ماذا عساه يفعل بعد هذين الكتابين وأوامر أبي بكر إليه صريحة «ورأي الخليفة - في تعبير خالد - يعدل نجدة الأمة»؟! لقد حرم أبو بكر عليه المدائن قبل أن يدركه عياض، أولا يجد فيما سوى المدائن رياضة لنشاطه الحربي تتفق وأوامر الخليفة؟! نعم! فهؤلاء هم الفرس قد أقاموا كتائب في الأنبار وعين التمر على مقربة من الحيرة، وقد تسول لهذه الكتائب أنفسها أن تهدد المسلمين في مستقرهم الجديد، فليتحرك خالد إليهم وليقض عليهم، وليجعل لنفسه من ذلك رياضة عن سنة النساء التي قضاها قاعدا لا يقاتل ولا يقتل، وترك القعقاع على الحيرة، وجعل على مقدمته الأقرع بن حابس وسار على شاطئ الفرات يبدأ بالأنبار.
ونزل خالد فحاصر المدينة، وأمر جنده فرشقوا رجالها بالنبل، لكنها ظلت متحصنة بأسوارها وبالخندق العميق الذي حفر حولها، وخالد قائد لا صبر له دون النصر، لذلك طاف بالخندق، حتى إذا كان عند أضيق مكان منه أمر بالإبل الضعاف فنحرت وألقيت في أعماقه فطمته، واقتحم الجند من فوقها إلى الأسوار فحطموا أبوابها؛ وكانوا على أهبة الدخول إلى المدينة يمعنون فيها قتلا وسبيا؛ لكن قائدها الفارسي شيرزاد أرسل إلى خالد أنه قبل مطالبه في الصلح على أن يلحقه بمأمنه في كتيبة من خيل ليس معهم من المتاع والأموال شيء، وقبل خالد وسرح شيرزاد، ودخل الأنبار واستقر بها وصالح من حولها، واستتب له الأمر وتم له بعض ما أراد من رياضة عبقريته على القيادة.
اطمأن الأمر لخالد في الأنبار وما حولها، فاستخلف عليها الزبرقان بن بدر، وقام في جنوده يقصد عين التمر على شفا الصحراء بين العراق وبادية الشام فبلغها في ثلاثة أيام، وكان مهران بن بهرام جوبين حاكم عين التمر من قبل فارس وكان حوله فيها جمع عظيم من العجم، وإلى جانب هؤلاء الأعاجم أقام عشير عظيم من قبائل البادية، بني تغلب والتمر وإياد يرأسهم عقة بن أبي عقة والهذيل ومن كانوا معهم على قيادة الجنود التي نفرت مع سجاح لتغزو المسلمين بالمدينة، ورأى أهل عين التمر مقدم خالد عليهم، فقال عقة لمهران: «إن العرب أعلم بقتال العرب، فدعنا وخالد!» وابتسم مهران وقال: «صدقت! لعمري لأنتم أعلم بقتال العرب وإنكم لمثلنا في قتال العجم؛ دونكموهم! وإن احتجتم إلينا أعناكم.» ولم يفطن بعض الفرس لخدعة مهران وخالوا كلامه عجزا فلاموه عليه، فأجابهم: «دعوني، فإني لم أرد إلا ما هو خير لكم وشر لهم، إنه قد جاءكم من قتل ملوككم وفل حدكم، فاتقيته بهم، فإن كانت لهم على خالد فهي لكم، وإن كانت الأخرى لم يبلغوا منهم حتى يهنوا فنقاتلهم ونحن أقوى وهم مضعفون.»
ونزل عقة لخالد على الطريق وحمل بجنده على جيش المسلمين، فأسرع خالد إليه فاحتضنه فأخذه أسيرا، فولى البدو منهزمين من غير قتال، وتعقبهم المسلمون فأكثروا الأسر فيهم في حين نجا الهذيل ومن معه من أمرائهم، ولم يلبث مهران حين رأى من الحصن ما حدث أن فر في جنده وترك الحصن تحميه الكتائب التي امتنعت فيه، وتحميه فلول البدو التي عادت هزيمة إليه، ورأى من بالحصن أن لا طاقة لهم بخالد، فسألوه الأمان فأبى إلا أن ينزلوا على حكمه، وأجابوه إلى ما طلب وفتحوا له أبواب الحصن، فاعتقلهم وأمر بعقة فضرب عنقه، ثم ضرب أعناق المقاتلة بالحصن وسبى نساءهم وغنم أموالهم .
ويفسر الرواة شدة خالد في هذا الموقف بأن أعداءه قتلوا عميرا الصحابي كما قتلوا أحد الأنصار غدرا؛ ويرى بعضهم أن هذه القسوة أورثت عرب العراق حقدا على خالد كان ذا أثر في الانتقاض الذي حدث بعد ذهابه لفتح الشام.
وكان بالحصن بيعة يتعلم الإنجيل فيها أربعون غلاما عليهم باب مغلق، وقد كسر خالد الباب عليهم وسألهم: ما أنتم؟ قالوا: رهن، فقسمهم فيمن أحسنوا البلاء، وأكبر الظن أن ما كانوا يتعلمونه في هذه البيعة كان عظيم الجدوى؛ فقد نشأ منهم سيرين أبو محمد بن سيرين فقيه البصرة، ونصير أبو البطل الفاتح موسى بن نصير فاتح الأندلس.
ولما أتم خالد فتح الأنبار وعين التمر بعث إلى أبي بكر بالأخماس والأنباء مع الوليد بن عقبة، وقص الوليد على الخليفة ما حدث، ولعله قص عليه سأم خالد سنة مقامه بالحيرة وقوله للمسلمين: «لولا ما عهد إلي الخليفة لم أتنقذ عياضا، وما كان دون فتح فارس شيء! إنها لسنة كأنها سنة نساء!» وكان أبو بكر من جانبه قد بدأ يسأم موقف عياض ويرى فيه ما يضعف الروح المعنوية للمسلمين، ولولا فعال خالد بالعراق لأزرى هذا الموقف بهم، ولأغرى خصومهم بالانتقاض عليهم ومحاولة النيل منهم، فلما سمع قصص الوليد عن خالد وسأمه أمر الوليد أن يتوجه مددا لعياض بدومة الجندل، وألفى الوليد عياضا يحاصر القوم ويحاصرونه وقد أخذوا عليه الطريق، ولم يجد بعد مداولة الرأي معه وسيلة تنقذه من هذا الموقف، هنالك قال له: «الرأي في بعض الحالات خير من جند كثيف، ابعث إلى خالد فاستعده.»
وما كان لعياض أن يتردد في قبول المشورة وقد بقي سنة كاملة لا يقوى على خصومه ولا يبلغ منهم، وبعث إلى خالد رسولا أدركه غداة فراغه من عين التمر، فلما فض خالد كتاب عياض ورأى ما فيه تهلل وأخذ منه الطرب ورد الرسول لساعته يحمل كتابا منه إلى عياض يقول فيه:
إياك أريد:
لبث قليلا تأتك الحلائب
ناپیژندل شوی مخ