131

شیطان وعظ

الشيطان يعظ

ژانرونه

فابتسم قائلا: اسمح لي أن أذكرك بالأشياء التي تقيد حرية الإنسان، لا لأنها مجهولة لمثلك ولكن لأننا نتناساها عادة في زحمة الحياة والغرور.

تنحنح ثم واصل: إنها تبدأ عملها في بطن الأم، بلا استئذان أو مشاورة، فتقرر لنا طولا ولونا وملامح، وأجهزة تنفس وهضم وأعصاب ذوات خواص محددة، وغرائز، وبعض الأمراض أحيانا، يتم ذلك كله قبل أن نرى نور الدنيا.

تذكرت تلك الحقائق وكأنها اكتشاف جديد، أما وفيق فقال باستهانة: نحن نسلم بذلك ولكن لا أهمية له!

فقال جلال: عندما يخرج الوليد إلى الدنيا تتسلمه أسرته، ثم تتكاتف على صبه في قالب جاهز من القيم والأذواق والتقاليد والعقائد وهو يتشكل بلا قدرة على الإدراك أو النقد أو الاختيار، أنت نفسك يا وفيق بك هل كان لك رأي في الصورة التي صورت بها؟

فتساءل بعناد: أي خطأ في ذلك؟

وقلت أنا: الوليد يتحول بذلك من حيوان إلى كائن حضاري! - نحن نناقش فكرة الحرية، تذكروا ذلك من فضلكم! - تفضل! - ثم تتلقاه المدرسة لتحكم حوله قالبا جديدا يهبه في النهاية عملا ورؤية للدنيا والأشياء، وينضم إلى المدرسة في عملها المجتمع كله ممثلا في أحزابه وجمعياته ونماذجه البارزة، الجميع طامعون في حريته ولو فعلوا ذلك باسم الحرية نفسها.

فقال وفيق بإصرار: ولكن سرعان ما يجيء حين فيعرف الشاب الاختيار والرفض بل والتمرد والثورة. - لست أنكر ذلك، ولكني أقصر حديثي الآن على القوى المتربصة بحريتنا ... ثم يجيء دور قوى جديدة خارج المجتمع، منها البيئة، وأثرها معروف في النشاط والكسل ، في القوة والضعف، في الإيجابية والسلبية.

وتريث لحظات وهو يبتسم ثم استطرد: هناك الأرض نفسها، الكرة الأرضية، فهي بجاذبيتها وحركتها تحدد له وزنا وأسلوبا في الحركة وحدودا لا يمكن تجاوزها، هناك أيضا الشمس وأشعتها وانفجاراتها الموسمية، بل هناك النظام الشمسي كله فيما نعرف من آثاره وما نجهل، ولك أن توسع تصورك حتى يشمل الكون كله ما ظهر منه وما غاب، الكون كله يؤثر في حريتنا ويكون لذلك نتائجه في سلوكنا وتصوراتنا، أما الإنسان الغافل فقد يعتقد أنه حر حرية مطلقة، أو أنه لا يؤثر فيه إلا عقدة أوديب، أو عوامل اقتصادية، ثم تجيء بعد ذلك قوى غريبة خارجة عن التصنيف المنطقي، تبدو عارضة لا معقولة، نسميها مصادفات أو ما شئت من أسماء، ولكنها مع ذلك قد تقلب الحساب رأسا على عقب في لحظة خاطفة، وهي لا حصر لها، مقابلة غير متوقعة، ضياع رسالة في البريد، حادث قطار أو سيارة، وسقوط جسم فجأة إلخ إلخ، فهل تستطيع أن تتجاهل القوى المؤثرة في حرية الإنسان وبالتالي في مصيره؟!

صمتنا صمتا ثقيلا. ثم ندت عن نبيلة ضحكة رقيقة. ضحك وفيق أيضا ضحكة باردة. تجلى حياء ناعس في وجه أفكار. قلت باهتمام حقيقي: إذن فأنت ترى يا دكتور أن الإنسان حجر أو حيوان على أحسن الفروض؟

فبادرني جادا: أبدا، إني أبعد ما يكون عن ذلك. - ولكن منطقك يسوقنا إلى ذلك؟ - إني أحصي القوى المؤثرة لكي نعد لها ما يتطلبه الدفاع من صبر ومثابرة وعلم. - كأن الحضارة أنشأها الكون لا الإنسان! - بل أنشأها الإنسان بفضل ظمئه الخالد للحرية، كما قلت، إنه لم يتحرك بإغراء اللقمة ولكن ليتحرر من الجوع، الحضارة معركة مستمرة بين الحرية والقوى المؤثرة، الآلة تحرير من عبودية السخرة، الدواء تحرير من المرض، العلم تحرير من الجهل، الطيارة تحرير من الجاذبية، السرعة تحرير من الزمن، كذلك المذاهب، فالدين تحرير للروح، الإقطاع كان تحريرا من الفوضى، الليبرالية كانت تحريرا من الإقطاع، الاشتراكية تحرير من الليبرالية، معركة مستمرة بلا نهاية ...

ناپیژندل شوی مخ