ومن الحق أنه كان يتجر في خلافته ويثمر ماله، ولكنه لم يفعل ذلك حبا في المال ولا إيثارا للغنى، وإنما فعله أداء لما لأهله وولديه عليه من الحق، وقد رأيت أنه لم ينتفع بشيء من ماله لنفسه، وأنه أدى منه كل ما أخذ من بيت المال لقوته وكسوته، فخرج من الدنيا وليس في الأرض مسلم يتعلق عليه بشيء أو ينكر من أمره شيئا، وهو قد أوصى إلى حفصة أم المؤمنين، فإذا ماتت فللأكابر من ولده، ولم يعرف المسلمون خليفة أو ملكا أتاح الله له مثل ما أتاح لعمر من الفتح.
فقد رأيت أنه فتح بلاد الفرس كلها، وفتح الشام والجزيرة ومصر وبرقة، ولم يستطع خليفة بعده أن يزيد على ذلك إلا ما كان من فتح إفريقية أيام عثمان رحمه الله، ومن المضي في هذا الفتح إلى المحيط، ومن فتح الأندلس أيام بني أمية.
ولم يعرف المسلمون خليفة أو ملكا بعد عمر جعل بيت المال ملكا للمسلمين ينفق منه على الجيوش المحاربة، ويعين منه من احتاج إلى المعونة، ويوفر ما يبقى منه ليشيعه بين المسلمين رجالهم ونسائهم وأطفالهم، يأخذون منه أعطياتهم في كل عام، تسعى إليهم هذه الأعطيات دون أن يتكلفوا مشقة في طلبها سواء، في ذلك منهم القريب والبعيد، وقد رأيت أنه كان يحمل بنفسه المال إلى البادية القريبة من المدينة فيعطيه للناس في أيديهم، وقد رأيت لذلك أنه في عام الرمادة كان يحمل الطعام على ظهره ويسعى به إلى الأعراب النازلين حول المدينة، وربما طبخه لهم بنفسه، ولم يعرف المسلمون ملكا أو خليفة بعده عني بحماية الذميين والرفق بهم في أمرهم كله كما عني بهم عمر.
ثم لم يعرف المسلمون خليفة أو ملكا بعده عني بأمر الدين وإقامة الحدود وتأديب الناس في الصغير والكبير من أعمالهم، وعلم المسلمين دينهم رفيقا بهم حريصا على أن تستقيم لهم أمور دنياهم، وعلى أن يجنبهم ما يؤخذون به في آخرتهم ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
فعل هذا كله حتى بلغ منه ما لم يبلغ الخلفاء والملوك في الإسلام وفي الأرض التي لم تسلم، فلسنا نعرف اليوم بلدا يوفر فيه الرزق على الناس من بيت المال أو من خزائن الدولة دون أن يمنعهم ذلك من العمل لأنفسهم وللناس، ومن التزيد في الكسب والتوسع في الغنى.
ولم يكن عمر يعرف قانونا إلا القرآن الكريم والسنة الشريفة، ولم تكن له شرطة يستعين بها على حفظ الأمن والنظام، ولكنه ساس المسلمين على نحو جعلهم جميعا شرطة له في المدينة وشرطة لولاته في الأمصار، فليس غريبا وعمر هو الذي فعل هذا كله وأكثر من هذا كله أن تكون الفاجعة بموته عظيمة والخطب له جليلا، وأن يقول رجل مثل أبي طلحة الأنصاري رحمه الله: «ما في العرب بيت إلا دخل عليه النقص بموت عمر.»
وليس غريبا أن يقول غيره: والله إن بيتا من بيوت المسلمين لم يدخله الحزن لموت عمر لبيت سوء.
ويقول الرواة: إن سعيد بن زيد بن عمرو - وهو ابن عم عمر - بكى حين مات عمر، فقيل له: فيم تبكي؟ قال: أبكي على الإسلام؛ فإنه قد وهى بموت عمر.
ويقال : إن حذيفة بن اليمان كان يقول: إن الإسلام كان حصنا يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه، فلما توفي عمر انثلم الحصن، فالناس يخرجون منه ولا يدخلون فيه.
وقد أجمع الرواة أن عليا - رحمه الله - لما سمع الصيحة بموت عمر دخل عليه فوجده سجي بثوب، فرفع الثوب عن وجهه، وقال: صلى الله عليك، والله ما على الأرض أحد أحب إلي أن ألقى الله بمثل صحيفته من هذا المسجى.
ناپیژندل شوی مخ