: وأنت من القائلين بتحرير المرأة الشرقية، ومساواتها بالرجل في الحرية المطلقة، وبعثها من هذه القبور التي تسمى المنازل؟
قال: ذلك مذهبي!
قلت: فكيف ترى إذا اقتدى بك المصريون فأصهروا إلى الأوروبيين، وخلطوا الشمل بالشمل؟
قال: لعل ذلك خير الطب لبلادنا، فلا معدل عنه في رأيي؛ إذ يأتيها بالدم الجديد، ويدمج في طباعها النظام والدقة، ويبني البيوت من داخلها.
قلت: أحسنت بارك الله عليك؛ فكيف ترى إذا سألناك التسوية، وقلنا لك: دع أختك تصب إلى رجل أوروبي، وتتزوج منه إجارة ... وتأت به إلى مصر كما أتيت أنت بصاحبة بيتك! ثم لتفعل كل امرأة مصرية فعلها، فيكون لكم أوروبيات، ويقوم عليهن أوروبيون ...؟
قال: أعوذ بالله!
قلت: فعل الله بك وفعل! أفيبلغ من غفلتك أن لا تعرف لعنة الله إلا إذا رأيتها ملء مملكة، ولا تعرف حق وطنك فيك إلا حين تراه غريبا منقطعا، لا حق له في واحد من أهله، ولا تدرك واجب التضحية بلذاتك وشهوات نفسك إلا بعد أن ترى الوطن من اضطراب الموت في مثل حال الذبيحة تدحض برجلها تحت سكين الذابح؟
قال: فما أنا وأمثالي إلا شذوذ من القاعدة التي يجب أن تبقى أبدا قاعدة ...
قلت: فعليكم غضب القاعدة، ومقتها وسخطتها، والله لأن تفجع البلاد فيكم جميعا، وتستركم بالقبور رمة بعد رمة، خير من أن تتقلد منكم بلية الحياة في اختلاط الأنساب، وارتداد الأسماء العربية عن دينها،
6
وكساد النساء الشرقيات، وتخنث الرجال الشرقيين، وتدسس هذه العروق الفاحشة اللئيمة في ذرية الوطن.
قال: فكم من امرأة وطنية هي حمل على ظهر زوجها!؟
قلت: وكم من امرأة إفرنجية هي كية على قفا صاحبها
7 ...؟
قال: فماذا نصنع ونساؤنا جاهلات لا صبر عليهن؟
قلت: أفتزهق روحك إذا مرضت أم تطب لمرضك في أناة وصبر؟ وهل تفر من وطنك إذا ابتلاك بتضحية، أم تثبت وتتجلد؟ ثم ماذا أفدنا من علومكم إذا لم يحمل كل عالم منكم جاهلة منهن؛ فيعلمها، ويثقفها، ويخلصها إخلاص الذهب الصافي، ويربح ثواب الوطن فيها؟ وإذا كنتم تهملون نساء بلادكم؛ لأنهن جاهلات، فحدثني أفلا يزيدهن ذلك جهلا وضياعا، ويضاعف مصيبة البلاد فيهن وفيكم، ويكون تركهن الذي قد يستصلح سببا لما وراءه من الفساد الذي لا صلاح له؟
وهل ترون المرأة الوطنية منكم إلا كالزهرة: نضرتها في غصونها وأوراقها، فإذا طرحتها غصونها عمل منبتها الاجتماعي فيها - وهو التراب - حين تتصل به عكس ما كان يعمل حين لم يكن يصل إليها من فروعها، وأوراقها غذاء يحمل روح الماء، وروح الشمس؟
أما والله إنكم فئة لا تعد إلا في مصائب وطنها، وإنكم لكالأجنبي، ما دام أحدكم لا يصل أمومة أولاده بتاريخ أمه، وإنكم لكالغاصب، ما دمتم تغصبون حتى نساء الوطن في رجال الوطن، وإنكم لكالعدو، ما دام كل واحد منكم حربا على بيت ... ألا فدعونا من الجاهلين، فقد يكون من بعض عذرهم الجهل ، ومن المتلصصين، فمن عذرهم الحاجة ، ومن المفسدين، فمن عذرهم سوء التربية، ومن الساقطين، فعذرهم ضعف النفس، ومن الخاملين، فعذرهم الترك والإهمال، ثم اعطفوا على هؤلاء مائة واو أخرى، فكلها مسوغة أعذارها المحمولة على محاملها، وكلها أقرب إلى الدهماء منها إلى المتعلمين، وإلى أخلاط الناس منها إلى الخاصة، وإلى السفلة منها إلى العلية ... ولكن ما عذركم أنتم عن شهوات أنفسكم، وإيثاركم هذه الشهوات، واستهتاركم في هذه الأثرة؛ يعجز أحدكم أن يكسر جماح نفسه؛ فيجني على نفس من نساء وطنه، هي التي زهد فيها، واستبدل منها، وعلى نفوس من أبناء وطنه! هم الذين سيعقبهم من ذريته، ويأتي بهم للبلاد أجساما غابت قلوبها، ونفوسا بردت دماؤها؛ ينزعهم العرق الأجنبي من أمهاتهم اللائي ولدنهم إذا حمي دم البلاد لبعض أغراضها، ويكونون في أمراضها من أسباب موتها، وفي صحتها من أسباب أمراضها!
ما لكم تنزلون أنفسكم منزلة الطفل البكر من أهله: ليس له إلا حظوظه وشهواته؛ مسوغا كل ما يقترحه عليهم؛ لأنه هو كان اقتراحهم على الله؛ محمولا على قلوبهم؛ لأنه بعض قلوبهم؛ يفسد المتاع، ويحطم الآنية، وتنزو به النعمة نزوتها؛ فتجعل نصف عقله جنونا، ونصف أدبه حمقا، ونصف المنفعة به ضررا، ونصف ظرفه عنتا، ونصف لينه مشقة؛ ويكون خيره نصف الخير، أما شره فشر اثنين؛ فهلا كنتم من أهل بلادكم كالأب من أولاده: يرى حق ضعفهم أكبر من الحق الذي لقوته، وواجب مرضهم فوق الواجب لصحته؟ فهو يبذل سعة نفسه في ضيق أنفسهم، ويحملهم صغارا ليجعلهم كبارا، ويصبر عليهم حمقى ليجعلهم عقلاء، ويرى عمره كأنه من بعض أرزاقهم، وهو لا يستخلف من العمر شيئا، وحواسه كأنها من بعض خدمهم، وما له غير حواسه، ويراهم كأنما جاءوا إليه من السماء بعد أن اشتروه من الله، وباعه الله منهم بتلك النقطة الشابكة فيهم من دمه!
ألا ليتكم جئتم للبلاد من أوروبا بمحاريث، بدلا من هذه المواريث، وجئتم بالسماد بدلا من هذا الوساد،
8
وبالبهائم للسواني، لا بالحلائل والغواني،
9
وببضائع الحوانيت، لا ببضائع أنطوانيت ... وليتكم إذ كنتم رجالنا لم تغلبكم نساؤهم، وإذ كنتم سيوفنا لم تأسركم دماؤهم، ويا ليتكم لم تتنعموا وتتأنثوا، فكانت البلاد تجد منكم أهل البأس، ولم تتعلموا وتتخنثوا، فكانت الأرض على الأقل تعرف منكم أهل الفأس! •••
ذلك هو الرجل، أما صاحبته فامرأة فرنسية، جميلة الوجه في طلعة الصبح، شابة الجسم شباب الضحى، ملتهبة الأنوثة كشعاع الظهيرة، رقيقة الطبع رنة الأصيل، زاهية المنظر في مثل شفق المغرب من تأنقها، ثم هي تنتهي من كل ذلك إلى مخير أشد ظلمة من سواد الليل ... ومن أين اعتبرتها ألفيتها رذيلة مهذبة، يترقرق فيها ماء العلم، ويجول في حسنها شعاع الفلسفة، كأنها عين فاتنة تدور فيها دمعة دلال!
ولم أكد أراها حتى أخذني جمالها؛ فإن لها عينين ركبتا تركيبا يجر المصائب على القلب، تلهبان أشعة ضاحكة أو عابسة، يخلق منها للقلوب حوادث وتواريخ، وترمى بنظرات تبرئ الصدور أو تمرضها، وتبسم بوجهها كله نوعا من الابتسام يكاد يسيل من كل ناحية في وجهها قبلات؛ أما افترار شفتيها فهو جمال على حدة يشبه نقل معاني الخمر من فم إلى فم ...
امرأة ساحرة لا أدري إن كانت بنيت على السحر، أو على الحب، ولا إن كان هذا الحب قد خلق لعنة عليها أم هي خلقت لعنة عليه، والحب دائما بركة امرأة، ولعنة امرأة! والتي تزرعه في كل مكان هي التي لا تحصد منه شيئا، فإن نالها شيء منه كان تعبا عليها، روحا لسواها.
وأشد ما في هذه المرأة الجميلة من الفتنة، اجتماع شهواتها في صوتها الندي المستطرب المتحزن،
10
الذي لا يخلو أبدا من حرف تسمع فيه همس قبلة من قبلاتها!
بيد أني مع كل ذلك استعصمت بفلسفتي وحكمتي؛ فلم أرها إلا في مثل حريرة التفاحة إذا أفرط عليها النضج فابيضت، واحمرت، وفاحت، ولمعت، وإن العفن لباد من تحتها، يحذر منها وينذر، وفي مثل فروة الدب: استرسلت ولانت في نعومتها، ولكن لا منفعة منها إلا بقتل لابسها، وإزهاق الحيوان كله في سبيل الجمال الظاهر من جلده.
ونظرت إليها نظرة تخطت بها الشباب وأيامه، فإذا هي بائسة أملق الدهر حسنها ،
11
وكان ذهبا على جسمها وفضة، وإذا هي عجوز هالكة قد انحنت تحت لعنات ماضيها، وتركتها دنياها كالسجن المتهدم: لا يذكر مع انتفاضه إلا بلصوصه ومجرميه، وعقابهم وآثامهم، وتشقى بمعانيه بعد الخراب حتى حجارته، وحتى ترابه!
وأبصرت في هذه الحسناء اللعوب التي تستوقدها الضحكة بعد الضحكة، تلك الهامدة المريضة التي تطفئها الحسرة بعد الحسرة، وسقطت الشجرة الخضراء النامية، فإذا في مكانها جذع خشبي ملقى، زهد فيه نور السماء وطين الأرض معا!
وتمثلت لي هذه المتكئة على طرازها وأرائكها تتبرج في سندسها وحريرها، فرأيتها ممدودة في حفرتها، مسجاة بأكفانها، قد هيل عليها ترابها، ولم يرحمها راحم، ولا النسيان يستر رذائلها عند من عرفوها، وقد اجتمع عليها بعد عشاقها من دود الناس ... عشاق آخرون من دود الأرض، ويفنى جسمها حين يفنى، ويبقى ضميرها الروحي إلى الأبد ضمير مومس!
فلما وضعت أمرها على ما خيل إلي من عاقبتها، إذا هي تفور كما يفور النبع القذر بالحمأة التي فيه،
12
وإذا هي كالخشبة المتقدة في حريقها: من فوقها ظلل من النار، ومن تحتها ظلل،
13
وإذا جمالها قد استحال في عيني، وانفصل منها؛ فأظهرها، وظهر معها في بريق الزجاجة من الخمر بجانب السكير المتحطم، تتساقط نفسه مرضا وسكرا، فكل ما كان فيها
14
جمالا فهو فيه أقبح القبح!
ورثيت لها أشد رثاء وأبلغه في الرحمة والرقة، حتى عادت نظراتها تقطر على نفسي دموعا سخينة كدموع الذل! ويا حرة قلبي من الإشفاق عليها، وأنا أرى في احمرار جمرتها سواد فحمها، وفي أسباب سرورها أسباب همها! ويا لهفي عليها إذ أرى هذه الجميلة التي لم تنظر أكثر ما نظرت إلا إلى الخطيئة، ترفع نظرها أحيانا إلى السماء بقوة في داخلها، كأنها تقول لمن يفهم عنها: إن هنا القدر، وهناك المقدر! ويا بؤسها حين لم تعد تظهر في روحي إلا كما يتخايل ظل القمر في الماء؛ أنظر فيه الصورة من غير معنى، والضوء من غير قبس، وأرى فيه الخيال، وليس فيه القمر! •••
وألمت بما في نفسي ، وكانت تقرأ في وجهي قراءة ؛ فإنه ليس ذو عينين، ينكشف لعينيه سر العاطفة الذي يترقرق في الدم إلا من خالط القلوب، وغلب عليها بخير ما في الخير، أو شر ما في الشر، فهو يتدسس إليها مع ملائكتها، أو مع شياطينها، وإنما خلقت هذه المرأة وأمثالها في هذا الجمال، وهذا الظرف وهذا الفساد؛ لتستطيع أن تمزج الشيطان بقلب من تغتره
15
مزج المادة والمادة بواسطة بينهما من قوة ثالثة متهيئة لهما معا، فهي بجوهرها مسلطة على القلب، غالبة على أمره كتسلط السرور والكآبة، وغلبتهما طبعا بما فطر الإنسان عليه.
وقلما لصق الشيطان بقلب ما لم تكن في هذا القلب مادة من اللذة أو الكآبة، فكلتاهما كيمياء الخطيئة، والمعصية، والشك، ولرب عابد زاهد طاحت به كآبته فقذفته إلى النار كما تقذف بالفاجر لذاته، فيلتقيان منها في غمرة واحدة،
16
وإن كانا في العمل على طريقين متدابرين،
17
وما أشبه إسراف اللذة أن يكون الرجاء اليائس؛ فالمستهتر بهذه اللذة يغلو في استمتاعه غلو من ظلم نفسه، لا يتحرج، ولا يتورع.
18
وما أشبه إعنات الكآبة
19
أن يكون اليأس الراجي؛ فالمبتلى بالكآبة يجفو عما عداها جفاء من ظلم نفسه، لا يتسمح، ولا يترخص،
20
والنفس الغالية التي جاوزت قدرها، كالنفس الجافية التي انحطت عن قدرها: كلتاهما على طرف يمين الشر وشماله. •••
ونظرت إلي تلك المرأة نظرة حزت في قلبي؛ لأنها لا تسألني المدح، وكذلك لا تريد مني الذم؛ وبعد أن رضيت أن تسمع لي كأنها تقرأ كلامي في كتاب، وواثقتني على أن تعتبرني مخاطبا فكرها دون شخصها، ومحاورا فلسفتها دون تاريخها، قالت: أحسبك لست كغيرك من الناس.
قلت: ولا أنا كالملائكة.
قالت: فتعرف الخطيئة الإنسانية، وتقدر قدرها؟
قلت: وأعوذ بالله منها وأتحاماها!
قالت: وتعرف ضعف الطبيعة؟
قلت: ومعاندتها وصلابتها أيضا.
قالت: فكيف تراني: ألست نصف المسألة السماوية على الأرض؟ وهل أنا إلا معنى متجسم من معاني القدر؟ وهل خرجت من سلالتي إلا كما خرجت الخمرة من عناقيدها؟ وهل خلقت جميلة غالية كالدينار إلا لتشترى بي بعض أوقات السعادة؟
قلت : أما المسألة السماوية فإن كنت نصفها، فقد كان الشيطان نصفها كذلك، وأما القدر المتجسم، فلعل الحريق في بيت من نكب به أجمل وأخف احتمالا، وهو مع ألوانه الفنية ... حريق، ولا يسمى أبدا إلا حريقا، وأما الخمر فهل هي إلا عفونة أسكرت؛ لأنها عفونة، وأما الدينار الذي تشتري به أوقات السعادة فهو نفسه الذي يغري اللصوص ويوجدهم، وإذا كانت السعادة - كما تصفينها - في نشوة الخمر، فهل تشترى الخمر إلا وفيها سكرها، ومرضها، وجنونها؟
قالت: فحدثني لم كان الحب إذن؟ وهل خلق إلا للاستمتاع به من حيث يتفق، وعلى أحسن ما يتفق؟
فقلت: إنما خلق الحب قوة ليقيد بقيوده كسائر القوى الطبيعية: فأنت تصدعين عنه كل قيوده، وتتخذينه تجارة في النفوس، فلا تردين يد لامس، ولا تمتنعين على دعوى فيها ثمنها ... وبذلك تجرين مجرى القوة المدمرة؛ ومن هنا كان لك في الاجتماع الإنساني شأن ليس كشأن المرأة، بل كشأن المادة، وكان بعض الآداب والقوانين ينزل منك منزلة المطافئ المعدة للحرائق، وبعضها بمنزلة السجون المرصدة للجرائم، وبعضها بمنزلة الاحتقار المهيأ للتاريخ السيئ، وما ظلمك الاجتماع في شيء؛ لأنك أنت في نفسك ظلم له، وإن الدواء الذي يبرئ من المرض لا يعد مرضا للمرض، وأهون بذلك إذا عد ما دام يبرئ من العلة، فإن درء المفاسد قبل جلب المنافع، ودرء المفسدة هو في نفسه منفعة!
قالت: فكأنك تذهب إلى القول بأن مثلي مثل العقرب والحية، وغيرهما مما لدغ أو نهش أو سم، وأن دأبي في الاجتماع كدأبهما، فليس لها إلا القتل حيث وجدت، ومثل الأوبئة والحميات، وما قتل، وما أعدى، فليس إلا مدافعتها، أو الفرار منها فرارا بالحياة لا بشيء دونها، وكأني في رأيك لست مخلوقة كالمرأة، بل كحيوان للأذى والمقت والخوف؟
قلت: بل مخلوقة مثل كل امرأة كانت، وكل امرأة تكون أو هي كائنة، ولكن فيك من الزيادة عليها زيادة ماء السيل على ماء النهر، وزيادة الحدة على الطبع الرزين، وزيادة الطيش على العقل، أفإذا طغى النهر فأفسد وخرب، وفارت النفس فحمقت واعتدت ، وطاش العقل فزل وأخطأ؛ نهض ذلك عندك عذرا في وجوب التخريب والاعتداء والخطأ، وتسويغها، ووجب من ثم أن تعتدل هذه الصفات الجائرة على قلوب الناس، وأن يطمئنوا إليها، ويرضوها مذعنين، فلا يقيموا على النهر العاتي جبالا من السدود، ولا يجعلوا للنفس الطائشة سجنا من الحدود، ولا يقولوا لمن يجنيها عليهم: إن كان عندك الفرار فعندنا القيود؟
قالت: كلا، ما تبلغ بي الغفلة هذا المبلغ، ولقد درست وبحثت، وفي هذا الرأس ما في رأس رجل عالم فلا تظن غيره، ولكني إن أجن لا أجن إلا على نفسي، وهي لي وحدي، وأنا حرة كيف أتولاها، أفأنت رادي إلى العبودية؟
قلت: أنت حرة ما شئت، وما وسعتك الأرض إذا كنت لنفسك، وإذا كنت لا تتصلين بأحد من الناس اتصال العلة المهلكة، أو المعجزة، أو المذهلة، أو اتصال الرذيلة السامة بالدم النقي!
قالت: فإني لا أتصل بأحد، ولكنهم يغرمون بي، ويتنافسون علي؛ فأجد في تنافسهم لذة من أمتع لذاتي.
قلت: وكذلك نردم الحفرة إذا اعترضت طريق السابلة وقاية لمن عساه يغفل فيعثر بها، فإن بلغت أن تكون هاوية طبيعية لا حيلة فيها، ومردت بها طبيعتها المنخسفة، ميزناها بالعلامات، وضبطناها بالحدود، وسميناها بالأسماء، وجعلناها آية التحذير من الهلاك؛ حتى لا يزل أحد فيتردى فيها، وإذا كان من لذتك أن تشهدي اقتتالهم عليك، فهذا حسبك في أن تعاستهم أن يقتتلوا، وكنت ولا جرم في لغة الاجتماع من بعض معاني الشقاء والتعاسة! ... ثم إن في تلك اللذة منك دليلا حيوانيا على أن في طبعك منك إناث البهائم الشاردة، التي تقف ليتناحر عليها ذكورها وقوف المملكة المباحة تنتظر المنتصر؛ فتقتل بإباحتها كل النفوس التي زهقت حولها، ولو هي لم تكن كذلك لم يكن شيء من ذلك؛ فكنت ولا جرم في لغة الاجتماع من بعض معاني البهيمة! ... ثم إن هذا وذلك فيك نذير بانقلاب الإنسانية، ونزولها دون حدها، وتراجعها في سبيل الجاهلية الأولى، واتصالها من كل ذلك بوحشيتها الغابرة كأن لم يكن علم ولا دين، ولا تهذيب، فكنت ولا جرم في لغة الاجتماع من بعض معاني الرذيلة والسقوط!
قالت: هم لا يتناحرون علي بأنيابهم، ولا مخالبهم، ولا قرونهم، وإنما يفعلون ذلك بأموالهم.
قلت: فلا جرم كنت بهذا في لغة الاجتماع معنى من معاني السفه، والفقر، والخراب!
قالت: ولكن كم من رجل أحبني، فرأى في آية الإبداع الإلهي، فكان لا ينالني إلا كما ينال المؤمن لذة قلبه.
قلت: فمن ذا أبدع الأصنام، وسلطها على الهوى، ثم سلطها بالهوى على كهنتها وعابديها، فما يرون الحجر المعبود حجرا إلا لأن عليه بناء ملكوت السماوات ... ولا البقرة المؤلهة بقرة إلا لأنها تجر محراث الوجود ... ولا الحشرة المقدسة حشرة تدب دبيبها البطيء إلا لأنها تحمل الخليقة ... لا جرم كنت بذلك في لغة الاجتماع معنى من معاني الضلالة!
قالت: أتحسب أنك أعيبتني في مأخذ الحجج، واستنباط البراهين؟
قلت: فماذا؟
قالت: إني أعد الزواج أسرا واستعبادا، وقد بلغت من العلم مبلغا لا أرى فيه أن تكون حريتي محدودة بسلطة رجل بين كلمتين: لا، ونعم، فآثرت أن أتخلص من الحب بالوقوع فيه لأعرفه، وعرفته لأتقيه على نفسي، وأتقيه لأبتلي به، ولأصرفه في منافعي؛ فليس لي في الاجتماع زوج، ولكن لي الحب، وليس لي فيه أهل، ولكن لي الجمال.
قلت: أفلا يتسلط على حريتك الدينار والدرهم ... وإذا أنت بقيت للجمال، فهل الجمال سيبقى لك؟! وإذا كانت لك مدة في الحب، فهل هو خالد عليك؟ ... ألا ترين أنك تزرعين في أيام الحب بذور أيام الحسرة، وأنك متى كبرت عن سن المرآة
21 ... فستنتهين لا محالة إلى أمد من العمر يخيم عليك في مظلمة كالقبر؛ لا نهار فيه ولا ليل؟ وهل أنت من المجتمع الإنساني إلا مقام الصبي من أهله؛ إذ لا مذهب لك من دونه، ولا غناء في نفسك إلا به؟ أفترين للصبي أن يتفلت من نظام أهله، ويتحلل من آدابهم، ثم لا تكون وسيلته إلى ذلك إلا أن ينقلب لصا بيته بيوت الناس جميعا، فليس له في الاجتماع مال، ولكن له السرقة ... وليس له فيه أهل، ولكن له الحيلة ... بذلك، ولا جرم كنت في لغة هذا الاجتماع معنى من معاني السخرية والمقت!
قالت: فأنا في الاجتماع تعاسة، وبهيمة، ورذيلة، وفقر، وضلالة، وسخرية؟ ولكن ألست ترى هذه الصفات بعينها في كل الناس على بعض التفاوت في مقاديرها، والتنوع في أشكالها، والاختلاف في أسبابها؟ وهل الرجل الفاجر إلا كالمرأة الفاجرة؟
قلت: لقد فجر من الرجال من لا تحصيهم الملايين، فهل علمت أن فاجرا منهم حمل تسعة أشهر ووضع! ألا ترين أن الطبيعة جعلت لكل حكما، وهيأت لكل موضعا! وهل سواء في الطبيعة الألم وخطره، وعاقبته على الحياة أن يكون الدمل على ظاهر الجلد؛ حيث يتلذع على نفسه، ويرى ويحد، وأن يكون في باطن الجوف؛ حيث يخشى منه على غيره أكثر مما يخاف على موضعه؟
قالت: فكأن الرجل عندك أطهر فجورا ... من المرأة؟
قلت: بل هو هي في اللعنة والسقوط، والنعل أخت النعل ... واثنتاهما على طراق واحد،
22
ولكنه إن لم يكن أعقل من المرأة بفكره؛ فهي أعقل منه بحواسها، وإن يكن أقدر في قوته؛ فهي أقدر في عواطفها، وإن يكن في البلية عود الثقاب
23 ... فهي بعد الحريق كله! ولذا كان من الطبيعي أن تحاط المرأة في الاعتبار بالمعاني الاجتماعية الكبرى؛ إذ كانت هي الغرض الذي تمتثله القسي الرامية؛
24
فهي في معنى الكمال الأصل؛ لأنها الأمومة، وهي في العفة الأصل؛ لأنها الزوجية، وهي في الحياء الأصل؛ لأنها العرض، وكذلك هي الأصل في المعركة الجنسية؛ لأنها المقاومة والمدافعة للرجل، والأصل في الفضيلة الإنسانية؛ لأنها المنشأ والمربى للطفل، والأصل في الشرف الاجتماعي؛ لأنها المثال الأدبي للجميع ... ومن ثم كان سقوطها سقوطا لهذه المعاني كلها، فهو تهدم الأساس لا الحائط، وفساد الجذع لا الفرع، وعلة نفس الاجتماع لا علة جسمه.
هيهات هيهات، فلن تشعر المرأة الساقطة إلا شعور من فقدت نفسها التي كانت نفسها، وبدلت أخرى لا تلائمها؛ فهي أبدا هائمة وراء نفسها الأولى تبحث عنها، ولا تنساها؛ لأن ذلك الأصل الطبيعي لا يزال يناجيها في قلبها بلغة الأمومة، والزوجية، والحياء، والفضيلة، وما نفسها الشريفة إلا جواب هذه اللغة، وهي ليست فيها، فكأنها تحمل على حياتها أربع جرائم في جريمة؛ هي أشقى النساء، ترى في ذات عقلها الرهان العقلي على أنها امرأة ساقطة! •••
فتغررت عيناها بندى رقيق من الدمع، وقالت: لما كنت فتاة ...
فقطعت عليها الكلام وقلت: في تلك الفتاة كل البراهين فسليها، إنها هي نفسك الهاربة منك!
فوجمت هنيهة لهذه الكلمة، ثم انهملت عيناها انهمالا، وجاءها الدمع الطاهر يجري من أقصى الطفولة؛ فخالطني بثها وحزنها كأن دموعها تسقط على مواقع من نفسي!
فقلت: أتأذنين في كلمة؟
قالت: بل أسألك أن تتكلم، فإن مدامعي هذه عرضت لي كالمطرة السانحة في حميم القيظ من صميم الصيف على أرض مغبرة مقشعرة، تثور سخطا على كل قدم تطؤها؛ وإن فكري ليكلمني الساعة بلسانك كما يدوي الناقوس بصوته العالي الرنان بعد أن كان هذا الناقوس مختنقا في بما يطيف به من الضغط؛ فكان لا يدق إلا دقات مصمتة لا رنين فيها، كأنه ناقوس من الخشب!
آه! لقد كنت كالغدير الصافي: لا يعرف ماؤه إلا وجه السماء، وضوء القمرين، وأخيلة النجوم، وظلال الشجر والنبات، فأصبحت كالماء الذي كثرت واردته من البهائم؛ فهي تختبطه بأرجلها، وتضيف إلى وحوله وحولها، ولا تستعذبه إلا أن تغشي أعلاه بطبقة من أسفله،
25
وكلما تراءت صورها في كدورة الماء حسبت ذلك عشقا من الماء لصورها البهيمية، ولا تعلم أنه يلعنها بإظهار بهيميتها لأعينها لو أنها تعقل أو تعي!
أيحسبون أن قلب المرأة حين يشترى بالمال يكون أطهر من خرقة قذرة تتناولها يد أقذر منها؛ أو أثمن من فتات مائدة يترك لحيوان أعجم؟ ... ألا إن قلب المرأة لا يباع أبدا، وإنما هي حين تبيعهم: تبيعهم معدتها باسم القلب ... إنك إن لم تأخذ القلب هبة ممن تحب، فما أنت من حبها في (خذ)، ولكن في (هات) وأخواتها ...
يحسب الناس أنه لا تفرط امرأة في الحب ما تفرط المرأة الساقطة، وما علموا أنها لا تجد الرجل فتجد الحب! إنما الرجال في عين هذه المرأة رجال مصنوعون، فهي معهم امرأة مصنوعة يملك كل رجل إغضابها؛ لأن صناعتها إرضاء كل رجل، ولعل هذا من رحمة الله بها؛ فإن أكبر شقائها أن تجمع الأقدار بينها وبين رجل تحبه، وتستهيم به؛ إذ تألم لذلك ألما خاصا فيه تهكم الرذيلة والفضيلة معا. إن هذا الرجل هو البطل الفذ الذي يكون في قدرته أن يرجع لها ذلك العالم الذي اطرحها ونبذها، فهو عندها يغمر الناس أجمعين،
26
ولكنها قلما وجدته إلا لتعرف به حقيقة عارها، وإذا قدر للأعمى أن يبصر ساعة واحدة، ثم يرتد إلى ظلامه، فما أبصر، ولكن تضاعف له العمى!
المرأة الساقطة يائسة من البعولة،
27
وذلك عقاب حياتها، ثم هي لا تندفع إلا في الطريق التي تكرهها، وذلك عقاب نفسها؛ فالله أرحم من أن يزيدها بلاء الحب الذي هو عقاب شرفها وفضيلتها؛ فإن ابتليت فقليلا ما يتفق ذلك، حتى إن الساقطة العاشقة عشقا صحيحا، وتبقى ساقطة أندر وجودا من البغي التائبة توبة صحيحة، وتبقى بغيا. •••
يا عجبا لضمير المرأة يضل في ليل دامس من ذنوبها، ثم تلمع له دمعة طاهرة في عينيها، فتكون كنجمة القطب؛ يعرف بها كيف يتجه، وكيف يهتدي، وكيف كان ضلاله، وكأن الله ما سلط الدموع على النساء، وجعلها طبيعية فيهن إلا لتكون هذا الدموع ذريعة من ذرائع الإنسانية، تحفظ الرقة في مثال الرقة، كما جعل البحار في الأرض وسيلة من وسائل الحياة عليها
28
تحفظ الروح والنشاط لها.
ثم قلت: كانت المرأة نصف الإنسانية؛ فصارت ربعها.
قالت: وكيف؟
قلت: ألا ترينها انقسمت في هذه المدينة إلى قسمين متناقضين: الزوجة، وال ...
قالت: حسبك، خذ في غير هذا فقد أبثثتك ذات نفسي، وما ينفعك ولا ينفعني أن تنقض السور الذي أقمته حول حقيقتي؛ فإن كل قوى الكون عاجزة عن إرجاع ورقة واحدة انتثرت من زهرتها!
ثم وثبت إلى البيانة
29
فصدحت عليها بلحن من ألحانها كأن صرخة من ضميرها صاعدة إلى عرش الله في صوت الإنسانية الباكي!
ثم ابتسمت وسلمت، فانصرفت وكأني ما تكلمت ولا تكلمت، وبقيت الأقدار مكانها فما تأخرت، ولا تقدمت. •••
ليس على الهاوية أرض تغطيها، فهل تغطيها الفلسفة؟
وقد خسف بها قلبها في الأرض،
30
فهل تسويها الحجج والمعاذير؟
ولو كانت الحصباء فيها بين لؤلؤة، وزمردية، وياقوته، فهل من يدق عنقه في الهاوية ليموت على أرض من الجوهر؟
الهاوية في الطبيعة، والساقطة في الإنسانية: كلتاهما أرض كالمرأة، وامرأة كالأرض!
وكذلك يخلق الطيب والخبيث
ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض !
هوامش
الفصل الخامس
المنافق
وهذا فلان المنافق، لا يرى في الحب أكبر من باء تنافق للحاء، فهي تنزل عند تقديمها، وتتأخر للمتأخر،
1
كما ينحط الرجل العاشق عن رتبته، ويقدم على نفسه المرأة، وعنده أن هذا برهان طبيعي على أن الحب من غير نفاق هو حب من غير حب؛ فالنفاق هو الأصل، وحسبك به!
أعرف هذا الرجل كالحائط المبهم:
2
من أين جئته استغلق عليك، ورأيته ردما واحدا، فلا منفذ لك فيه إلا أن تكون قنبلة آدمية في القوة والشر؛ لأنه رجل المادة لا غيرها، وهو كالمرأة الغادرة: حبها الرجل كلمة على طرف لسانها، ولسانها عمل في طريق منفعته، وهو كاللص: حبه المال حاسة في يده، ويده على ما يملك الناس!
لونه في الحوادث ألوان، ودينه في المنافع أديان، ونفسه من الناس حشرة في إنسان، وإذا عرفته نظرت إليه كما ينظر المهموم لما جر عليه الهم، وإذا جهلته كان كالدواء المغشوش ذهب منه صواب العلاج، ووقع فيه خطأ السم!
والمنافق هو سياسي الحب والصداقة: يضع المنفعة بن عينيه، ثم تتوزع على جوارحه كل أساليب الكلام والحركة والعاطفة، لا مخرج لك من عقدته إلا أن يعقد هو بأسلوب، وتحل أنت بأسلوب آخر؛ وترى صداقته تنتهي أكثر ما ينتهي إلى مثل المقاطعة الحربية بين فراعنة السياسة، وشياطينها: يرمي الداهية منهم داهية آخر «بإنذار نهائي» حاسم، يحمل الزلازل في كلماته، وينصب للحساب ميزان الهوان والهلاك، ثم يقول له في آخره: «وإني أغتنم هذه الفرصة لأؤكد لكم احترامي الفائق»!
ولن تجد شرا من هذا الأسلوب ينتحله رجل إلا الأسلوب عينه تنتحله امرأة! ...
والله الذي لا إله إلا هو، ما رأيت كالمنافق رجلا، إلا ذلك الواقف يدير وجهه بين مرائي عن يمينه وشماله، ومن ورائه، وبين يديه؛ فله في كل واحدة وجه، ويتعدد الرجل وهو شيء واحد.
يخلق الله كل شيء ليكون شيئا على الأصل البين الذي خلق عليه، وللأمر الميسر الذي خلق له، وهو صريح واضح من جهتيه؛ فالأشياء في الطبيعة هي ما ظهرت به مشيئة الله، تضر لأنها ضارة، وتنفع لأنها نافعة، ولكن المنافق كأنما خفيت مشيئة الله فيه؛ فهو من ناحية الإنسانية مخلوق للنفع فضر، ومن جهة الحيوانية خلق للضر فنفع، وفي الرذيلة خلق تلوينا للرذيلة، وعند نفسه خلق لأنه خلق! فأنت تعرفه من جهة على قدر ما تنكره من الأخرى، ولو كانت الجهتان متقابلتين؛ فهو دائما في نفاقه مختلف على السر والعلانية، وعلى المذهب والغاية، وعلى المدخل والمخرج، وعلى القول والعمل، ومختلف حتى في كونه مختلفا أو مستقيما!
ولو مددت عينيك في عينيه لرأيته يتخاوص لك بإحداهما،
3
كأنك أبيض من شعاع الشمس، وإن كنت قد خرجت من مصنع التجليد الإلهي في جلد أسود؛ إذ تأبى إحدى عينيه على كل حالة إلا أن تنافق ليظهر النفاق عليها، وهو من الذين يمكرون السيئات؛
4
لينتهوا منها إلى حسناتهم، ويقاربون الذم ليخلصوا منه إلى الحمد، ويسفلون ليرتفعوا كما يبتدئ المقلاع دورته من الأسفل ليرمي بحجره رمية عالية، ومهما انتحلوا من العلل، واختلقوا من المعاذير، وقولهم: إن ذلك سياسة ومخالقة،
5
وظرف وأدب من الذوق؛ فهم لا يأتون كل ذلك إلا لأن كل ذلك - علم الله - هو النفاق.
ويا ليت علم الأخلاق كعلم الجغرافيا؛ إذن لكان له من وجوه المنافقين مصورات ملونة ... ولاضطر العلماء أن يجمعوا من بعض السادة الكبراء مجاميع، ويقيموا لهم معارض! وتلك حقيقة لم يفطن لها علامة القرود الفيلسوف (دارون)، ولو هو فطن لها فكيف له بمجموعة أقبح ما فيها وجوه عظماء الناس؟ •••
إن المنافقين من العامة، وأشباه العامة بجانب المنافقين من الخاصة، وأشباه الخاصة لكالشر يتطاير عن الجمر: إن هو لذع لم يحرق، وإن لم يلذع انطفأ؛ فإن خبثت منه شرارة جهنمية، وتلذعت، ووقعت فيما تستوقده، وردته حريقا، فما يجيء ذلك من كونها شرارة كبيرة، بل من كونها جمرة صغيرة؛ فالشأن إذن في هذا الجمر الذي يتلظى بمادته؛ لأن له مادة استفادها من عناصر الأرض، واجتمع منها غذاء النار فيه، كما يفيد أولئك من المال، والجاه، والعلم، والأدب، وما إليها. وإن شر النفاق ما داخلته أسباب الفضيلة، وشر المنافقين قوم لم يستطيعوا أن يكونوا فضلاء بالحق؛ فصاروا فضلاء بشيء جعلوه يشبه الحق!
ولعل هذا النفاق هو أصغر رذائل الصغار، وأكبر رذائل الكبار؛ لأن للحاجة في أولئك شرعة ومنهاجا، وللضرورة أحكاما وقانونا، فالعامي حين ينافق لكبير من العظماء، وينخضع له، إنما يوازن بين ما يعرفه في ذات نفسه من الصغار والضعة، وبين ما يتوهم في صاحبه من الغلبة والقهر؛ فهو يترقى إليه ليدنو منه، أو يترقى إلى خديعته
6
ليناله، أو يترقى إلى كبريائه ليأمنه، ثم هو في كل ذلك نازل على حكم الحاجة والضرورة، ولو اعتبرت الرجلين على الحقيقة، ووزنتهما في ميزان الأسباب، لرأيت المنافق منهما من لم ينافق؛ لأن ما لا يخاض إليه إلا في الوحل، لا سبيل إليه إلا من الوحل، وذلك العظيم رجل بناه النفاق؛ فجعل باب نفسه عند قدميه، فإذا أردت مفتاح هذا الباب فاخفض رأسك، ما من ذلك بد، غير أن نفاق الكبار للكبار شيء أكبر من النفاق في نفسه، وإنما سمي به تسامحا وتجوزا، أو لأن اللغة تنافق هي أيضا ... وإلا فنفاقهم إن كان صدقا فأكبر فضيلته الكذب، وإن كان حقيقة فأعظم أدلتها الوهم، وإن كان علما فأكبر شرفه الجهل، وهو التخشع ينقلب ضربا من العبادة، وهو الوصف المزور يرجع نوعا من الخلق الذي لم يخلقه الله، ثم هم طبقات، ولكل نفاقها، ولا تدري أعلاها أسفلها، أم أسفلها الأعلى، ولكن الشر دائما بالجملة، وهم في الجملة يتخلقون، ويتصنعون بما نعرف وما لا نعرف، والكبراء هم موضع الفصل والوصل في بلاغة الاجتماع، وكل رأس منهم فهو كرأس الشارع: لا بد لك أن تلتوي، أو تنحرف إذا أنت بلغته، فإما أرسلك في طريق خير أو شر، وإذا كان هذا فإن كل واحد من كبار المنافقين، ومنافقي الكبار هو على التحقيق نقطة انقلاب في أخلاق من حوله من الناس.
إن مادة حوادث التاريخ هم أولئك العظماء، فإنك لتجد الرجل العظيم في أخلاقه العالية، وسجاياه الكريمة، وفي تأثير هذه الأخلاق والسجايا على الناس - أشبه بالفتح التاريخي المبين، وبالنصر القوي العزيز، ويكون الرجل إنسانا، ولكنه تاريخ، وتجد إلى جانبه المنافق العظيم ... في أخلاقه السيئة، وطباعه اللئيمة، وفي تأثير هذه الأخلاق والطباع على الناس - أشبه بتاريخ ضربة من ضربات الله،
7
أو مجزرة من مجازر الحروب، ويكون إنسانا، ولكنه على ذلك تاريخ!
ولا أعلم في هذه الدنيا شيئا لا يستطيع أن يوجد شيئا آخر؛ إذ الموجودات كلها مبنية على التحاليل والتركيب، وهذا النفاق في أصله مبني على الكذب السافل، فإذا خرج منه شيء خرج منه الكذب العالي ... فترى السياسي يبالغ في النفاق، ويزعم أنه يتكلم بلسان المستقبل، وينافق الأديب، فيقال زخرف من القول، ومبالغة في البلاغة، ونفاق ذي السلطة تواضع، والنفاق من العالم مسلك من دقائق علم النفس، ومن الغني مال يجذب مالا، ومن السفيه اللئيم شر يطلب خيرا، فإن هو كان من امرأة قيل حب، أو من طفل قيل تحبب ... وكما ترد المركبات كلها إلى أجزائها المفردة، فإن نفاق أهل الأرض جميعا يرجع إلى الطفل الصغير كما ينبثق النهر العظيم على مد مجراه من المنبع، وينتهي إلى مصبه، وقد جمع من أقذار طريقه على طول ما يمتد! فنفاق الطفل يكون في أصله مكافأة عن محبة أهله وذويه، ثم يكبر فيصبح توددا إليهم، ثم يعظم فينقلب حيلة يحتالها العقل الصغير ليخضع بها العقل الكبير لهناته وهيناته؛ ثم لا تزال تداخله بعد ذلك الأهواء والشهوات حتى ينعصر نفاقا؛ فإذا هو ما هو.
بيد أن ما يكون من نفس الطفل يكون معفوا عنه في الأغلب، كأنه ليس من نفس، أو كأن هؤلاء الأطفال حين يتواثبون ويقفزون في اللعب واللهو يقفزون كذلك من حدود الشرائع ... فللرجل من كل قاعدة حد محدود ليس وراءه إذا هو تخطاه، وتعمد مجاوزته إلا حائط من السجن، أو حائط من اللعبة، أو حائط من جهنم، ولكن الطفل يتخطى ذلك الحد وثبا، ويكون قد وثب على السجن وجهنم بطبقاتها السبع، ولا يقع في واحدة منها؛ فمهما نافق الصغير فهو ذكي خبيث، ولكن نفاقه ينتهي بقبلة على خديه أو لطمة ...
لا الصغار في منازل العمر من الأطفال، ولا الصغار في مراتب العمران من العامة، يصلحون أن يقوم بهم النفاق؛ لأنهم جميعا ينسحبون على أصل واحد من الطبيعة، وهو صغر النفس، وانصرافها إلى معاني الجسم دون معاني العقل: فلو أنك رأيت طفلا ينافق لطفل مثله، أو شهدت عاميا من الناس يصانع رجلا من قياسه المنطقي ... لرأيت في ذينك نوعا من الضحك الساكت، وفي هذين ضربا من الوقار الذي يضحك منه ... إن عظمة النفاق هي نفسها في عظمة أهله الكبراء، وكل شيء قد يصلح موضعا للبحث والنظر والجدال، إلا ما يعتقد الرجل العظيم أنه عظيم به، وهنا موضع التأله الذي شرع من أجله سجود النفاق، وركوعه، وتهليله، وتسبيحه، فصغار العظماء كأنهم في حاجة إلى النفاق؛ لأن فيهم شيئا عاليا لا يظهر حد علوه إلا إذا قيس من نقطة سافلة ... فإذا أنت عرضت لهم على شرطهم، فنافقت واستخذيت ونزلت عن كرامتك، رأوك مع ذلك منافقا عند نفسك فقط، واحتجت بعد كل هذا إلى ضروب أخرى من العنت الشاق على النفس، حتى يعرفوا بعد أن يجهدك النفاق أنك منافق، فلا تبلغ إليهم رذيلتك إلا وقد صرت في جملتك مجموعة من الرذائل! •••
وإني لأحسب أن النفاق هو بقية ما وقر في النفوس الجاهلة من عهدها الأول، عهد التعبد لكل ما يضر، أو يتوهم فيه الضرر، والتقديس لكل ما ينفع، أو يظن فيه النفع، وتكون أرواح الأصنام، والأوثان، والعجول، والبقر، والحشرات، والعواصف، والصواعق - وغيرها مما كان يخص بالعبادة قديما - هي بأعيانها ما تتمثل فيه أرواح أولئك السادة الكبراء الذين يثقل ظلهم على الروح ثقل الضباب، ويتراكم على القلب تراكم السحاب، ولا يرضون بابا من النفاق إلا أن يفضي إلى باب ... ثم تكون أفعال المنافقين في دهانهم، ومصانعتهم، وما تتروح به أرواحهم، هي في ذاتها بقايا تلك الرعدة، والفزع، والضراعة، وتمريغ الوجوه، والتمسح، وما إليها مما صغرت به أحلام لتكبر أوهام، وكان عبادة أجسام لأرواح، فصار عبادة أرواح لأجسام!
والعظيم الذي تنافق له، ولا ينكر عليك، ولا يردك، ثم لا يرضاك، ولا ترضيه إلا على هذا النحو، هو في رأيي رجل خرافي من المعبودات الأولى يحتاج إلى نبي يمحوه، فإن لم يكن نبي فرجل حكيم يكشف للناس عن وجه الخرافة فيه، فإن لم يكن فذو عزيمة يصول به، أو يستطيل عليه، فإن لم يكن فذو دين وتقوى، يريه وجه السماء من دينه وزهده، فإن لم يكن فذو علم يقنعه أنه كان ترابا، وسيكون عظاما ورفاتا ... فإن خلا قومه من كل أولئك فقد
زين لهم الشيطان أعمالهم ، وقد رفع الله عنهم يده؛ فلا يبالي في أي وجه هلكوا! •••
أما إنه لا ينافق إلا الخبيث الذي يحاول أن يقتحم النفوس، وهي غافلة عن أبوابها ومنافذها، فنفاقه من التلصص، وإلا الضعيف الذي يريد أن يقوى بضعفه، فهو يحتال على أن يأخذ القوي من أضعف مكان فيه، ونفاقه من المكر والخداع، وإلا الغاصب الذي يطمع أن يكون الشيء له وليس له، ونفاقه من الظلم، وإلا القوي متى أراد أن يسوق بقوته مساق الضعف لينال بها من غير أن يؤذي، فنفاقه من الكبرياء، والخامسة أن روعة الحب في عاشق تنافق لروعة الحسن في معشوق!
وكذلك لا يرضى عن النفاق، ولا يقره إلا جاهل اكتفى من العلم قبل أن يعلم ما هو العلم، أو مستكبر عميت نفسه عما حولها، وعما فوقها، أو غبي يعرف عقله في وهمه، ووهمه في عقله، ولا يعرف عقول الناس، أو ذو سلطان دنت محنته، وأظلت ملكه النقمة؛ فهي تسلك إليه سبلا مختلفة، منها فساد الناس، ومنها النفاق، والخامسة أن يمتلئ نظر الجميلة رضا وسحرا حين يمتلئ فم المحب نفاقا في هواها!
وأنت فكيف اعتبرت النفاق رأيته كذبا وخداعا، ثم مكرا ومصانعة في الحق؛ فإن هو فشا في طائفة من الناس ألفيتهم في الجملة كأنما تعاهدوا بينهم على ألا يصدقوا، ولا ينصحوا، ولا يأنفوا، ولا يقاربوا الحق؛ فإذا كثر هذا السواد في شعب رأيته، ولا يحسن من الحياة إلا الأسباب الذي يقتل بها نفسه إن كان قويا، ولا يهتدي لغير طرق الفقر إن كان غنيا، ولا ينفع إلا أعداءه إن كان شعبا ذكيا، ولا يعمل إلا على السخرة لغيره إن كان عاملا فتيا! •••
وكل منافق وصاحبه الذي ينافق له، رجلان لا يفهم أحدهما الآخر، أو تكون بلادة الحس قد بلغت من أحدهما أن يتظاهر بأنه لا يفهم، وبلغت الغلظة من صاحبه أن يظهر كأنه غير مفهوم، وكلاهما غطاء مكفأ على حقيقته، ولكن الحقائق المغطاة بأغطية الكذب موضوعة أبدا على نار تتقد من عزائم المصلحين، ونفوس الحكماء، وقلوب الأحرار، فلا تزال تغلي كلما طال بها العهد حتى تنفجر من أغطيتها، فإذا الزور قد طاح به ما انكفأ عليه، وكان ذلك من سنة الله في إصلاح الناس، وكان من سنة الله كذلك أن تجد الناس ينافقون جميعا، إلا مصلحا، أو حكيما، أو رجلا حر النفس!
هوامش
الفصل السادس
الصغيران
والآن أرى السحاب رقيقا مهلهلا كأنه في سرقة من حرير أحمر،
1
يشرق إشراق الروح في الطفل الصغير الذي كفلته رحمة الله فتركته إذا ضحك استوضحت له من الضحك معان لا نهاية لها، ولا يعرفها الناس، فما ينفك من شيء تضحكه أو يسره، وإذا بكى لم يجد للبكاء إلا معنى واحدا من تلك المعاني الكثيرة التي يعرفها الناس؛ فهم لا ينفكون من البكاء، أو معانيه في هموم الحياة!
تقوم الطفولة في روحها، وعهدها، وحوادثها على عقيدة واحدة، هي أن كل ما كان فسيكون غيره، وهي تعرف ذلك يقينا جزما لا شك فيه، وحكما لا معدل عنه؛ فالصغار على أي أحوالهم هم كبار الناس في هذا المعنى.
إنك لتعرف الرجل لا بأس بعقله، ثم تراه فيما ينزل به من الحوادث فإذا هو من النفرة والهم، والقلق صورة كاملة من اضطراب فكره في حكمة ما ابتلي به، فإذا نظرت إلى الطفل في مثل ذلك رأيته صورة أخرى من نفس حزينة راضية مستسلمة، قد أقرت فيها رحمة الله بحكمة الله؛ فالحزن فيها سبب الهم، ولكنه كذلك سبب الأمل! •••
جلست ليلة مع صحبة من الأدباء في ندي
2
على عنق شارع كذا بالقاهرة، وكنا في الوقت الذي يقبل فيه الليل على أعماقه قبل أن ينتصف بمنزلة واحدة،
3
تلك الساعة التي هي أول عهد الليل بالتنفس تحت الأجنحة السماوية،
4
تنزل لتختم على أعمال الأرض في يومها الغابر، ثم تأخذ في تهيئة الجمال السماوي البديع الذي سيخلق منه الفجر.
وكان إلى جانبي أديب سكير، نسميه «دمياط الحانة» ... لأن فرعا من نهر الخمر ينصب فيه كما ينصب فرع النيل عند (دمياط)! وقد عودته الكأس أن يتخذ الليل نهارا، والنهار ليلا، فما ينصرف إلى بيته إلا في فروع الصبح،
5
ولا ينام إلا والعالم كله متيقظ، ويزعم أنه لا يهتدي إلى عقله إلا إذا أضاعه ساعة أو ساعتين،
6
ولا يحسن تصفية الكلام، وترقيق المعاني إلا إذا نضج جوفه بماء الشعر!
7
وكان في تلك الساعة قد حط عليه الساقي حتى انتهى في سماواته الوهمية إلى الأفق الزجاجي، فعاد كلامه رنينا، وطنطنة لا يفهمه إلا صاحب الحانة وحده ... فلما دهته الداهية من كرب الخمر تخطى حد إنسانيته إلى البهيمية السائمة، وما كاد يرتفع الستار الإنساني عن مسرح أخلاقه، حتى رأيتني في رواية عجيبة يمثلها أربعة اجتمعت أرواحها في شخص واحد: سفيه، ومعتوه، وأحمق، وأديب ...
وجعلت أتأمل على يقين الخبرة، أشهد على حق النظر عجيبة هذا العقل الإنساني الذي يسبح في الأفلاك، ويتطوح من شاطئ المجهول إلى شاطئ المعلوم بوثبة أسرع من ضربة الجناح، ثم هو مع ذلك يغرق في زجاجة خمر، وصرت أرى كيف يتحول النبوغ العقلي في بعض ساعاته إلى صناعة خسيسة، هي صناعة الأديب نفسه الشريفة بهيمة من البهائم، وعلمت علم هؤلاء الأدباء الذين يحسبون الخمر توحي إليهم، وما في ملء الدن منها ما يعدل فائدة واحدة من قوة الإرادة.
لقد رأيت وعلمت وشهدت بعيني رأسي كيف يبوء هؤلاء بالمأثم والمغرم جميعا؛
8
وتالله إنه لأيسر على الباحث أن يجد الشراب الذي يغترف منه الظمآن بكفيه ماء زلالا، من أن يعثر على الكأس التي يقتبس منها السكير فضيلة أو فائدة.
ولو رجع الأمر إلي ما جعلت عقوبة الخمر إلا تحطيم الزجاجات على رءوس شاربيها؛ وهب أن رأس الأديب السكير هو رأس أرسطو علما وذكاء؛ فذلك أدعى لتحطيمه؛ لأنه لن يكون في عربدته، وسكره، وانحطاطه، وسقوط همته إلا رذيلة يدافع العلم والذكاء عن وجودها، فينصبها الشيطان مثلا للتقليد، ويتخذها الأغرار والضعفاء قاعدة للباطل المتبع، يعملون على احتذائها، ويتحولون عن فضيلتهم بحجتها؛ فيصبح هذا الرأس الواحد كالمطبعة: متى حبرها الطابع نقلت ما فيها «بحروفه» إلى كل الصحف البيضاء التي تلامسها! ••• ... وفي تلك الساعة كانت الأرض قد عريت إلا من أواخر الناس، وطوارق الليل، وبقية من يقظة النهار، تحبو في الطرق ذاهبة إلى مضاجعها: فبينا أمد عيني وأديرهما في مفتتح الطريق ومنقطعه، إذ انتفضت انتفاضة الذعر، ووثبت رجة القلب بجسمي كله كما تثب اللسعة بملسوعها؛ ذلك حين أبصرت الطفلين ...
صغيران ضلا من أهلهما في هذا الليل، يمشيان على حيد الطريق
9
في ذلة وانكسار، وتحسب أقدامهما من البطء والتخاذل لا تمشي، بل تزحزح قليلا قليلا فكأنهما واقفان، أكبرهما طفلة تعد عمرها على خمس أصابعها، والآخر طفل يبلغ ثلاث سنوات؛ ينحدران في أمواج الليل، وقد نزل بهما من الهم في البحث عن بيتهما ما ينزل مثله بمن تطوح به الأقدار، إذا ركب البحر المظلم ليكشف عن أرض جديدة.
تتبين الخوف في عيونهما الصغيرة، وتراه يفيض منهما على ما حولهما، حتى ليحسب كلاهما أن المنازل عن يمينه وشماله أطفال مذعورة!
ويتلفتان كما تتلفت الشاة الضالة من قطيعها: لا يتحرك في دمها بالغريزة إلا خوف الذئب!
ويتسحبان معا وراء الأشعة المنبثة في الطرق، كأن أضواء المصابيح هي طريق قلبيهما الصغيرين.
منقطعان في ظلام الليل، وليس على الأرض أهنأ من ليل الطفل النائم، فهل يكون فيها أشقى من ليل طفل ضائع؟! نامت أحلامهما، واستيقظت أعينهما للحقائق المظلمة الفظيعة، وضاعا من البيت، ويحسبان أن البيت هو الضائع منهما ... طفلان في وزن مثقالين من الإنسانية، ولكنهما يحملان وزن قناطير من الرعب.
يا من لا إله إلا هو، من سواك لهاتين النملتين في جنح هذا الليل الذي يشبه نقطة من غضبك؟ لقد أخرجتهما في هذا الضياع مخرج أصغر موعظة للعين تنبه أكبر حقيقة في القلب، وعرضت منها للإنسانية صورة لو وفق مخلوق عبقري فرسمها لجذب إليها كل أحزان النفس!
صورة الحب يمشي متساندا إلى صدر الرحمة في طريق المصادفة المجهولة من أوله إلى آخره، وعليهما ذل اليتم من الأهل، ومسكنة الضياع بين الناس، وظلام الطبيعة وكآبتها!
رأيت الطفلة وقد تنبهت فيها لأخيها الصغير غريزة أم كاملة، فهي تشد على يده بيديها معا كأنها مذ علمت أنها ضائعة، تحاول أن يطمئن أخوها إلى أنه معها، ولن يضيع، وإنه معها!
10
فيا لرحمة الله!
وقد أسندت منكبه على صدرها وهي تمشي، فلا أدري إن كان ذلك لتحمل عنه بعض تعبه فلا يتساقط، أو ليكون بها أكبر من جسمه الضئيل فلا يخاف، أو لأنها حين لم تستطع أن تفهمه ما في قلبها بلغة اللسان أفاضته على جسمه بلغة اللمس، أو لا هذا ولا ذاك، إنما هي تستمد من رجولته الصغيرة حماية لأنوثتها بوحي الطبيعة التي رسخت فيها!
أما الطفل فمستذل خاشع، لو ترجمت نظراته لكانت هذه عبارتها: اللهم إن هذا العمر يوم بعد يوم، فأنقذنا من بلاء يومنا!
ولما وقفا بإزائنا كان هذا الصغير يقلب في وجوه الناس نظرات يتيمة، ترتد على قلبه آلاما لا رحمة فيها؛ إذ يشهد وجوها كثيرة ليس لها ذلك الشكل الإنساني المحبوب الذي لا يعرفه الطفل من كل خلق الله إلا في اثنين: أمه، وأبيه!
وما أسرع ما تناهض الناس، وأطافوا بهما، وما أسرع ما لاذ المسكين بأخته، واستمسك بها؛ كأن وسائل الرحمة تخيف كما تخيف أسلحة «الجراح»،
11
أو كأن الأصل في هذا الإنسان هو العدوان على أخيه، وظلمه، واجتياحه، فكل حركة إنسانية مشكوك فيها حتى يقع أثرها؛ لأن الإنسان نفسه ستار منسدل على نيته، وهذه النية آلة للأطماع، فلا تزال في يد الكذب دائما، لا يدعها للصدق إلا فيما لا «ينفع» ...
وكان الطفل المسكين في جملة النظر إليه، خلقا من الحب المؤلم الذي يلهب الدم، يرسل من عينيه الدعجاوين سحر المذلة الفاتنة، تلك المذلة التي أعرفها أقوى ما في الحب إذا تذللت الحبيبة في نظرة ضارعة ترسلها لمحبها المفتون، فلا تبقي في رأسه رأيا، ولا في قلبه نية، وتذل له ليذل هو لا غير، كأن أحب العز في أحب الذل!
ونظر إلي أنا أول رمقة، فذكرت أطفالي فتزلزل قلبي، وأحسست أن دمي استحال إلى بارود وقع فيه الشرر!
وهؤلاء الأطفال الصغار هم إنسانية على حدة، فكل أب هو أبو هذه الإنسانية كلها، ولن يطيق من كان له طفل أن يرى صغيرا ضائعا في الطريق يستهدي الناس إلى أهله، ويبكي عليهم، أو طفلا جائعا يعرض على الناس وجهه المنكسر، ويستعطفهم بصوته المريض أن يطعموه، أو طفلا يتيما قد ثكل أهله، وضاق بقسوة أوليائه، فانطرح في ناحية يبكي، ويتفجع، ويسأل من يعرفون الموت: أين أبي؟ أين أمي؟
هؤلاء جميعا ليس بينهم وبين قلوب الآباء والأمهات حجاب؛ إذ ليس فيهم من الناس إلا اضطرارهم إلى الناس؛ فهم الإنسانية الرضيعة التي خلق من أجلها القلب الإنساني في شكل ثدي. •••
واطمأن ذلك الطفل إلى صدر أخته، ومال برأسه عليها، ثم أطلق عينيه فينا جميعا، فما حسبته أراد إلا أن يخبأ في قلبها أفكاره الصغيرة، ثم ينظر إلى هؤلاء الناس نظرات مجردة بلهاء كما ينظرون هم إليه؛ إذ لم ير فيهم من فتح له ذراعيه، ولا من حمله، ولا من تحنى عليه، ولا من ضحك له، ولا من أعطاه شيئا يأكله!
ألا إنما الناس صور الفكر، وصور القلب، فمن لم نر فيه صورة من أفكارنا التي نلتمسها، أو من أهوائنا التي نحبها، فذلك ليس منا، ولسنا منه، وإن سمي أخا في لغة النفاق، وإن دعي حبيبا في لغة المجاملة، بل هو مخلوق ليكون النموذج الذي نتعلم عليه البغض إن كان متصلا بنا، أو التسامح إن كان بعيدا عنا، ولم تتصل بنا، ولا أخباره ...
وكم بين الناس من اسم تعرفه على صاحبه كهذا النور الأحمر الذي يضعونه في الطرق؛ فيضيئونه من الليل فوق الحفر ... لينذر الناس ما وراءه، ويقول لهم بصوت النور: ههنا ما ينبغي أن تحذروه، ههنا حفرة ...
إنما الناس صور الفكر، أو صور القلب، فهم منقسمون حين يولدون أسباطا أسباطا باختلاف الدم في كل أسرة، وهم متفرقون حين ينشئون أفواجا أفواجا باختلاف الصحبة في كل فئة، وهم متباينون حين يتدفعون أحزابا أحزابا باختلاف الهوى في كل طائفة، وهم متناكرون حين يتنازعون أمما أمما باختلاف المنفعة في كل أمة، فتلك أربعة وجوه تلبسها الإنسانية فيهم، ومن ثم قضي على هذه الإنسانية المسكينة في الأرض أن تكون ثلاثة أرباعها عداوة، كالأرض نفسها: ثلاثة أرباعها ماء ملح لا يساغ ولا يشرب، وإنما منفعته للكون كله في الجملة! ولعل شيخا من الشيوخ لو تدبر حياته، وأحصى أقدارها، وميز أنواع حوادثها، وما أتي عليه فيها من أولها إلى آخرها، لرأى ثلاثة أرباعها ملحا أيضا ...
إنما الناس صور الفكر، أو صور القلب، فليس يأتي للوالدين أن يربوا من أولادهم ناسا، بل أهواء ومطامع يناقض بعضها بعضا: مطامع تتبع أسبابها، وأهواء ترجع إلى غرائزها؛ فلو أن أهل هذه الأرض بلغوا بما لا نعلم من الوسائل أن ينظموا ظاهر دنياهم حتى يكون سواء لا يخالف شيء منه على شيء؛ لبقي الانتقاض والاختلال في باطن الإنسان، حتى لكأن بعض الدم يخلق غالبا على بعض الدم. وإنه لا شيء في هذه الحياة إلا وقد خلق معه ضده، فإذا استقامت الأمور فلمن تكون الأضداد لعمري؟
إنما الناس صور الفكر، أو صور القلب، فدنيا كل إنسان في شيئين: ما ينزع إليه بفكره، وما يميل إليه بقلبه، والإنسان من كل إنسان أحد اثنين : من ترجى به المنفعة، ومن تكون فيه المحبة، والإنسانية من كل إنسان في منزلتين: أدنى الحب، وتلك منزلة الصداقة، وأعلى الصداقة، وهي منزلة الحب؛ فأما وراء ذلك فصحراء الإنسانية الكبرى المقفرة من قلب الشخص وفكره. ولولا الأديان لخربت الدنيا، فإن هذه الأديان قد عمرت هذه الصحراء بعنصرين جليلين أنبتا فيها القلب والفكر، وهما: خوف الله في خلقه، ومحبة الله فيهم؛ فحيث وجد هذا الخوف، وهذه المحبة وجدت الإنسانية، وعلى ذلك فالإنسانية العامة الحقيقية هي الإيمان، والإنسان العام الصحيح هو المؤمن، والسلام العام الكامل هو الله جل جلاله.
ولكن يا لشقاء الإنسان التعس! إن أعجب ما في الشر أن اختلاف الناس في فهم هذه الثلاثة هو أصل الشر!
وسألوا الطفلين أسئلة سياسية ... ما وطنهما؟ وما جنسهما؟ أي من أي شارع، ومن أي والد؟
ألا ضل ضلالكم أيها الناس! فلو أنهما يعرفان من أي شارع، ومن أي والد لما كان منهما ما ترون، على أن الطفلة لجلجت في بعض كلمات تشبه اضطراب قلبها، وكان الصواب كله ماثلا لعينيها مجتمعا في ذهنها، فالبيت، والشارع، والأب، والأم كل ذلك واضح في خيالها، ولكن الذي استبهم عليها هو تحديد نسبته إلى هذا الوجود الذي تراه كله بيوتا، وشوارع، ورجالا، ونساء، وإنما تحديد الشيء هو تعبير الطبيعة عنه، وإنما تعيين نسبته من غيره هو تعبير الشيء نفسه عن خصائصه؛ فإذا أنت عرفت نسبتك من سواك، وحصرت هذه النسبة في حدودها وأسوارها، فقد أمنت الخطأ في سعادة نفسك، وأصبحت بتلك المعرفة أسعد إنسان.
ولكن من لك بهذه المعرفة، وبهذا التحديد، وقلوب الناس كافة كأمواج البحر في البحر: تظهر كل واحدة قائمة بنفسها في رأي العين، وهي راجعة في جميعها إلى أصل واحد، هو هذا السيال المتحرك الذي يتضرب بعضه في بعض ليوجد الأمواج ويفنيها.
ما أراني أعرف بعد طول الفكر سببا للشقاء الإنساني، يجمع كل ضروبه إلا سببا واحدا؛ هو أننا معدون لكل الحالات المختلفة التي تطرأ على الحياة بقلب من نوع واحد، فإذا استطعنا أن نجعل ظواهرنا موضع الترتيب، فإن بواطننا أبدا موضع الاختلاط، والألم والنكد! •••
ولما رأيت حيرة الطفلين ضممتهما إلي، وألهيتهما عن كآبة القلب بسرور البطن، فدفنت كل آلامهما في بعض قطع من الحلواء؛ فطعما واستضحكا، وتطعما الحياة جديدة آمنة.
والطفل لا يعرف مستقبلا ولا ماضيا، وما هو إلا حاضره؛ فإن عييت بأمره فأوجده ما يلهو به، فهذه هي سعادة الطفولة، ولقد سرهما من الأديب السكير الذي كان إلى جانبي أضعاف ما سرهما من الحلواء، بل كان زيادة في حلاوتها؛ فحسباه يتعمد بسطهما، وإيناسهما بحركاته وبكلامه الذي يطن في السماوات الزجاجية؛ فكانا يضحكان منه، وكلما تكلم أو أشار أو تحرك أو أنكر عليهما، استخرج بذلك منهما مثل تغريد العصافير؛ فكانت كل الفائدة من سقوطه، وضياع عقله أنه أضحك طفلين!
وقدرت في نفسي أنهما من هذا الشارع الذي نحن فيه، أو من فصيلته في الطرق التي تخالطه أو تقاربه، وقلت إن أهلهما على أثرهما؛ فجعلت أستأني وأنتظر، وبينما نحن على ذلك، إذ ارتفع سواد مقبل كأنه روح ليلة مظلمة تغشى الطريق؛ فتبينت فإذا امرأة تهفو كذات الجناحين، وكأنها تنساق بقوة تحترق في داخلها، ثم أخذتنا عيناها فإذا هي أم الطفلين، تبدو من لهفتها، واستطارتها لولديها كأنما تحاول أن تخطفهما من بعيد بقوة قلبها، وما عرفت أنها هي إلا بأن روحها كانت منتشرة على وجهها، ملموسة في نظراتها إلى الصغيرين، لها هيئة هيئة أم
12
وضعت الجنة تحت قدميها، فترى في وجهها معاني ليست من هذا العالم، وليست من الجنة نفسها؛ إذ تزيد على كل مسرات الدنيا هناءة الاطمئنان السعيد المفاجئ الذي لا يكون في الحياة إلا هنيهة ثم ينقطع، وتزيد على ما هناك هذه اللهفة اللذيذة التي لا توجد إلا هنا على أرض حينما تفجأ السعادة بعد شقاء لا يحتمل.
إن من لم ير أما أشفى طفلها على الموت في حادثة أخذته بغتة، ثم نهض سليما معافى، أو ضل عنها مدة حتى يئست منه، ثم اهتدت إليه؛ لا يكون قد رأى شيئا من سعادة الإنسانية العالية النادرة التي لا تكون إلا في الأمهات خاصة، ولا يشهدها الناس إلا في ساعة حرجة، تلمس فيها يد الله قلب الأم! •••
وهل الطفلان
13
لما أبصرا أمهما، ونفضا أيديهما نفض الأجنحة، ثم أكبت هي عليهما بجسمها، ومدامعها، وقبلاتها، والتحما بها التحام الجزء بكله، واشتبكت الأذرع في الأذرع حتى لا تفرق بين ثلاثتهم في معاني الحب إلا بالكبر والصغر، ورجعت معهما طفلة كأن تاريخها ابتدأ جديدا في ساعة من الساعات الفاصلة التي يتحول عندها التاريخ.
وإذا كانت القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها، فلقد كانت هذه القلوب الثلاثة في تلك اللحظة تنطق وجوهها بأنها في يد الله يهزها هزا! ولكم وددت لو أستطيع أن أخلط بها قلبي المسكين في لمسة واحدة ليشعر ولو لحظة في هذه الحياة أنه سما بروحه فوق العالم كله!
لو أصابك الهم لحبيبك إذ تراه مهموما متألما لذقت أحلى أنواع الآلام السعيدة؛ فكيف بك لو تبدل همه بغتة، فأقبلت عليك قبلاته وضحكاته تزحزح عن قلبك ناموس الكآبة؟
الحب! وما الحب إلا لهفة تهدر هديرها في الدم، وما خلقت لهفة الحب أول ما خلقت إلا في قلب الأم على طفلها ترأمه وتحنو عليه، ولن يحفظها للعالم إلا هذا القلب نفسه. ولقد يكون عمر الطفل يومين، ولكن لهفة أمه عليه، وحفظها إياه حفظ عينيها، تجعل له من الحب عمرا متطاولا، ولا يقاوم به الأقدار العادية عليه في مسارحها، ولولا ذلك لحطمته هذه الأقدار كما تحطم كل طفل أهمله ذوو عنايته،
14
فلهفة الأم على طفلها كأنها قوة سنين عددا في جسم هذا الطفل، ومن ثم لم يكن الحب الصحيح في أسمى مظاهره إلا حب المرأة لبني بطنها،
15
وإنما يسمى غرام العاشقين حبا؛ لأن في العاشق دائما مع حبيبته أكبر معاني الطفولة، وفي العاشقة دائما مع حبيبها أصغر معاني الأمومة.
وما كان هذا الغرام ليسمى حبا لولا ذلك، ولولا أن في اللغات لصوصا من الألفاظ تسرق معاني غيرها ...
حب الأم في التسمية كالشجرة: تغرس من عود ضعيف، ثم لا تزال بها الفصول وآثارها، ولا تزال تتمكن بجذورها، وتمتد بفروعها، حتى تكتمل شجرة بعد أن تفني عداد أوراقها ليالي وأياما.
وحب العاشقين كالثمرة: ما أسرع ما تنبت، وما أسرع ما تنضج، وما أسرع ما تقطف! ولكنها تنسي الشفاه التي تذوقها ذلك التاريخ الطويل من عمل الأرض، والشمس، والماء في الشجرة القائمة.
لا لذة في الشجرة، ولكنها مع ذلك هي الباقية، وهي المنتجة، ولا بقاء للثمرة، ولكنها على ذلك هي الحلوة، وهي اللذيذة، وهي المنفردة باسمها.
وهكذا الرجل: أغواه الشيطان في السماء بثمرة فنسي الله حينا، ويغويه الحب في الأرض بثمرة أخرى فينسى معها الأم أحيانا! •••
وذهبت المرأة بالصغيرين بعد أن شهدت منها ومنهما مواقع رحمة الله في القوى المسكينة التي لم تجئها المسكنة إلا من كونها أطهر القوى وألطفها، وانفجر قلبي آلاما وسرورا ورحمة في ساعة واحدة، ثم كاد ينفجر آخر الأمر من الضحك ... حين أراد الطفلان أخذ الأديب السكير معهما؛ لأنه مضحك!
هوامش
الفصل السابع
الشيخ علي
وكأنما أنظر الآن في قلب رجل لا في وجهه، إذ تهلل على السحاب وجه «الشيخ علي» شيخ المساكين.
1
أراه كما كنت أعرفه ضاحكا غير الضحك الذي يلبس وجوه الناس، فلا يضحك لشيء إنساني، بل ما هو إلا أن تراه قد تهلل فرفع وجهه إلى السماء، وأرسل من فمه مثل نور التسبيح في إشراق جميل، حتى لقد كان يخيل إلي حين أبصره على تلك الهيئة أنه لا يضحك، ولكن قلبه يرتعش بعضلات وجهه!
لو أراد الله بالناس خيرا لوضع في أبصارهم أشعة تنبث في أطواء القلوب؛ فتعرف ألوان العواطف، وتميزها لونا من لون، ولكنه جعل الوجه غطاء على معاني القلب، ثم سلط الفكر على معاني الوجه ومعارفه، يصور فيها ما شاء مما له أصل في الحس، وما لا أصل له حتى ليختبئ الإنسان عن الإنسان، وهو مكشوف لعينيه ... وإذا كان الله سبحانه قد أوجد الخير والشر صريحين، فقد أوجد الإنسان ثالثا لهما، وهو تلبيس أحدهما بالآخر، وأراد الخالق ذلك، ويسره للإنسان، فجعل فيه آلة واحدة للصدق، وهي القلب، وآلتين للكذب: وجهه، ولسانه! •••
كان «الشيخ علي» يشبه إنسانية قائمة بغير إنسانها، على حين ترى أكثر الناس كأنه إنسان قائم بغير إنسانيته،
2
وكانت الدنيا كأنما نسيت أنه فيها، فتركت له روحه صافية منطلقة، تتطعم الحياة غير مستقرة في شيء، كما يتطعم النسيم رائحته من ورق الزهر؛ فهو يتسحب عليه، ولا يستقر فيه، ولو أنه ورق الزهر.
وما زالت روح هذا الرجل مني منذ عرفته كأنها نضاحة عطر،
3
تمج رشاشها على حياتي روحا وعبيرا وندى، وكأن الرجل طفل عزيز من أطفال قلبي، يملأ ما حوله ابتساما، وطفولة، ورقة، ولو أن أحدا خلق من عيني الطفل الضاحكتين لكان هو «الشيخ علي» رحمه الله، على أنه كان رجلا من سوسه القوة، معصوبا متكدسا،
4
يملأ جلده جذل من أجذال الشجر.
5 ••• ... وانقبضت نفسي انقباضة شديدة، إذ تغير الرجل في خيالي؛ فنظر إلي نظرة ينقدح منها شرر الغيظ، فلو أبصرت عيناك طائرا ضعيفا أراغه نسر، فاستطرده في نواحي الجو هكذا وهكذا،
6
ثم أهوى له بمخالبه، ثم سدد إليه نظرة غرزت هذه المخالب، وانفجرت بآلام لحمه ودمه - فاعلم أن تلك هي كنظرة الشيخ إلي، ولقد تبعثرت لها شياطين نفسي، فانطلقت يحاول كل شيطان منها مهربا، وكانت توسوس في صدري أن أستمد من روح الشيخ قوله في الحب، هذا الحب الذي مهما اعتبرته لم تجده إلا كإحياء الخيالات بقتل حقائقها. ... ثم ما لبث أن استضحك، وأطلق لي نفسي، وجاشت عيناه بنظراتهما الحكيمة، فقلت: ويحك يا نفس! إن عين الشيخ ترى من الجمال غير ما نرى، ثم تعلم علمها مما نظرت فيه، ثم تقدره على حساب ما تعلم منه؛ فما يدرك لعل هذا الرجل الروحاني لا يرى إلا ما وراء تلك البشرة الجميلة التي تكسو وجوه النساء الجميلات، كما نبصر نحن من وجوه الموتى، وقد تأكل جلدها، وتناثر لحمها، وبرزت عظما كسائر العظم من كل حيوان؛ فلا موضع قبلة، ولا سحر نظرة، ولا إشراق بسمة، وما هو إلا تركيب من العظم صنع هذه الصنعة؛ تيسيرا لما خلق له ... ولعله يا نفس لو حشر الله لعينيك أجمل الجميلات في صعيد واحد، وحشر معهن إناث البهائم صنفا صنفا، ثم نزع عن تلك الوجوه كلها ذلك الطراز من الجلد، وما وراءه من اللحم مزعة بعد مزعة،
7
حتى لا يبقى إلا الوضع في بناء العظام وهندستها؛ فما يدريك لعل أجمل الجمال عندنا هنا لا يكون حينئذ إلا أقبح القبح هناك؟
أفمن جلدة على وجه امرأة يجيء الشعر والجنون معا، ويجتمعان في هذا الخيال الذي يسمى الحب، ويستنزلان معاني التقديس من أعلى السماوات إلى عين تلحظ لحظة، وشفة تبسم بسمة؟
إنه القلم الإلهي المبدع الحكيم هو الذي صور ولون، وافتن ما شاء؛ فإن رزقت امرأة جلدة جميلة مشرقة كأنما تجري فيها الشمس، وألبست أخرى جلدة قبيحة سفعاء،
8
تجول فيها رهبة الظلمة؛ فكلتاهما صبورة من صنع الله، وكلتاهما تظهر لونا من ألوان الحكمة، وكلتاهما جاءت لمعنى، وكلتاهما بعد غشاء زائل على وضع ثابت لا يختلف في هذه، ولا في تلك: وضع الحقيقة الجسيمة التي تحمل الحياة بأدواتها الكثيرة، والحياة لا تعرف البشرة إلا غطاء على ما وراءها، اسود أو ابيض، وكان من لون المرمر، أو من هيئة الطير!
ولو أن كل وجه في نساء الدنيا خلق دميما نافرا على أبشع ما نتصوره من القبح، لكان كل نساء الدنيا جميلات؛ إذ يألف الطبع الإنساني تلك الصورة الواحدة، ويتقرر بها الذوق في الجمال، وتستمر بها العادة، فلا يستبين وجه من وجه آخر في صفة، ولا يخالف مذهب مذهبا في حالة.
ولكن هذا الإنسان كتب عليه الشقاء، فخلق وخلق معه ما يطغيه، وما يستفزه، وما يخرجه عن طوقه، كما خلق له ما يزهده، وما يطمئن به، وما يحصره في إنسانيته. فالجميلات والقبيحات كلهن سواء في أنهن نساء هذه الإنسانية، لا تقصر في ذلك واحدة عن واحدة، وإنما يتفاوتن في أسباب الشقاء الإنساني الذي يبتلي الرجل بالمرأة، ويمتحن المرأة بالرجل.
ولو سما عقل الرجل إلى الغاية العليا من كماله؛ لرأى المرأة الجميلة الفاتنة في نصف جمال المرأة القبيحة، ولبانت الواحدة عنده من الأخرى بأن الدميمة مهيأة في نفسها لمعاني الأخلاق، والجميلة مهيأة لسفسافها،
9
ولرأى مع هذه بعض طباعها، ونزغاتها شرا مما تقدم بها من جمال وجهها، ومع تلك من أكثر طباعها، وصفاتها خيرا مما قصر بها من حسن صورتها.
بيد أن من شقوة الطبع الإنساني أنه سخط القبح فأحاله فسادا، وعبد الجمال فأحاله فسادا من نوع آخر؛ إذ كان في نفرته وحبه لا يعتبر المنافع والحقائق، ولكن الأهواء والشهوات، والمنفعة والحقيقة كلتاهما لا تكون إلا في قيودها، أما الأهواء والشهوات فهي دائما لا تقع إلا متخطية حدود العقل، إما إلى النقص، وإما إلى الزيادة، ولا تغري بشيء إلا أوقعت به السوء، إذ لا يستوي في القصد ما خرج عن الحقيقة، وما هو مقيد بالحقيقة. •••
كان هذا وحي «الشيخ علي» في نفسي، غير أني رددته عليه، وأزلني شيطان الحب مرة أخرى، فقلت: أفترى الشوهاء على ما بها مما ركع للدهر وسجد،
10
ثم تلك المرأة التي سمج تركيبها فتحامتها العيون، ثم الأخرى التي قمعت في بيتها تختبئ فيه من القبح؛
11
فصارت سرا في صدر الحيطان، ثم تلك التي تلوح في النساء كالسطر المضرب عليه أفسده الخطأ، ثم المهزولة التي أدبر جسمها،
12
وتقبضت أعضاؤها، وأصبحت جلدة تمشي وتتكلم ... أفترى هؤلاء أو إحداهن كتلك الغانية المتشكلة في ألوان الثياب كأنما تلبس بدنها الجميل بدنا معنويا يدل على معانيه، أو الأخرى التي تظهر في جمالها الفتان عاطلة من كل حيلة، ومع ذلك ترف على حسنها روح الياقوت، والألماس، واللؤلؤ مما عليها من البريق والشعاع، أو المطوية الممشوقة المسترسلة، كأنها في قوامها ووجهها غصن الجمال وزهرته، أو الحسناء اللعوب المزاحة، كأنما اجتمعت طباعها من نور القمر أطل في ليلة من ليالي الربيع يداعب أوراق الورد النائمة، أو ... أو تلك يا شيخ علي ...؟
قال الشيخ علي: فيا ويلك! إني والله بك من رجل لخبير،
13
أفمن أجل واحدة؟ أما إنه لعل الذي جعلها حقا عندك هو الذي يجعلها باطلا عند سواك، ولعله ما حسنها في عينك إلا أن طبعا من الجد فيك استملح طبعا من الهزل فيها، كما ترى معنى مكدودا في إنسان يستروح إلى نقيضه في إنسان آخر. ولعل من أمتع اللذات وأبهجها لقلب المهموم أن يتصور في همه من يعرفه طروبا فرحا، وإن كان كلا الرجلين لا يسكن لعشرة الآخر لو تعاشرا واختلطا. وهذه القلوب لا تؤتى من مأتى هو أدق وأخفى من توهم ما فيه اللذة؛ فإن النفس ترجع عند ذلك بكل حقائقها إلى نوع واحد من الوهم، ينصرف بها إلى تمثل هذه اللذة التي استشرفت لها، وطمعت فيها، فإذا طعمها في الدم يهيج له سعار
14
الجوع العصبي ... وما هي السرقة مثلا إلا أن يضع اللص عينه على المال أو المتاع، ويتذوق طعم اليسر والفائدة، فتجن أعصابه جنون الحاجة، فلا يرعوي إلى شيء من الرأي يزجره، أو يمنعه، أو يكفه، ويكون في الحقيقة سارقا من قبل أن يسرق، وكذلك يكون الفاسق متى نظر إلى المرأة واشتهاها، ونبه معانيها في نفسه، وقل مثل هذا في كل من طار قلبه، وطار صوابه.
أله عن وهمك يا بني، وضع الأمر على قاعدته، وسدد نظرك إلى حقيقته، ودعني من حبل الباطل الذي تجر فيه شيطان هواك، أو يجرك هو فيه، وما تتكلم عن اثنين من الخليقة: أنت، وهي، ولو أن الأمر قد انحصر فيكما، وفنيت بالحب فيها لكانت هي الكون كله، ولو فنيت هي فيك لكنت أنت ذلك الكون، وهذا - حرسك الله - موضع النقص في النفوس العاشقة؛ إذ تنقطع إحدى نفسين من العالم إلى نفسها الأخرى: وهو نقص أشبه بجنون المجانين، بل هو متمم له؛ فإنما ذهاب العقل في المجنون المختبل هو نصف الجنون الإنساني، أما النصف الآخر فهو تجرد العقل في العاشق المتدله.
نصف الجنون في العاشق الذي يتجرد من الناس إلا من أحب، ونصفه في المعتوه الذي يتجرد من الزمن إلا الحاضر!
إنه ليس للمجنون عند نفسه ماض ولا مستقبل؛ إذ لا يأمل هذا، ولا يذكر ذاك، وكل سعادة نفسه في هذا النسيان الذي طمس عليها، وتركها كأنما تعيش في غير عمرها، بل في كل أعمار الإنسانية، بل بغير عمر، وكذلك ليس للعاشق مع الحبيب شخص آخر ممن مضى، وممن يأتي، مادام الحب قائما؛ فالحبيب هو الحبيب، وكل الناس بعده أدوات، وشخص واحد هو الألف واللام، والحاء والباء، والناس جميعا نقطة صغيرة ملقاة تحت الباء فقط ... (قال الشيخ علي): ثم يبرأ المجنون، ويثوب إليه عقله؛ فيعرف أنه كان مجنونا، ويبغض المحب، أو يسلو ويبرأ من وهمه في تلك المرأة، فلا يرى إلا أنه كان بها مجنونا، أفلا يكفي هذا - ويحك - في الدلالة على أن الحب والجنون من أم واحدة وإن اختلف أبواهما؟ ... وإن رأي العاشق في كل النساء كرأي المجنون في كل الناس: لا يجوز أن نأخذ بواحد منهما إلا إذا أخذنا بالآخر، وأقررناه في باب الصواب والعقل؛ إذ كلاهما حاصل من حالة متى تغيرت فانقلبت اعترف صاحبها عليها بالجنون، وإن كانت إحدى الحالتين في طبيعتها، ووصفها غير الأخرى؟ ويلمه وصفا من العاشق لو كان مع صاحبه رأي وويلمه
15
رأيا من المجنون لو كان مع صاحبه عقل! ••• (قال الشيخ علي): سئل الحلاج
16
وهو مصلوب يعاني غصة الموت: ما التصوف؟ فقال لسائله: أهونه ما ترى ... فهذا رجل يموت في سبيل حقيقة تقتله بغموضها السماوي العجيب، وعلى أنها قد دقت المسامير في أطرافه، وجمعت لموته آلام الحياة كلها، وأنبتت في كبده من وخزات الجوع شجرة من الشوك، وأطلقت في عروقه من لذعات العطش لهيبا من النار، وتركته على صليبه ممدودا تتساقط نفسه كما ينشر الثوب الذي بلي وانسحق، فهو يتمزق من كل نواحيه؛ على هذا البلاء كله، لم تتغير الحقيقة في رأي الرجل، ولا فساد موضعها في نفسه، ولا أرى ما يكرهه الناس من الألم مكروها في ذاته فيميل عنه، ولا ما يحبونه من اللذة محبوبا فيميل إليه، ولا تسحب قلبه حركة واحدة في السخط على الحكمة الإلهية فانتقصها برأي، أو اغتمز فيها بكلمة، بل نظر نظرة الحكيم من وراء الحد الإنساني المنتهي فيه، إلى ما يبدأ عنده الحد الإلهي الذي لا ينتهي، ورجع آخره إلى أوله، فكأنما يقول بلسان حكمته فيما نزل به: اللهم إنك بدأتني طفلا غرا جعله فقدان العقل لا يملك مع أحد إلا صياحه، فخذني إليك طفلا عاقلا جعله العقل لا يملك مع أحد، ولا صياحه!
واذكر الطفل يا بني، فرب معضلة من أمور هذه الدنيا يحار الناس في آخرها، وهي محلولة من أولها. وما هؤلاء الأطفال إلا الأساتذة الذين يعلموننا وهم يتعلمون منا؛ غير أننا لا نأخذ عنهم فلا نصلح، ويأخذون عنا فيفسدون! أفرأيت ولد الشوهاء تعرف عيناه في كل ما طلعت عليه الشمس أجمل من وجه أمه، أو يرى طائلا في وجه سواها، أو يحن إلى غير طلعتها، أو يسكن إلى صدر غير صدرها، حتى كأن الله لم يخلق وجه حبيب لقبلات محبه إلا وجهها هي لقبلاته؟
17
إنه في ذلك ينظر من ناحيتين؛ الأولى: ناحية صفاته هو، فإن القلب إذا لم يكن بهيميا منعكسا أشرق صفاؤه فيما حوله؛ فلا يرى إلا خيرا، ولبست المرئي صفة الرائي فلا ينظر إلا جمالا، واتصل الشعور الطيب الرقيق الجميل بين نظر النفس وبين ذات النفس، كما يصل الشعاع الذي يلقى على حائط من المصباح بين هذا الحائط وبين المصباح، فيغشيه النور وإن كان الحائط نفسه من الطين ... فإذا كان القلب بهيميا زائغا عن الإنسانية إلى حيوانيته، استفاضت ظلمته وشهواته على ما حوله، فلن يشهد من صفات الجمال شيئا، بل يرى في كل شيء من صفات نفسه هو؛ حتى ليكون الوجود كله في عين بعض الناس كما يكون الطعام كله في فم المريض ... ومثل هذا يعشق أجمل النساء فلا يرى فيها جمالا ألبتة، وإن هو خدع نفسه في ذلك، واختدع الناس، وإنما يرى شهوات، شهوات جميلة ليس غير!
أما القلب البهيمي غير المنعكس - وهو ذاك الذي تحمله البهائم، فلا يحتمل فيه عقل، ولا يحتشد فيه خيال، وما هو إلا أن ينصب الحيوان به على محض المنفعة؛ لأنه عامل في الطبيعة، يعد من عمالها لا من شعرائها - فليس عنده جمال يقع في ظاهر الروح، وآخر يقع في باطنها، وثالث متوهم لا يقع ولا يمتنع أن يقع،
18
وليس يعرف من معنى القبح إلا أن تكون الأنثى قد طاش بها المرض، فما تستقل إعياء وضعفا، وبذلك سلمت إناث البهائم من شر كثير يملأ لغة الحياة النسائية بمعانيه، وتجمعه كلمتان: الجمال، والقبح!
والناحية الأخرى التي ينظر منها الطفل لأمه الدميمة الشوهاء، ناحية الصفات الإلهية، فإن الحب الصحيح الذي يمكن أن يسمى حبا، لا يكون فيما ترى من لون وشكل وتركيب وتناسق، وغيرها مما يظهر البشرية على أتمها، وأحسنها في الشخص المحبوب كما يظن الناس خطأ، بل هو في عكس ذلك، أي فيما يخفي البشرية بمحاسنها وعيوبها جميعا، ويظهر في أمكنتها خصائص الروح المحبوبة وحدها؛ فمن ثم يبدو لك شخص المحبوب على أي أشكاله وهيآته كأنه تمثال سماوي وضع لروحك خاصة، فهو مجبول من مادة واحدة، هي مادة الفتنة، ولو كان في أعين الناس كافة تمثال الأرض السفلي، يصور كل ما تشتت فيها من القبح!
فإذا لم تظهر لك خصائص روح المرأة ظهورا يستفيض على وجهها وجسمها، ويجعل كل شيء فيها ذا معنى منه، وكل معنى منه ذا معنى فيك، فما أنت من حبها في شيء ولو ذهبت من جمالها بعقول الناس، ولا هي عندك من الجمال في شيء، ولو كانت في النساء كليلة البدر في الليالي، ومن أجل ذلك لا يخلو الحب من بعض معاني الوحي، ولا تخلو الحبيبة من بعض المادة الملائكية
19
في النفس التي تعشقها، وهل ملك الوحي إلا قوة المزج السماوي في نفوس الأنبياء، وهل روح الحبيبة إلا على قدر من مثل هذه القوة في نفس محبها؟ ولعل هذا يفسر لك سرا من أسرار احتراق في بعض الأرواح العاشقة التي تيمها الحب؛ فإن تلك القوة المزجية متى أفرطت على نفس رقيقة حساسة أذابتها، واشتعلت فيها فأكلتها أكل النار للهشيم، وتركتها تحترق أسرع ما تحترق لتنطفئ أسرع ما تنطفئ! ••• (قال الشيخ علي): تلك هي الحقيقة يا بني، فلن يأتي لكائن من كان أن يقسم النساء إلى جميلات وقبيحات، إلا إذا طوى في ذلك معنى القسمة إلى شهوات جميلة، وشهوات قبيحة، ومتى انتهينا إلى هذا فقد خرجنا إلى المخاطبة بلغة لا هي من لغة البهائم، ولا هي من لغة الإنسانية.
أفرأيت قط ألفاظ الجمال والقبح تشيع في أمة من الأمم، وتعلو بالأعين عن النساء، وتنزل،
20
وتمتد بها وتنقبض، إلا أن تكون أمة ضعيفة القوة قد اختلت أجسامها، أو ضعيفة الدين قد اختلت أرواحها؟
انكشف القمر ذات ليلة لرجل اسمه «من عباد الله المقربين»
21 ؛ فإذا البدر أسود كالحبر، وإذا مكتوب في وسطه بالنور: «أنا وحدي»؛ فالقمر نفسه لم يمنعه كل ضياء الشمس عليه أن يسود في عين الرجل الكامل الذي ينظر لروحه، فما الذي يمنع من ينظر لروحه وخصائصها أن تصير المرأة القبيحة في عينه كالقمر الأزهر؟ •••
في البدر ظهرت كلمة الألوهية «أنا وحدي».
في وجه الحسناء تقرأ كلمة الألوهية «أنا وحدي».
فهل يمكن أن تقع الدميمة من الحسناء أقبح ما يقع ظلام القمر من نوره، فلا تكون في وجهها هي أيضا كلمة الألوهية «أنا وحدي؟». •••
لم يبق في البدر مع الحكمة العليا شيء يسمى الجمال، ولا المرأة الحسناء يكون فيها شيء أجمل من القمر؛ فهي مثله ليس فيها مع تلك الحكمة شيء اسمه الجمال؛ أفيمكن أن يكون مع الحكمة نفسها في وجه القبيحة شيء اسمه «القبح؟». •••
القمر طالع مشرق كما كان.
والجميلة الحسناء لا تزال فاتنة.
والدميمة ظاهرة كما هي.
لم ينقص الكون من ثلاثتها شيء.
ولكن أين أعين الرجل الكامل؟.
هوامش
الفصل الثامن
الشيخ أحمد1
والساعة أرى سحابي أصفى ما تمثل لي وأرقه، كالسماء في صبيحة سارية
2
إذا غسلها الليل، وأصبحت لابسة حريرها من شفق الصبح الأحمر، وأراني أنظر إليه، وأهتف له، وأستشرق في ضوئه، كالطائر: لا يسعه جلده مرحا، وتقلبا، وحنينا متى أصبح من الليلة الممطرة إصباح الشمس، بعد أن أباته بيته كأنها في عش السحاب.
وأشرق عليه صديقي هذا ، ولا ومصرف القلوب،
3
إن ذكرته منذ لحق بربه إلا أخذني من الحنين إليه ما لا يكون مثله لصديق ميت، بل لحبيب هاجر يشعرك موت الأيام كيف يكون.
كانت صحبته إياي من أطراف الطفولة إلى آخر الشباب إلى تخوم الكهولة، وهي أيام شبع العمر، لا يطعم فيها من شيء إلا طعم من لذة، وما بعدها من تقاصر الحياة، واختلالها إلا كأيام سوء الهضم؟
إذا كان في امرئ من الناس باق بعد شبابه، فما أشبه هذا الباقي في جانب ما قبله بنواة الثمرة الحلوة من لبابها: تنتهي فيما تأكل إلى النواة، ولكن بعد أن يكون أطيب ما في الثمرة قد انتهى، وتفضي مما ينعصر في الريق حلاوة، ويسيل في الحلق لذة إلى بقية من الخشب رطبه أو يابسه، فلو كانت النواة من الذهب ما رجعت لك من ثمرتها رجعة.
4
يا أيام الشباب! أنت وحدك نور الحياة؛ لأنك منذ الفجر، وأنت وحدك نهار العمر؛ لأنك إلى أن تصفر الشمس، وليس وراءك إلا كآبة الليل تتقدم ليلها باسمة في شفق المغرب!
يا أيام الصبا! أنت وحدك الحب؛ لأن فيك ما في العيون الحبيبات، أشخاصا روحية ظاهرة بمعانيها الفتانة، فهي تلقي أشعة الجمال على كل ما تنظر إليه.
يا أيام الرجولة الأولى! إن في زمنك وحده تحل السعادة في العقل، إذ يكون العقل في عهدك ما يكون الطفل في عهده: لغته تجري من معاني الدموع والابتسام والضحك، ولا يستدير به إلا الأفواه الحبيبة التي تقبله أكثر مما تزجره، وحتى لو ضرب لكان الضرب سببا من أسباب تقبيله فيما بعد ...
يا أيام الشباب! أنت وحدك العمر، ومن بعد الشباب كل شيء يكون ففيه من الماضي فعل مستتر تقديره: كان! •••
يرحمك الله يا صديقي الكريم، تركتنا مصعدا إلى الله في سلم كانت الأولى من درجاتها عتبة هذا البيت في مصر، وكانت الأخرى تلك العتبة الطاهرة من بيت الله في مكة.
وذهبت عنا، وما علمنا أنك طائر يغطي تحت ريشه سر الجاذبية العليا.
واستودعتنا الله واستودعناك؛ فاشتبكت دموع في دموع، وما حسبنا أن أرواحنا تقيم من ذلك مناحتها قبل الفراق الأبدي.
وخاطبناك عند البين وخاطبتنا، وما عرفنا أن السماء كانت وقتئذ تكلم الأرض من شفتيك بألفاظ لها ما بعدها.
ونظرت إلينا طويلا تلك النظرة التي لا تكون إلا ممن يعرف حتى لا ينكر شيئا، أو ممن ينكر حتى لا يعرف شيئا، فإذا أنت تنكر من أعماق الأزل في تراب هذا العالم، ونحن لا ندري.
وسألنا الله أن يردك علينا أيها العزيز، فأثبت لنا أنك من أعز ما في الحياة حتى سقط دونك الأمل، فلا يتمثلك إلا الفكر وحده. •••
وذهبت إلى بيت الله متجردا من الدنيا ليس لك منها إلا جسمك؛ لتخف إلى محبته ورضاه، فلما شاهدت التجلي الأعلى تجردت من جسمك أيضا، واتصلت بنوره - سبحانه وتعالى - فلقد خلعت الدنيا مرتين، ومات بعضك في مصر، وباقيك في الحجاز، وخلصت روحك إلى ربها كما تخلص الجوهرة صافية متلألئة بعد استخراجها من معدنها مرة، وصقلها للرونق مرة أخرى.
وأبى الله لروحك الطيبة إلا أن تمر في بيته قبل أن تمر إليه، فتسبح في نور الملائكة، وتتنسم ناحية مهبها وهي تصعد أو تنزل بالرحمة على الحجيج،
5
وتستضيء بتلك الشعلة القدسية التي أضاءت في الكعبة من وجه رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ثم من سرائر أصحابه الطيبين، ولا يزال ضوؤها هناك كضوء الكوكب ملتمعا في سواد الحجر الأسود. •••
واختار الله لك بعد إذ انغمست في نوره أن تصعد إليه فلا ترجع من ذلك النور الأزلي إلى ظلام الدنيا، ولا تعود من النبع السماوي إلى حمأة الأرض، ولا تحل في بيت من بيوت الخلق بعد بيته هو، عز وجل!
واختار لك ما عنده على ما عندنا؛ فما في أيام هذه الحياة إلا غبار يثور على غبار، ولا في الناس إلا أحجار تتحطم على أحجار، ولا في أخلاقهم إلا أقذار تنصب على أقذار، ولا بين الحوادث والناس إلا كما بين الرياح والقفار، ولا بين الإخوان والإخوان إلا كما تجمع الأصفار من الأصفار ...
واختارك الله إذ اختار لك فما تركت (يرحمك الله) إلا علانية مشهودة، وسريرة محمودة، وآثارا في الصالحات معدودة، وأفراخا في شجرة الحياة كصغار الطير إذا رأت أباها فارق عوده.
يرحمك الله، إن أول ما يشهد لك عند الله كعبته؛ إذ كانت آخر ما عرفت من الدنيا، وإن الذي يدخل السماء من باب الكعبة لحقيق أن تضع له الملائكة أجنحتها: سلاما وتحية؛ فهنيئا لك إذ فتحت باب السماء بتلك القبلة الزكية التي وضعتها على أستار الكعبة، وهنيئا لك إذ ذهبت لتقول: «لبيك اللهم لبيك»؛ فانطلقت روحك الطاهرة فيها، وكانت أول كلماتك في السماء! وهنيئا لك، ثم هنيئا إذ قطعت البحر والبر إلى خير بقاع الدنيا لتقول لله من هناك: ها أنا يا إلهي. •••
إن الحقيقة لا تسأل كيف يحيا الحي، ولكن كيف يموت، ولا تتعرف ما قدرته على الإقامة، ولكن ما قدرته على الرحيل، ولا تبالي ما قوته على الرسوخ كالجبل، ولكن ما قوته على الوثوب كالطائر! فهناك بين حدود الدنيا وحدود الآخرة موضع هاو لا يتخطاه إلا ذو جناحين، قد اشتد كل منهما ووفى.
6
وهناك متى انتهى الإنسان وجد عقله وضميره قد امتدا من جانبيه كالجناحين، ورأى كل عمل من أعمالهما - في السيئة والحسنة - إما ريشة قد نسلها من جناحه، وإما ريشة قد أنبتها فيه.
القدرة على جو السماء في جناح الطائر، وفي ريش هذا الجناح، وفي قوة هذا الريش، والقدرة على السماء نفسها في عمل الإنسان، وقيمة هذا العمل، وصحة هذه القيمة. •••
لسنا نبكي عليك أيها العزيز، وإنما على أنفسنا؛ فإن ما أمامنا لا يمكن أن يكون دنيا غير الدنيا، يفتح لها تاريخ غير التاريخ، والحقيقة التي ضمتها ملايين «المجلدات» المحفوظة في القبور،
7
هي هي بعينها لن تتغير ولن تتبدل؛ فإذا بكينا الميت فما بكينا ذهابه عنا، ولكنا نبكي لبقائنا بدونه، كما اجتمع نفر من الغرباء في البلد النائي فيخترم أحدهم،
8
فما يرونه إلا معنى من أنسهم قد زال، وركنا من قوتهم قد مال، وجانبا من نظامهم قد أفسده الاختلال! وما دام في الأرض باك على ميت ، فالأرض دار الغربة لكل من عليها، وهي لن تكون وطنا لمن سيفارقها إلا إذا عد بطن الأم وطنا لابنها.
من وطن الأشهر المعدودة ينحدر الإنسان إلى وطن السنين المعدودة؛ أما الأزل والخلود، والوطن الإنساني الكبير، فهناك هناك حيث لا تساوي كرة الأرض بما فيها أكثر مما تساويه ذرة من التراب تصعد أو تهبط.
وهذا الذي نكرهه عقلا من أمر الدنيا الذي نرانا مضطرين إلى أن نعقله كرها شئنا أو أبينا.
فابكي أيتها الأعين الإنسانية، وتهيئي للبكاء ما دمت باقية؛ إن تيار هذا البحر الذي تنصب فيه الأحزان لا يعب من دموعنا
9
التي نبكي بها المكابدة الموت، ولكن من دموعنا في منازعة البقاء. •••
لهفي لذكراه صديقا كانت لنفسه العالية كالنجمة وهبت قوة النزول إلى الأرض، وحبيبا لو انقسمت روحي في جسمين لكان جسمها الثاني.
كان دائما كالذي يشعر أنه لا بد ميت، وتارك ميراث مودته، فلا أعرف أني رأيت منه إلا أحسن ما فيه، وكأنما كان يضاعف حياتي بحياته، ويجعلني معه إنسانين.
وكان له دين غض كعهد الدين بأيام الوحي؛ لا تزال تحثه رقة قلب المؤمن، وفوقه رقة جناح الملك يخالط نوره القلوب.
وكان حييا صريح الحق، ترى صدق نيته في وجهه، كما يريك الحق صدق فكره في لسانه؛ ساميا في مروءته ليس لها أرض تسفل عندها،
10
وإنما هي إلى وجه الله فلا تزال ترتفع؛ ودودا لا يعرف البغض، محبا لا يتسع للحقد، ألوفا لا يسر الموجدة على أحد!
وكان رحيب الصدر كأن الله زاد فيه سعة الأعوام التي سينتقصها من حياته، ففي قلبه قوة عمرين، وكان طيب النفس، فكأن الله لم يمد في عمره طويلا؛ لأنه نفى منه الأيام الهالكة التي يكون فيها الإنسان معنى من معاني الموت.
11 •••
آه لو عرف الحق أحد لما عرف كيف ينطق بكلمة تسيء، ولو عرف الحب أحد لما عرف كيف يسكت عن كلمة تسر، ولن يكون الصديق صديقا إلا إذا عرف لك الحق، وعرف لك الحب!
لا أريد بالصديق ذلك القرين الذي يصحبك كما يصحبك الشيطان: لا خير لك إلا في معاداته ومخالفته ... ولا ذلك الرفيق الذي يتصنع لك، ويماسحك متى كان فيك طعم العسل؛ لأن فيه روح ذبابة ... ولا ذلك الحبيب الذي يكون لك في هم الحب كأنه وطن جديد، وقد نفيت إليه نفي المبعدين ... ولا ذلك الصاحب الذي يكون كجلدة الوجه: تحمر وتصفر؛ لأن الصحة والمرض يتعاقبان عليها؛ فكل أولئك الأصدقاء لا تراهم أبدا إلا على أطراف مصائبك، كأنهم هناك حدود تعرف بها من أين تبتدئ المصيبة، لا من أين تبتدئ الصداقة، ولكن الصديق هو الذي إذا حضر رأيت كيف تظهر لك نفسك لتتأمل فيها، وإذا غاب أحسست أن جزءا منك ليس فيك، فسائرك يحن إليه؛ فإذا أصبح من ماضيك بعد أن كان من حاضرك، وإذا تحول عنك ليصلك بغير المحدود كما وصلك بالمحدود، وإذا مات ... يومئذ لا تقول: إنه مات لك ميت، بل مات فيك ميت، ذلك هو الصديق.
وكنا ذات يوم على شاطئ النيل، وبزغ الهلال كأنه إصبع ملك من الملائكة، خرقت ستار السماء لتحدث فيه ثقبا تنظر منه إلى نجمة ستهوي؛ فقلت له: هذا الهلال ما انفك يتلقى نور الشمس منذ خلق، وهو في نفسه مظلم أبدا، ولكنه من صحبته للنير قد أنار، وصار مع الشمس شمسا بيضاء، فما أكرم الصداقة من نعمة لو أصابها المرء على حقها فيمن خلق لها! كان أهل الكيمياء القديمة يسمونها «علم زراعة الذهب»، وأنا أسمي كيمياء الشمس في هذا القمر «زراعة الفضة»، فماذا تسمي أنت كيمياء الصداقة في معادن القلوب؟
قال: أسميها «زراعة الخير».
قلت: فإن لم ينبت، وأكله لؤم أرضه ...؟
قال: ذلك إلى الله لا إلينا؛ فإن في هذا الوجود قانونا دقيقا للخيبة لا يتسامح في شيء، وما يعرف منه الناس إلا حكمه حين يقضي فينفذ قضاؤه بدرك الشقاء. ألا إنه ما من الخيبة في الحياة بد؛ فإنها رد الأقدار علينا حين تقول «لا»، وهذه الخيبة هي العلم الذي موضوعه أن يعلم هذا الإنسان المغرور أنه شيء في الحياة، لا كل شيء فيها، فإذا كذبك صديقك مما قبله، وغمك بكثرة خطئه وزلله؛ فلا تزرعه مقتا وبغضا بعد أن زرعته خيرا وحبا، ولا تقطعه، بل انتظر فيأته،
12
فإن فتنة الصدر غامضة، ولقد يكون أشد البغض من أشد الحب، وليس لنا مع سفن القلوب إذا اختلفت رياحها، وهبت عواصفها إلا أن نطوي الشراع، ولكن إلى وقت.
فإذا جهدك البلاء من صاحبك، وبلغ منك اليأس، فما يسوغ لك أن تكون معه إلا كالذي حفر الحفرة، ثم طمها بترابها،
13
ألقى فيها ما كان فيها من قبل، ومضى كأن لم يكشفها!
قلت: آه! فإذا كانت الحفرة من شرها في عمق البئر ذاهبة إلى الأغوار البعيدة، أفأقضي شطر العمر أردم فيها بعد أن قضيت شطره أحتفر منها؟
قال: فمن ذا جعلها بئرا سواك؟
قلت: ولم لا أدعها بئرا خسيفة
14
يلعنها عمقها الغائر فيها بأنها فارغة مظلمة، ويلعنها ترابها القائم عليها بأنها متروكة مهملة؟
قال: سبيل الفضيلة غير هذا؛ فكن مع الناس في حال تشبه محل نفسك لا محل أنفسهم، وما أنكر أن من الناس من يوقعون في نفسك الظنة
15
بكيت وكيت من سوء خلقهم، وكذا وكذا من قبح أعمالهم، حتى لتكون صداقة أحدهم كأنها نصف معركة حربية ... ولكن الهزيمة عن صديقك وأنت صديق خير من النصرة عليه وأنت عدو ... فتحصن من كيد هؤلاء، وأشباههم بالانهزام عنهم لا بمدافعتهم؛ فذلك إن لم يقعدهم عنك لم يلحقهم بك، ثم إن ردك إليهم راد بعد كنت الأكرم.
واعلم أن أرفع منازل الصداقة منزلتان: الصبر على الصديق حين يغلبه طبعه فيسيء إليك، ثم صبرك على هذا الصبر حين تغالب طبعك لكيلا تسيء إليه!
وأنت لا تصادق من الملائكة؛ فاعرف للطبيعة الإنسانية مكانها، فإنها مبنية على ما تكره، كما هي مبنية على ما تحب، فإن تجاوزت لها عن بعض ما لا ترضاه ضاعفت لك ما ترضاه؛ فوفت زيادتها بنقصها، وسلم رأس مالك الذي تعامل الصديق عليه! •••
قلت: فإني لا أعني ذلك الذي أضع «رأس» المال بيني وبينه ، ولكن شخصا آخر وضعت «قلب» المال بيني وبينه ...
قال: فههنا إذن! وما هنا صارت الحفرة بئرا ... ولكن أفتني فإني لا أعرف هذا الذي تسميه الحب: فهل بين النفسين شيء غير الصداقة؟
قلت: هو هي إلا فرقا واحدا.
قال: إن كان واحدا فلقد هان، فما هو؟
قلت: الفرق بينهما أنك ترضى أن يكون الصديق لنفسه أكثر مما هو لك، ولكنك لا ترضى إلا أن يكون الحبيب لك أكثر مما هو لنفسه.
قال: فذاك رق لا حب.
قلت: وهذا هو الذي يجعل الحفرة بئرا، فالصداقة في المودة تجذب الطبع من الطبع ليتفقا، ولكنها في الحب تجذب الطبعين ليكونا دائما عند النقطة التي يتناقضان منها، وأعظم ما يسوءك من الصديق لا يزيد على أن يردك إلى نفسك وحسب، ولكن أيسر ما يغضبك من الحبيب يسلط نفسك عليك بسوء التحكم، والإعنات، والآراء الفاسدة، حتى يترك دمك، وكأنه تيار من الغيظ، فإذا حبيب نفسك أعدى أعدائها، وإذا هو قد أصبح العدو؛ لأنه لا يزال الحبيب!
قال: أما إن هذا تعقيد على النفس، وهو العلة في أن المحب المغيظ لا يسكن غيظه، ولا يهدأ فوره؛ لأنه يحل العقدة الواحدة بطريقة تجعلها عقدتين، ولكن ... أوليس خيرا لك إذا أنت دفعت إلى العداوة في الحب أن تستشعر بكرم الملك الذي في نفسك لؤم الحيوان الذي في صاحبك، فترجع بنفسك أنت إلى ملكيتها، وترده هو إلى حيوانيته؟
أما إني أعرف لأهل الحب دواء ما يمرض بعده رجل من امرأة أساءت إليه: أيها العاشق، أما صدمتك بهيمة من البهائم، أو رمحتك،
16
أو جمحت بك فأوجعتك بلا غيظ، وأساءت إليك بلا حقد، وكسرتك بلا انتقام، ولم يتعاظمك من أمرها شيء في الوهم، ولا في الحقيقة ... ألا ويحك، ألبسها جلدها وحوافرها
17 ... ولا تتمثلها في مخيلتك إلا وجها جميلا على جسم حيوان؛ فإنك إن تفعل ذلك، وتأخذ نفسك به: تطمس عليها في محبتك طمسا، ولا تجد لها في قلبك إلا النفرة والاشمئزاز، وتعجز فيها الشيطان، لا يدري من أين يأتيك، ولا كيف يتدسس بها إلى دواهيك، ما دام لها عندك الجلد والحافر ...
ولعل الناس لم يعتادوا فيما بينهم أن يتنابزوا ويتسابوا في عبارات السقوط، والتحقير بأسماء من أسماء البهائم: كالكلب، والخنزير، والحمار - إلا على هذا الأصل الذي بينته لك، توحي به غريزة الكراهة، والسقوط من حيث يدرون أو لا يدرون.
الحب ليس شيئا غير الجمع بين أعلى الصداقة وأسفلها؛ ألا ترى أنه ما دام الحبيبان على أسباب الرضا فكلاهما أو أحدهما يتمثل الآخر كما يتمثل ملكا من الملائكة، بل ويسميه الملك الحارس، أو الملك الموحي، أو الملك المقدس.
فإذا صار إلى الخلاف، واستحكم بينهما، لم يغن طلب المعاذير تتعزى بها الصداقة! ولا طلب العثرات تشتد بها العداوة، وليس للمغيظ منهما شيء دون أن يعمد إلى تلك الصداقة؛ فيجعل عاليها سافلها، فلم يبق حينئذ إلا أن يكون صواب الحب في هذه الحالة قائما على عكس الحالة الأولى؛ فما كان في صورة ملكية ليثبت عليه الحب وجب أن ينقلب في صورة حيوانية ليزول عنه الحب. •••
يا من أسكره الغرام، إن عربد حبك فاحطم كأسه، وأرق خمرها، ولا ترها إلا سما، فإن أكبر البلاء على السكير أن يلبس الحقائق المهلكة أثواب زينتها، فيزعم بينه وبين نفسه أنه لا يشرب الخمر، ولكنه ينقع غلة أحزانه بكأس من ماء السرور! ولا يتوحل في السكر، ولكنه يستمطر على خموله سحابة النشاط، ولا يتجرع الجنون، ولكنه يذيب همومه في جرعة من النسيان ...
ألا ما أصدق الخمر في السكير وهي صامتة، وأكذب السكير على الخمر وهو يتكلم!
هوامش
الفصل التاسع
الشيخ محمد عبده
وشف سحابي عن جلال رائع يضطرب القلب له! أذكرني روعة السحاب التي كان يهبط فيها ملك الوحي، ليست في نفسها آية، ولكن الآية فيها.
وظهر لي وجه الشيخ، وما أدراك من الشيخ؟ ثم ما أدراك من هو؟
1
رجل كان في تركيب العالم الإسلامي أشبه بالجبهة من جسم المؤمن: هي مجلى نور الإيمان، وأعلى ما يرتفع للأعين، ولكنها مع ذلك أول ما يسجد لله من هذا الجسم كله!
خلق فصيحا مبين اللهجة؛ لأن لسانه أعد لتفسير معجزة الدنيا في هذه اللغة، فكان لسانه - ولا غرو - معجزة في الألسنة، وكان له بيان ينبث من طبعه المصقول كالشعاع الذي توامضك به المرأة إذا انقدحت جمرة الفلك عليها.
2
وكان له عقل لو وزن في رجحانه لعد بين العقول من موازين التاريخ، وقلب إن يكن في جنبيه كالقلوب التي وضعت على منحدر المعاني الأرضية، فإنه كان دون القلوب على مهبط السماوات.
3
رجل لم يخلق من قبل زمنه؛ لأن الأقدار المصرفة ذخرته للقرن الرابع عشر تجعله وأصحابه النهضة الثالثة في الإسلام،
4
وكتبت له أن يكون الكنز الثمين الذي يفجأ العالم بانكشافه؛ ليعود القديم المبدع الذي كاد ينسى؛ فيتمكن في الأرض بأسلوب جديد، وما يدريك، لعل هذا الحكيم الفذ في علمه وعمله، وذكائه وإصلاحه سيكون التمثال العقلي المشرف على الأجيال، يفصل في تاريخ الإسلام بين ثلاثة عشر قرنا مضت، وثلاثة عشر قرنا تأتي؟
ولقد كان في تفسير كتاب الله رجلا وحده، على بعد عصره من فجر الإسلام؛ فكان يحمل في رأسه ذهنا كآلة اللاسلكي، تهبط عليه من أقاصي الدهر شرارة النبوة، فإذا تكلم في آية رأيت كأنما تتكلم الآية نفسها على ملأ العقل بين مشارق الأرض ومغاربها.
ولست أدري على أي روح نبت هذا الرجل؟ ولكن الذي أعرفه أنه حين أثمر فنضج فحلا، أذاق الناس من ثمره طعم معجزة الفكر العربي. •••
نظرت إلى عينيه ذات مرة فخيل إلي أن فيهما رهبة الأسد حين يجلي بنظرة كبريائه
5
ليدل على أنه الأسد لا غيره، فمددت النظر إليهما، فإذا روعة إنسان هو أرفع من إنسانيتنا، وإذا أنا ألمح فيهما ذلك الشعاع الغريب الذي ينبعث من أعين الحكماء ليصل بين السر الكامن في العقول، والسر الكامن في العقل، وكأنه استشعر ذلك فتبسم، فكان لنظرته جلال سماوي رحيم، أشرق على نفسي كما تشرق على روح الطفل ابتسامة أصله الإنساني. كان منطويا على حقيقة روحانية يسطع ضياؤها في عينيه، وينتشر على ما حوله، فلا يشعر من يجلس إليه أنه جالس مع الرجل، ولكن مع النفس العالية التي هي فيه؛
6
وكان أعظم هيبة من الملوك؛ لأن هؤلاء يحيطون أنفسهم بالديوان، والمواكب، والأسلحة، وكثير من ضروب التوقير والتعظيم، أما الشيخ فكنت تراه حيث رأيته كالمحراب حيث يكون: لا يقف عنده إلا من وقف ليتخشع، وما ذكرته إلا ذكرت قول القائل: في هذه الصورة الآدمية آدم، والملائكة له ساجدون!
كان هذا الإمام الفذ في قوة من ربه كقوة الجبل؛ يحمل ما يحمل، ولا يتلوى، وفي سعة من طبعه كاستفاضة البحر؛ يغمر ما يغمر، ولا يتغير، وفي صراحة من نفسه كاستطارة النهار؛ يطلع كما يطلع، ولا يخفى، فهو رجل، لكنه فكر من أفكار السماء، وهو جسم، لكنه عضلة من عضلات الطبيعة، وهو إنسان، لكنه حقيقة من حقائق الكون.
يصفه الناس بأنه الرجل الحكيم الذي أتي سر الحكمة لينبغ به، ويصفه التاريخ بأنه الحياة المجددة التي وهبت سر العظمة لتعمل لها، وتصفه الحقيقة بأنه العقل المفسر الذي اتصل به طرف السر الأعلى ليتكلم عنه، وليعمل له، ولينبغ فيه.
إذا كان في بعض جوانح الأرض أمكنة نادرة مقدسة هي قلب الدنيا الذي أودعه الله سر التأله، ففي بعض جوانح الناس قلوب نادرة هي كتلك الأمكنة، ولقد كان العالم الإسلامي كله يتصل من قلب الشيخ العظيم بمنسك
7
فيه معنى كمعنى الكعبة إذ تولي شطرها كل وجوه المؤمنين. •••
وأما بعد: فكأنما أفرط علي القلم فيما كتبت عن الحب؛ فإنه يخيل إلي الساعة أن روح شيخنا الجليل تريد أن تغسل هذا الكتاب كله، وتدعه ورقا أبيض،
8
ويخيل إلي كذلك أني كنت ماضيا فيما أكتبه كما تتعكس الأفعى
9
في مشيتها، إذ يندفع نصفها ليجر النصف الآخر، فلا تدري إن كان آخرها معلقا بأولها، أو الأول هو معلق بالآخر.
وكذلك كنت أكتب، فمرة أجد الفكر يجره القلب جرا، ومرة أجد القلب ينسحب للفكر، وبين ظهري ذلك
10
أراني ساعة ممتلخ القلب، وساعة مدله العقل
11
كأني لم أحب إلا لأتحول رجلا شاذا، تراه في الحب والبغض، وفي الصواب والخطأ، وفي الفكر والحس، على حد مما يعرف، وحد مما لا يعرف ، فليس كله من هذا، ولا كله من ذاك، وهو محب إلا أنه يبغض، ومبغض لكنه يحب!
إن زفرة من جهنم، ونفحة من الجنة جاءتا إلى هذه الدنيا، فرأتا من خبث الناس بدعا مبدعا
12
حتى لا يخلصون بأعمالهم إلى جنة ولا نار، فلا هم من أهل هذه وحدها، ولا أهل تلك على حدة، فاختلط نفس الجنة بزفير النار، وامتزجا حرا يستوقد الضلوع ببرد تثلج عليه الصدور، واجتمعا نعيما ببؤس، وراحة بتعب، وسرورا بهم، ثم وقعا في القلوب معا، فإذا هما الحب!
كذلك توحي إلي روح الشيخ.
أنت يا هذا إن أحببت امرأة فهي كما تثير كل ما فيك من الكمال تنبه كل ما فيك من النقص، بيد أنها تجعل هذا النقص علويا، وهو أفسد له، كالزوبعة إذ ترتفع من الأرض خلقا ماردا من الغبار ملتفا بالنور، ذاهبا إلى السماء، فيكون ارتفاع الغبار شرا طائرا لم يكن في الغبار الساكن ... أفتحسب أن حبك إياها هو الحب؟ كلا بل هو بادئ الأمر حبك أن تعجب بك، ثم بزيد فإذا هو الحب أن تميل إليك، ثم يبلغ فإذا هو حبك أن تخضع لك؛ هذه ثلاث كلهن مفسدة، فإن هي أدت في رجل واحد من الإنسان إلى فضيلة واحدة أدت إلى ألف رذيلة في ألف رجل من هذا الحيوان.
13
كل شيء يمكنك أن تضع ضميرك في أوله فتمضي فيه على بصيرة، إلا هذا الحب؛ فإن ضميرك لا يأتي موضعه فيه إلا آخرا، فإذا أنت أردت أن يحكم قلبك على من تحبها، وأن تأخذ عليها حكم قلبها،
14
فإنما تريد بنفسك الألم لا الحب، تريد أن تستوحي الدموع، وتخرج منها كلاما يبكي، تريد أن تزدرع شجرة الجنون التي ينبت فيها زهر الشعر ... وهذا لا يسمى حبا لحبيبة، ولا يؤمن إلا على كبار الحكماء، كما لا يؤمن فحص الآلة المهلكة ... إلا على كبار العلماء والمخترعين!
أنت يا هذا إن أحببت خاضع لقلبك، ولكنك أنت وقلبك سائران في طريق قلبها ... يقول كل محب في حبيبته: لا هي إلا هي ، أفلا يدل ذلك على ضلال الحب، وإفساده ملكة التمييز، وأنه شيء من الخبل يعتري فكرة بعينها في العقل، ويخرجها إلى الهوج والبله؟ وإذا ساغ لكل محب أن يقول في صاحبته: لا هي إلا هي؛ فمعنى ذلك أن (الهيات) ... كلهن عبث وباطل، وتكون الحقيقة الطبيعية التي يصرح عنها هذا القياس، أن كل (هي) مثل كل (هي) في الواقع، ولا انفراد لها إلا في عقل مجنون لا مساك له من المنطق، ولا عبرة به في القياس.
من أعجب الأمور أن الصفات التي يعد بها الإنسان إنسانا تخضع كلها أحيانا لصفة واحدة من تلك الصفات التي يعد بها الإنسان حيوانا، فإن خدعك بائع مثلا في دراهم معدودات، لا تمض الأمر على أنه خدعك، بل تعرف أنه غشك، ثم لا ترى أنه غشك، بل ازدراك، ثم لا تقول إنه ازدراك، بل تهزأ بك، وهذه حركة للنفس في اندفاعها إذا تركت تندفع، وتركت المعاني الغضبية تخوض في دمها.
ومن ثم فلا يكون البائع في رأي نفسك قد سلبك بعض الدراهم، بل شيئا من القوة التي بها حولك وحيلتك، ومن الذكاء الذي تعامل الناس عليه، وسلبك بعض الشأن الذي يجعلك رجلا ذا بصر ومعرفة، وعلى قدر ما يتحرك من ذلك في نفسك يتحرك من الغيظ والحقد إن كنت رجلا داهية ذكيا، وبخاصة إذا رأيت البائع لا يبالي أن تعرف أنه تغفلك، بل يجعل من همه أن تعرف ذلك؛ فلا تعود الدراهم أشياء كما هي في نفسها من ضعف الخطر والقيمة، بل كما هي في نفسك مما وضع أمرها عليه؛ فلا تنحط قيمتها إلا بانحطاط قيمة النفس، وتلتحق بمعاني القهر والغلبة، وما كانت إلا من بعض معاني الربح والخسارة.
وعلى هذا المثل يقاس أمر الحب ونكده وجنونه؛ فما هو على قدر المرأة، ولا بمقدار مما تعطيه، وإنما هو استخذاء المعاني الإنسانية، وخضوعها لصفة حيوانية واحدة ينصرف كل ما في هذا الإنسان إليها، والأمر بعد كما قال أحد الأطباء في تعليل الجوع إذ قال: إن المعدة متى خوت ،
15
وفرغت من طعامها الذي كان فيها بعثت أعصابها الباطنة برسائلها العصبية إلى ساقة المخ،
16
وإلى مركز الأعصاب في العمود الفقري؛ تؤذن بأنه صار من الممكن إرسال طعام آخر. قال: فتترجم مراكز الأعصاب السفلى هذه الرسائل إلى جوع ...
وقل أنت مثل ذلك في القلب، فإنه متى وقعت امرأة من حاجته موقعا، ظمئ إليها؛ فأرسل رسائله العصبية إلى المخ بأنه من الواجب ... إطفاء هذا الغليل المحرق، فتترجم مراكز الأعصاب هذه الرسائل إلى حب!
وأنت أعلى عينا
17
بأن هذا كله نقل للمعاني الحيوانية إلى اللغة التي تحرك النفس فتلجئها إلى تسخير قواها في دفع الألم إن كان حقيقة أو خيالا؛ فإذا أضلعك أمر الحب، وضقت به، وعجزت أن تصرف القلب عن رسائله، فأشغل العقل عن ترجمتها، وأحكم معاقد هذه الخيالات ومقاصدها، وازدر تلك الحيوانية، وأبق الدرهم على قيمته ... ولا تحسبن المرأة مطيعة أكثر مما فيها، ولا تتوهمن أحسن ما يبدو لك منها إذا سحرت به على عينك إلا صورة مسحورة من أقبح ما فيك أنت، فإن قررت في نفسك هذه القواعد، وأجريت عليها ما يترجم لك العقل من رسائل القلب، جاءك من هذه الرسائل الحكمة، والفلسفة، والكبرياء، والأنفة، أو الصبر والأناة، وخضت الغمرة
18
بذراعين فيهما السباحة والنجاة، لا الاختباط والغرق!
كذلك أوحت إلي روح الشيخ! •••
في منطق الحس: متى وجدت الأسباب جاءت النتيجة من تلقاء نفسها؛ لأنها تدور مع أسبابها وجودا وعدما، فاحذف الأسباب تسقط النتيجة، ولكن الأمر عكس ذلك في منطق الحب: احذف النتيجة تسقط الأسباب كلها، فإنك إن لا تفكر في لذة ترجوها، أو تحرص عليها، نسيك الحب قبل أن تنساه، وهل علمت قط عجوزا تعشق لأنها عجوز ليس فيها إلا حطام العمر، أو عرفت إنسانا يحدس عليها ظنا من ظنون الحب، أو يصل بها سببا من أسباب المطمعة؟ أما إن هذه الفانية منطق سقطت نتيجته فلا يمكن في الطبع أن تقوم أسبابها؛ فإذا أنت محقت النتيجة وخيالها لم يبق بينك وبين المرأة ماسة
19
منك أو منها، واستحالت إلى منظر من مناظر الجمال يفهمك أو يلهمك أو يفسر لك، فلا تنزل منها منزلة الرجل، بل منزلة الفكر، ولا تكون هي منك بمقام المرأة! بل منزلة المعنى!
المصائب والنساء من شقاء الشقي أن يبالغ فيهن؛ فإن ما ينالك من خوف المصيبة ليس منها، ولكنه منك، وما يذهلك من حب المرأة ليس فيها، ولكنه فيك؛ فأنت من ذلك كالذي ينحت صنما من الحجر، ثم يصله بمكان الرغبة والرهبة من نفسه، فإذا القدرة كلها قد استفاضت عليه، وإذا الحجر الذي لا يملك ولا حشرة من حشرات الأرض قد تملك رجلا بعقله وقلبه وحواسه وحيزه من الدنيا، وإذا هذا الرجل يتعبد بحقيقته لخياله، وبعقله لوهمه، وبعلمه لجهله، وبما يصدق فيه لما يكذب عليه، ولا يبقى الحجر حجرا، ولا يبقى الرجل رجلا، وكذلك يصنع عاشق المرأة بالمرأة، وهي عند نفسه كأنما نبت جسمها على صنم معبود؛ يحسب فيها السماء والجنة، وما فيها أكثر من امرأة، ويكون منها في الحب والرضا كحجر الألماس: يلقي عليه الضوء لونا واحدا فيخرجه من قلبه ألوانا ذوات عدد في بريق وبصيص، وفي البغض والنفرة كالجسم المحترق: تحول كله نارا من شرارة، أو جمرة، أو شعلة، وهو في كلتا الحالتين يسر ويألم بمادته كلها لقليل طرأ عليه من مادتها هي، فهي شيء واحد، ولكنها بمادته تنقلب جمالا ملء عينه، وفتنة ملء صدره، وفكرا ملء عقله، وكذا وكذا مع هن وهن وهنات.
20
إنما هذه سبيل اللذات في الأنفس المريضة التي تزدلف بما فيه لذتها إلى ما فيه هلكها، ولا تكسبها اللذة شعورا إلا لتسلبها شعورا غيره، ولا تهيج فيها خيالا إلا لتطمس به على حقيقة، ولا تبتعث حرصا إلا لتغلب به على قصد؛ فالخمر فيمن يبتلى بها تسلب الشعور بفضيلة العقل، لتنشئ اللذات الخيالية التي هي من بواعث الجنون، والمال فيمن يحرص عليه يستلب الشعور بفضيلة الخلق ليحدث له اللذات الوهمية التي هي من بواعث السقوط، والمرأة فيمن يمتحن بها تنتزع الشعور بفضيلة التمييز؛ لتؤتيه اللذات الغريبة التي يكون منها الجنون والسقوط، ضرب من هذا، وضرب من ذاك!
ولن تجد كل جرائر الحب إلا متفرعة من هذين الأصلين، فهي بجملتها داخلة في باب سلب العقل بعضه أو أكثر، وفي باب سلب الخلق بعضه أو كله.
وفي النفس الإنسانية لا تمرض الحقيقة إلى من سوء التخيل فيها، كأن نعمة الخيال إنما وهبت للإنسان لتخرجه من حدود الحقائق؛ فيفسدها، ويفسد آثارها فيه، فتنقلب من مادة شقائه، وهي مادة سعادته! فالخيال هو القوة التي يثبت بها الإنسان إلى المجهول، وهو نفسه القوة التي يسقط بها إذا تقاصرت الوثبة، أو طاشت، وقلما جاءت إلا من هاتين، والخيال هو العنصر الذي تمزجه بالحقائق ليحدث فيها التنويع؛ فيخرج ثلاث حقائق من اثنتين، وهو نفسه العنصر الذي يستخرج الضرر الكامن في هذه الحقائق متى أسرف عليها، فيخرج من المنفعة الواحدة مضرتين: للحقيقة وللإنسان معا!
فالمنهوم الذي ينتهي بطنه، ولا تنتهي نفسه،
21
والحريص الذي يفرغ عمره، ولا يفرغ أمله، والفاجر الذي تذهب مروءته، ولا تذهب لذته، والمدمن الذي يسقط عقله وخياله لا يزال يعلو، والمقامر الذي لا ينفك يطمع في الغنى وهو فقير حتى من الفقر
22 ... كل واحد من هؤلاء مريض بمرض خيالي واحد، أما الذي هو مريض بشيء من كل شيء، فهو العاشق المريض بامرأة يهواها!
وهل في شقوة الخيال، وشدة غلوائه أعجب من خيال هذا العاشق؛ إذ يرى الجمال المخلوق كله لا يبلغ مبلغ القبلة الأولى التي لا تزال في شفتي حبيبته لم تخلق بعد؟
المرأة في النساء امرأة، كالواحد في العدد واحد، بيد أن خيال العاشق يرقم إلى هذا الرقم الفرد صفا طويلا لا يراه أحد غيره، فالواحد اسمه واحد، ومعناه ملايين كثيرة ... وبهذا يصبح العاشق مع المرأة الخيالية كالنسر حطمت مخالبه، وصدع منقاره، ونسل جناحاه، فاسمه نسر، ومعناه دجاجة ...
أف للشعر! يعلو بالأشياء كلها علو الأسرار الإلهية التي فيها، ويعلو بالشاعر على كل الناس؛ إذ كان فيه من روح الله أكثر مما فيهم، ثم لا يكون عقابه على هذا التأله إلا أن يرمي بصاحبه من فوق سماواته تحت قدمي امرأة إن كان في الشاعر روح رجل تام، أو بين سفلة الخلق، وسفاسف الأشياء، إن كان الشاعر مؤنث النفس أو ساقطها.
آه ... آه! إن الله لا ينعم قلبا في الدنيا على أسلوب النعيم في الآخرة، ولكنه ترك للناس أن يعذبوا أنفسهم هنا على نحو مما هنالك، فكلما طفئت لهم نار أوقدوا غيرها يحترقون فيها ليذوقوا العذاب لا ليموتوا!
إن لنار الآخرة سبعة أبواب، وكأن كل باب منها ألقى جمرة على الأرض، فباب ألقى الوهم، وآخر قذف الخوف، وثالث رمى بالطمع، والرابع بالحرص، والخامس بالألم، والسادس بالبغض، أما السابع فرمى بالشر الذي يجمع هذه الستة كلها، وهو الحب!
النار في الآخرة، ولكن أرواحها في الناس لتسوق أرواح الناس إليها!
هوامش
ناپیژندل شوی مخ