كانت حرب العنسي، وكانت حرب العنسي باليمن.»
لم تكن شبه الجزيرة إذن هادئة مطمئنة في العهد الأخير من حياة الرسول، ولم تكن كلها قد سكنت واستقرت تحت لواء واحد ودين واحد، بل كانت أسباب الفتنة تضطرم تحت ثراها، ونذر الثورة تتبدى في جوها؛ وكانت بوادر الانتقاض في الشمال الشرقي وفي الجنوب كله تأجج نارا لا يسكن من انتشارها إلا القوة الروحية التي أمد الله بها رسوله، وإلا النصر الذي كان يلازم أعلامه، بل إن هذا النصر لم يسكت مسيلمة ولا أسكت الأسود العنسي عن القيام في قومهما يزعمان النبوة، ليكون لبني حنيفة ولليمن ولغيرهم من العرب أن يدعوا لأنفسهم ما تدعيه قريش لنفسها، ولولا حكمة رسول الله وحسن رأيه وبعد نظره وفضل الله عليه وعلى الإسلام لخيف أن تتلظى الفتنة وأن يصلى العرب جميعا نارها في حياته.
وأغلب الظن أن فتنة العنسي قامت في آخر عهد الرسول، وسواء أصح ذلك أم صح أنها قامت في عهد أبي بكر، فإن لقصة هذه الثورة على ما يرويها المؤرخون طرافة تستوقف النظر وتكشف عن جوانب من النفس الإنسانية تدعو إلى التفكير.
فقد بعث رسول الله بين رسله إلى الملوك رسولا إلى كسرى عاهل الفرس يدعوه إلى الإسلام، فلما ترجم له كتاب النبي استشاط غيظا وأرسل إلى بازان
1
عامله على اليمن يأمره بأن يبعث إليه برأس هذا الرجل الذي بالحجاز، وكانت الروم في ذلك الوقت قد غلبت كسرى ووهنت من أمره، فلما تناول بازان رسالة سيده بعث بها إلى محمد، فرد محمد عليه ينبئه بأن شيرويه خلف أباه كسرى، ويدعوه إلى الإسلام وأن يبقى عاملا على اليمن، وكانت أنباء الفتنة في فارس واعتلاء شيرويه عرشها وانتصار الروم عليها قد اتصلت ببازان؛ لذلك أسرع إلى تلبية دعوة محمد، وأقام هذا الفارسي عاملا للنبي العربي على أهل اليمن، بعد أن كان عامل الفرس عليها.
ومات بازان، فقسم رسول الله سلطانه بين أشخاص عدة، منهم شهر بن بازان تولى أمر صنعاء وما جاورها، ومنهم أشخاص من أهل اليمن، وآخرون من رجاله
صلى الله عليه وسلم
بالمدينة، وإن هؤلاء الولاة لينظم كل منهم أمر ولايته إذ جاءتهم كتب من الأسود العنسي ينذرهم فيها أن يردوا ما بأيديهم فهو أولى به، وكانت تلك أول ظاهرة لفتنته.
وكان للأسود كاهنا يقيم بجنوب اليمن، وكان مشعبذا يصطنع فنونا من الحيل ويستهوي الجماهير بعباراته، ولقد تنبأ ولقب نفسه رحمان اليمن، أي الذي ينطق باسم الرحمان، كما لقب مسيلمة نفسه رحمان اليمامة.
ناپیژندل شوی مخ