2
وكان يزعم أن له شيطانا يظهره على كل شيء، ويظهره على خطط أعدائه، وكان يقيم بكهف خبان من بلاد مذحج، وقد هوت إليه جماعة كبيرة من العوام سحرت بحديثه، وفتنت بما يزعم من حديث شيطانه.
نهض الأسود على رأس هذه الجماعة بعد أن أعلن الفتنة، وسار إلى نجران فأجلى عنها خالد بن سعيد وعمرو بن حزم أميري المسلمين عليها، وانضم من أهل نجران إلى الأسود من بهرهم انتصاره، وساروا معه إلى صنعاء حيث لقي شهر بن بازان فقتله وهزم جنده، عند ذلك فر المسلمون المقيمون بصنعاء وفي مقدمتهم معاذ بن جبل؛ ولحق خالد بن سعيد وعمرو بن حزم بالمدينة، وتم للأسود الغلب، وصار إليه ملك اليمن، وأسلم الناس لأمره ورأيه، ودانت له البوادي والحواضر ما بين مفازة حضرموت إلى الطائف إلى البحرين والأحساء إلى عدن.
ولقد تعجب إذ تعلم أن الأسود لقي شهر بن بازان بصنعاء وليس معه إلا سبعمائة فارس، منهم من خرج معه من مذحج ومنهم من انضم إليه من نجران، وبهذا العدد القليل انتصر هذا الكاهن المشعبذ على أهل هذه الأصقاع واستطار أمره بينهم كالحريق، ولم تجد قوة منهم إلى مقاومته سبيلا، ولعلك إن تلتمس لذلك تأويلا تجده في أن هذه البلاد كانت خاضعة لفارس، ثم خضعت من بعدهم للمسلمين من أهل الحجاز، وأنت تعرف ما كان بين اليمن والحجاز من خصومة ترجع إلى أقدم الحقب، فلما قام هذا العنسي يسترد اليمن لأهل اليمن لم يجد من يقاومه، ولم يجد الفرس أنصار شهر وأبيه ولا وجد المسلمون أبناء الحجاز نصيرا من أهل البلاد يدفع عنهم كيد الأسود وشعبذته، ولعلك واجد هذا التأويل كذلك في أن هذه البلاد كانت مسرحا لأديان مختلفة: كانت فيها اليهودية، والنصرانية، والمجوسية؛ وكانت هذه الأديان تجاور فيها أصنام العرب وعبادتها، ثم كان الإسلام الحديث بين هؤلاء اليمنيين لما تقو في نفوسهم أصوله، فلما قام ذلك المتنبئ فيهم يدعوهم إليه ويهيب بقوميتهم ويزعم أنه يطرد الأجانب من بلادهم، أسرعوا إليه ملبين دعوته؛ فلم يكن أمام المسلمين إلا الفرار، ولم يكن أمام البقية الباقية من الفرس إلا الإذعان أو الموت.
بلغت هذه الأنباء محمدا بالمدينة وهو يعد العدة لغزو الروم، وللانتقام من مؤتة، تعزيزا لهذا الجانب المحفوف بالخطر من جوانب شبه جزيرة العرب؛ وكان لذلك يجهز جيش أسامة، أفيصرف هذا الجيش إلى اليمن يسكن ثائرتها، ويرد على المسلمين هيبتهم؟! أم يستعين على هذا الأسود بمن كان باليمن من المسلمين، فإن قدروا عليه فذاك، وإلا كان انتصار جيوش المسلمين على الروم، والروم قد غلبوا الفرس من زمن غير بعيد، جديرا بأن يعيد الأمر في شبه الجزيرة إلى نصابه؛ فإن لم يعد وجه محمد جيشه ليقمع الأسود وغير الأسود من الخارجين عليه؟! هذا الرأي الأخير هو ما اطمأن محمد إليه، لذلك بعث رسوله وبر بن يحنس بكتاب إلى زعماء المسلمين إلى اليمن يأمرهم فيه بالقيام على دينهم والنهوض في الحرب، والقضاء على الأسود إما غيلة وإما مصادمة، وأن يستعينوا على ذلك بمن يرون عنده نجدة ودينا، واكتفى محمد من أمر اليمن بهذا، وجعل كل همه لتنظيم جيش أسامة والتغلب على الروم.
ومرض رسول الله من بعد ذلك مرضا وقف بسببه جيش أسامة عن المسير، أما الأسود العنسي فأخذ يستمتع بنصره وينظم ملكه، يقيم القواد على الجيوش والعمال على الإمارات؛ بذلك ثبت ملكه، واستغلظ أمره، ودانت له سواحل اليمن إلى عدن، كما دانت له الجبال والبوادي من صنعاء إلى الطائف.
واستعمل الأسود على جنده قيس بن عبد يغوث، وجعل وزيريه فيروز وداذويه الفارسيين، ثم إنه تزوج آزاد امرأة شهر بن بازان، وكانت ابنة عم فيروز، بهذا وبذاك انضم العرب والفرس إلى لوائه، فلما رأى من تعاظم شأنه ما رأى خيل إليه أنه دانت له الأرض، فلم يبق له إلا أن يأمر فيطاع.
على أن العوامل التي أدت إلى انتصاره قد تضافرت من بعد على الائتمار به، ذلك أنه لما استغلظ أمره وأثخن في الأرض استخف بقيس وبفيروز وداذويه، وجعل يرى في الأخيرين وفي سائر الفرس من تنطوي أضالعهم على المكر به.
وعرفت امرأته الفارسية ذلك منه، فثار في عروقها دم قومها، وتحركت في نفسها عوامل الحقد على الكاهن القبيح، قاتل زوجها الشاب الفارسي الذي كانت تحبه من أعماق قلبها، ولقد استطاعت بسجيتها النسوية أن تخفي ذلك عنه، وأن تسخو في البذل له من أنوثتها سخاء جعله يركن إليها ويطمع في وفائها له، لكنه شعر بأن الرجال الذين حوله، وزيريه وقائد جيشه، لا يضمرون له من الولاء ما يراه حقا عليهم لولي نعمتهم، وإذا كان الجيش أشد ما يحذر ويخاف فقد دعا إليه قيس بن عبد يغوث وأنبأه أن شيطانه أوحى إليه يقول: «عمدت إلى قيس فأكرمته حتى إذا دخل منك كل مدخل، وصار في العز مثلك، مال ميل عدوك، وحاول ملكك، وأضمر على الغدر.» وأجاب قيس: «كذب وذي الخمار؛ لأنت أعظم في نفسي وأجل عندي من أن أحدث بك نفسي.» وأجال الأسود في قيس نظره من مفرق رأسه إلى أخمصه، وقال له: «ما أجفاك! أتكذب الملك! قد صدق الملك وعرفت الآن إنك تائب مما اطلع عليه منك.»
وخرج قيس من عنده وكله الريبة فيما يضمر له، ولقي فيروز وداذويه فذكر لهما ما جرى بينه وبين الأسود وسألهما رأيهما، فقالا: نحن في حذر، وإنهم لفي ذلك إذا أرسل الأسود إليهما يحذرهما مما يأتمران مع أصحابهما به، وخرجا من عنده ولقيا قيسا وهم جميعا في ارتياب وعلى خطر عظيم.
ناپیژندل شوی مخ