وكان رجب وسعيد من الذكاء بحيث لم يفكرا أن يقتربا من حي السيدة، وكان أنور من الذكاء بحيث لم يفكر أن يقترب من حي البغالة.
ومضت السنون وأصبح الناس فريقين؛ فريقا ينتمي بعواطفه وعقيدته إلى أنور وابنه أسعد، والآخر ينتمي إلى رجب وسعيد وابنهما راغب. وكانت الخلافات تحتدم بين الفريقين احتداما يصل إلى التشابك بالأيدي، ثم تطورت فأصبحت معارك تستعمل فيها كل أدوات المعارك وأصحاب الخلاف الأصليون يكتفون بتقديم أدوات المعارك دون أن يشاركوا هم فيها.
وتمضي السنون ويموت رجب ويتبعه سعيد. ويموت أنور. ويظل راغب وأسعد على الخلاف الذي ورثاه عن آبائهما، ويتوارث الأتباع أيضا المعارك فيما يتوارثون عن آبائهم.
وفجأة يجد أسعد ويجد راغب أن هذه الخلافات تشغلهما عن تنمية ثروتيهما وكأنما تكشفت هذه الحقيقة بغتة أمام كليهما في لحظة واحدة؛ فيبدأ كل منهما بكلمة لينة عن الآخر، وما تلبث هذه الكلمة أن تصبح زيارة من أسعد إلى راغب في بيته، تتبعها زيارة من راغب إلى أسعد في بيته، ويتم الصلح بين الخصمين القديمين.
ولكن العجيب العجيب أن أنصار كل منهما ما زال حتى يومنا هذا في عراك قاتل مستميت يموتون من أجل اثنين تم بينهما الصلح.
المقابل
لقد كانت المعركة بيننا وبين قبيلة غطفان غاية في العنف، وقد أصبنا منهم مقتلة عظيمة وما كان هذا إلا لغياب بطلهم الصنديد رافع بن عدي، ولا شك أنهم ينتظرون يوما قريبا ينالون فيه ثأرهم، والقبيلة منذ ذلك الحين مشغولة فيما يمكن أن تصنعه حتى تتهيأ لهذا اليوم المنتظر القريب، وقد اجتمع شيوخ القبيلة يفكرون واجتمع معهم الشباب وراح كل منا يدلي برأي، ولكن ما أسرع ما كانت هذه الآراء تواجه بالنقاش. - نهاجر.
ويقول شيخ القبيلة في عظمة واعتزاز: حتى نصبح أحدوثة بين العرب؛ نترك ديارنا خوف عدو دحرناه وأنزلنا به الهزيمة الماحقة، إذا نحن هاجرنا يكون العدو هو المنتصر، ويصبح النصر الذي أحرزناه أعجب نصر في التاريخ، سيكون نصرا ترتبت عليه آثار الهزيمة. - ولكننا إن واجهنا العدو ونيران الثأر تغلي في دمائه ومعه البطل الذي كان غائبا عنه، فإنه سيصيب منا قتلى كثيرين، ونخسر النصر والدماء في آن معا. - إن دمائنا لا شيء، إنها ما خلقت إلا لتحمي كرامتنا وشرفنا، يا شيخ القبيلة. - الدماء دماء أب أو أخ أو زوج أو ابن، إنها دماء عزيزة. - في سبيل النصر يصبح العزيز رخيصا. - فإن بذلنا الدماء ولم نحقق النصر؟ - لهذا اجتمعنا.
ويقول رأي آخر: ما لنا لا نناشد قبيلة عاصم؛ فإن بينها وبيننا أخوة قديمة.
يقول الشيخ: وما يجعلها تحارب قبيلة غطفان وليس بينهما عداوة، وقبيلة غطفان كثيرة العدد موفورة الحظ من القوة والبأس. - أليست الأخوة كافية لتقف قبيلة عاصم إلى جانبنا؟ - كنا جديرين أن نأخذ بهذا الرأي لو كان هناك عداء بين قبيلة عاصم وقبيلة غطفان، أما أن تثير قبيلة عاصم العداء عليها بلا داع إليه فهذا ما لا يفعله أحد.
ناپیژندل شوی مخ