مقدمة
أبو بكر
عمر
مقدمة
أبو بكر
عمر
الشيخان
الشيخان
تأليف
طه حسين
ناپیژندل شوی مخ
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا حديث موجز عن الشيخين: أبي بكر وعمر رحمهما الله، وما أرى أن سيكون فيه جديد لم أسبق إليه، فما أكثر ما كتب القدماء والمحدثون عنهما! وما أكثر ما كتب المستشرقون عنهما أيضا! وأولئك وهؤلاء جدوا في البحث والاستقصاء ما أتيحت لهم وسائل البحث والاستقصاء، وأولئك وهؤلاء قد قالوا عن الشيخين كل ما كان يمكن أن يقال.
ولو أني أطعت ما أعرف من ذلك لما أخذت في إملاء هذا الحديث الذي يوشك أن يكون معادا، ولكني أجد نفسي من الحب لهما والبر بهما ما يغريني بالمشاركة في الحديث عنهما، وقد رأيتني تحدثت عن النبي
صلى الله عليه وسلم
في غير موضع، وتحدثت عن عثمان وعلي رحمهما الله، ولم أتحدث عن الشيخين حديثا خاصا بهما مقصورا عليهما.
وأجد في نفسي مع ذلك شعورا بالتقصير في ذاتيهما، كما أجد في ضميري شيئا من اللوم اللاذع على هذا التقصير.
وأنا مع ذلك لا أريد إلى الثناء عليهما، وإن كانا للثناء أهلا؛ فقد أثنى عليهما الناس فيما تعاقب من الأجيال، والثناء بعد هذا لا يغني عنهما شيئا، ولا يجدي على قارئ هذا الحديث شيئا، وقد كانا رضي الله عنهما يكرهان الثناء أشد الكره ويضيقان به أعظم الضيق.
وما أريد أن أفصل الأحداث الكثيرة الكبرى التي حدثت في أيامهما؛ فذلك شيء يطول، وهو مفصل أشد التفصيل فيما كتب عنهما القدماء والمحدثون.
وأنا بعد ذلك أشك أعظم الشك فيما روي عن هذه الأحداث، وأكاد أقطع بأن ما كتب القدماء من تاريخ هذين الإمامين العظيمين، ومن تاريخ العصر القصير الذي وليا فيه أمور المسلمين أشبه بالقصص منه بتسجيل حقائق الأحداث التي كانت في أيامهما، والتي شقت للإنسانية طريقا إلى حياة جديدة كل الجدة.
ناپیژندل شوی مخ
فالقدماء قد أكبروا هذين الشيخين الجليلين إكبارا يوشك أن يكون تقديسا لهما، ثم أرسلوا أنفسهم على سجيتها في مدحهما والثناء عليهما، وإذا كان من الحق أن النبي
صلى الله عليه وسلم
نفسه قد كذب الناس عليه، وكان كثير من هذا الكذب مصدره الإكبار والتقديس، فلا غرابة في أن يكون إكبار صاحبيه العظيمين وتقديسهما مصدرا من مصادر الكذب عليهما أيضا.
والقدماء يقصون الأحداث الكبرى التي كانت في أيامهما كأنهم قد شهدوها ورأوها رأي العين، مع أننا نقطع بأن أحدا منهم لم يشهدها، وإنما أرخوا لهذه الأحداث بأخرة، وليس أشد عسرا من التأريخ للمواقع الحربية ووصفها وصفا دقيقا كل الدقة، صادقا كل الصدق، بريئا من الإسراف والتقصير.
والذين يشهدون هذه المواقع ويشاركون فيها لا يستطيعون أن يصفوها هذا الوصف الدقيق الصادق؛ لأنهم لم يروا منها إلا أقلها وأيسرها، لم يروا إلا ما عملوا هم وما وجدوا، وقد شغلهم ذلك عما عمل غيرهم.
وما ظنك بالجندي الذي هو دائما مشغول بالدفاع عن نفسه واتقاء ما يسوقه إليه خصمه من الكيد؟! أتراه قادرا على أن يلاحظ ما يحدث حوله، وما يحدث بعيدا عنه من الهجوم والدفاع، ومن الإقدام والإحجام؟! هيهات! ذلك شيء لا سبيل إليه.
وإنما يستطيع المؤرخون المتقنون أن يحققوا عواقب المواقع وما يكون من انتصار جيش على جيش وانهزام جيش أمام جيش، وما يكون أحيانا من إبطاء النصر أو إسراعه، ومن طول المواقع أو قصرها، ومن امتحان الجيشين المحتربين بما يكون فيهما أو في أحدهما من كثرة القتلى والجرحى، ومن الخطط التي يتخذها القواد للهجوم والدفاع، وما يكون لهذه الخطط من نجح أو إخفاق. فأما إحصاء القتلى والجرحى والغرقى - إن اضطر الجيش المنهزم إلى عبور نهر أو قناة - وإحصاء المنهزمين، بل إحصاء الجيوش نفسها قبل أن تلتقي وحين تلتقي، فشيء لا سبيل إليه، ولا سيما بالقياس إلى الأحداث التي كانت في العصور القديمة حين لم يكن هناك إحصاء دقيق، وحين لم يكن للناس علم بمناهج البحث والاستقصاء وتحقيق أحداث التاريخ.
وقدماء المؤرخين من العرب لم يعرفوا من أمر هذه الأحداث الكبرى إلا ما تناقله الرواة من العرب والموالي، فهم إنما عرفوا تاريخ هذه الأحداث من طريق المنتصرين وحدهم ، بل من طريق الذين لم يشهدوا الانتصار بأنفسهم، وإنما نقلت إليهم أنباؤه نقلا أقل ما يمكن أن يوصف به أنه لم يكن دقيقا، وهم لم يسمعوا أنباء هذا الانتصار من المنهزمين بين فرس وروم وأمم أخرى شاركتهم في الحرب وشاركتهم في الهزيمة، فهم سمعوا صوتا واحدا هو الصوت العربي.
وأيسر ما يجب على المؤرخ المحقق أن يسمع أو يقرأ ما تحدث به أو كتبه المنهزمون والمنتصرون جميعا.
والأحداث الكبرى التي كانت أيام الشيخين خطيرة في نفسها، تبهر الذين يسمعون أنباءها أو يقرءونها، فليست في حاجة إلى أن يتكثر في روايتها المتكثرون، ولا إلى أن يحيطها الرواة بما أحاطوها به من الغلو والإسراف؛ فرد العرب إلى الإسلام بعد أن جحدوه، وإخراج الروم من الشام والجزيرة ومصر وبرقة، وإخراج الفرس من العراق والقضاء على سلطانهم في بلادهم؛ كل هذه أحداث لا سبيل إلى الشك فيها ولا في وقوعها في هذا العصر القصير أثناء خلافة الشيخين، وهي أحداث تصف نفسها وتدل على خطورتها وليست محتاجة إلى المبالغة في وصفها؛ لأنها فوق كل مبالغة، مع أنها حقائق لا معنى للشك فيها.
ناپیژندل شوی مخ
من أجل هذا كله، أعرض عن تفصيل هذه الأحداث كما رواها القدماء وأخذها عنهم المحدثون في غير بحث ولا تحقيق.
وأنا أعتقد أن المؤرخ حين يقول: إن عصر الشيخين قد شهد انتصار المسلمين على الروم، وقضاء المسلمين على دولة الفرس، قد قال كل شيء، وسجل معجزة لم يعرف التاريخ لها نظيرا.
أنا إذن لا أملي هذا الحديث لأثني على الشيخين، ولا لأفصل تاريخ الفتوح في عصرهما؛ وإنما أريد إلى شيء آخر مخالف لهذا أشد الخلاف، أريد أن أعرف وأن أبين لقارئ هذا الحديث شخصية أبي بكر وعمر - رحمهما الله - كما يصورها ما نعرف من سيرتهما، وكما تصورها الأحداث التي كانت في عصرهما، وكما يصورها هذا الطابع الذي طبعت به حياة المسلمين من بعدهما، والذي كان له أعظم الأثر فيما خضعت له الأمة العربية من أطوار، وما نجم فيها من فتن.
ويقول الرواة: إن عمر قال عن أبي بكر: إنه أتعب من بعده. وليس من شك في أن عمر كان أشد من أبي بكر إتعابا لمن جاء بعده؛ فسيرة هذين الإمامين قد نهجت للمسلمين في سياسة الحكم، وفي إقامة أمور الناس على العدل والحرية والمساواة نهجا شق على الخلفاء والملوك من بعدهما أن يتبعوه؛ فكانت نتيجة قصورهم عنه - طوعا أو كرها - هذه الفتنة التي قتل فيها عثمان رحمه الله، والتي نجمت منها فتن أخرى، قتل فيها علي رضي الله عنه، وسفكت فيها دماء كثيرة كره الله أن تسفك، وانقسمت فيها الأمة الإسلامية انقساما ما زال قائما إلى الآن.
هذا النهج الذي نهجه الشيخان - والذي قصر عنه بعدهما الخلفاء والملوك - هو الذي أريد أن أعرفه وأجلوه لقارئ هذا الحديث، وأستخلص منه بعد ذلك شخصية أبي بكر وعمر رحمهما الله.
ولا أذكر عسر هذا البحث، ولا ما سأبذل فيه من الجهد، وما سأتعرض له من المشقة، وما سيعرض لي من المشكلات؛ فكل من يحاول مثل هذا البحث لا بد من أن يوطن نفسه على كل هذا العناء، ومن أن يستعين الله عليه.
أبو بكر
1
يقول الله - عز وجل - في سورة الحجرات:
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم .
ناپیژندل شوی مخ
وكل شيء يدل على أن الله - عز وجل - قد اختار نبيه لجواره، وما زال الأعراب مسلمين لم يدخل الإيمان في قلوبهم بعد، رأوا سلطانا جديدا قد ظهر في الأرض وأظل المدينة ومكة والطائف، وطالب الناس بأن يدينوا دينه، ويشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ويؤدوا ما يفرض عليهم من الواجبات.
ورأوا هذا السلطان يعلن الحرب على كل عربي في الجزيرة يستمسك بشركه ولا يذعن لهذا الدين الجديد، ورأوه يحول بين المشركين وبين المسجد الحرام بمكة، ويعلن إليهم قول الله - عز وجل - في سورة براءة:
إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا .
ورأوا لهذا السلطان من القوة والبأس - ورأوا فيه من السعة والإسماح - ما رهبهم ورغبهم؛ فأعلنوا إذعانهم لهذا الدين الجديد طائعين أو كارهين.
ولو قد بقي النبي
صلى الله عليه وسلم
فيهم أعواما كثيرة أو قليلة لكان من الممكن أن تذعن لهذا الدين قلوبهم كما أذعنت له ألسنتهم، ولكن الله آثر لنبيه رحمته ورضوانه؛ ففارق هذه الدنيا راضيا مرضيا، ورأى المسلمون غير المؤمنين من العرب أنه رجل كغيره من الرجال يعرض له الموت كما يعرض لغيره من الناس، وأن الذي نهض بالأمر من بعده ليس إلا رجلا يعرفونه، ويقدرون أنه أجدر أن يعرض الموت له كما عرض للنبي الذي أنزل عليه القرآن وأتيح له ما أتيح من الظهور على كل من خالفه أو ناوأه.
هنالك تكشفت قلوبهم عن دخائلها، وأظهروا أنهم قد أسلموا لسلطان النبي دون أن تؤمن به قلوبهم، فأظهروا ما أظهروا من الردة، وجعلوا يساومون في الزكاة، وتقول وفودهم لأبي بكر: نقيم الصلاة ولا نؤدي الزكاة.
كان المال أحب إليهم من الدين، وكانت نفوسهم أكرم عليهم من أن يؤدوا ضريبة إلى رجل لا يوحى إليه ولا يأتيه خبر السماء.
بل إن ظاهرة أخرى دلت على أن فريقا من العرب لم ينتظروا بجحودهم وردتهم فراق النبي
ناپیژندل شوی مخ
صلى الله عليه وسلم
لهذه الدنيا؛ فأظهروا الردة قبل وفاته، لا لأنهم ضاقوا بالزكاة، أو آثروا المال على الدين، بل لأنهم نفسوا على قريش أن تكون فيها النبوة، وأن يهيأ لها ما هيئ من هذا السلطان بما له من قوة وبأس، وبما فيه من سعة وإسماح، فظهر بينهم بدع جديد وهو التنبؤ.
فما ينبغي أن تستأثر قريش من دونهم بالنبوة، وما ينبغي أن تختص وحدها بهذا السلطان تبسطه على الأرض.
وما أسرع ما ظهر التنبؤ في ربيعة - وفي بني حنيفة منهم خاصة - فأعلن مسيلمة نبوته في اليمامة، وجعل يهذي بكلام زعم أنه كان يوحى إليه، وجعل يقول: لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشا قوم يظلمون.
وظهر التنبؤ في اليمن، فثار الأسود العنسي وأعلن نبوته، وركبه شيطان السجع كما ركب مسيلمة.
ولم يكد النبي
صلى الله عليه وسلم
ينتقل إلى الرفيق الأعلى حتى ظهر تنبؤ آخر في بني أسد؛ فأعلن طليحة أنه نبي، وجعل يهذي لقومه كما هذى صاحباه بالسجع، ويزعم أنه يتنزل عليه من السماء.
ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تنبأت امرأة في بني تميم - وهي سجاح - كانت نازلة في بني تغلب، فلما استأثر بها شيطان السجع أسرعت إلى قومها من تميم فأغوت منهم خلقا كثيرا.
وكذلك نفست قحطان على عدنان أن يكون لها نبي من دونها، فظهر فيها الأسود العنسي، ونفست ربيعة العدنانية على مضر أن تستأثر من دونها بالنبوة، ونفست أسد وتميم المضريتان أن تستأثر قريش بالنبوة من دون سائر مضر؛ فظهر طليحة في بني أسد، وظهرت سجاح في بني تميم.
ناپیژندل شوی مخ
وكذلك عادت الأرض كافرة بعد إسلامها، واشتعلت فيها نار، ما أسرع ما انتشر لهبها حتى شمل جزيرة العرب كلها! وحصر الإسلام في المدينة ومكة والطائف.
وكان انتشار هذا اللهب وارتداد الكثرة الكثيرة من العرب محنة امتحن بها أبو بكر، وامتحن بها معه المسلمون بعد وفاة النبي. وليس شيء أصدق تصويرا لشخصية الرجل من ثباته للمحنة مهما تعظم، ونفوذه من مشكلاتها مهما تتعقد، وظهوره على هولها مهما يكن شديدا.
ولم يواجه أبو بكر في أول عهده بالخلافة ردة المانعين للزكاة، وكفر التابعين لمن تنبأ من الكذابين فحسب، وإنما واجه في الوقت نفسه تأهب العرب من نصارى الشام للمكر به والكيد له والغارة عليه.
وقد واجه النبي
صلى الله عليه وسلم
تحفز العرب في الشام على حدود الجزيرة العربية، وكانت له معهم خطوب، فلم تكن مؤتة ولا تبوك إلا محاولة لرد نصارى العرب في الشام عن الجزيرة، بل لم يكتف النبي
صلى الله عليه وسلم
بمؤتة وتبوك، وإنما جهز قبل وفاته جيشا لغزو هؤلاء العرب، وأمر على هذا الجيش أسامة بن زيد بن حارثة، وكان لأسامة ثأر عند هؤلاء العرب الذين قتلوا أباه يوم مؤتة، وعسى أن يكون النبي قد لاحظ هذا الثأر حين أمر أسامة على حداثة سنه، وحين جعل في جيشه خيرة أصحابه، وفيهم أبو بكر وعمر.
ولكن النبي مرض قبل إنفاذ هذا الجيش، ولما أحس الوفاة أوصى بإنفاذ جيش أسامة.
فلما استخلف أبو بكر نظر فإذا الأرض من حوله كافرة، وإذا أولو القوة والبأس من أصحابه قد جندوا في هذا الجيش المهيأ للغارة على أطراف الشام، والذي أوصى النبي قبل وفاته بإنفاذه إلى غايته.
ناپیژندل شوی مخ
فأبو بكر إذن أمام نار مضطربة في الجزيرة العربية كلها، وهو بين اثنتين: إما أن ينفذ هذا الجيش فيواجه هذه النار المتأججة غير قادر على إخمادها، وإما أن يؤجل إنفاذ هذا الجيش حتى يحاول به إخماد هذه النار فيبطئ في إنفاذ وصية النبي.
وكذلك أخذته المحنة من جميع أقطاره، وسنرى كيف استطاع أن يخرج منها ظافرا موفورا.
2
ومن قبل هذه المحنة واجهته محنة أخرى قبل أن يلي أمور المسلمين وهي وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم ، ولم تكن هذه المحنة مقصورة عليه، بل كانت عامة كادت تفتن المسلمين عن دينهم، فهم كانوا يقدرون أن النبي سيبقى فيهم حتى يظهر دين الله على الدين كله، وهم يقرءون في سورة التوبة قول الله عز وجل:
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون .
ويقرءون قوله - عز اسمه - في سورة الفتح:
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا .
وكان النبي قد أظهر دين الحق على الدين كله في جزيرة العرب، ولكنه لم يظهره على الدين في سائر أقطار الأرض، ثم انتقضت اليمن مع الأسود العنسي، وانتقض بنو حنيفة مع مسيلمة في حياة النبي؛ فلم يتم له إذن إظهار دين الحق على الدين كله، لا في جزيرة العرب ولا في غيرها من أقطار الأرض.
وها هو ذا يفارق الدنيا ويختاره الله لجواره، فلا غرابة في أن يشك الصادقون من المؤمنين في أنه قد مات كما شك عمر رحمه الله، ولا غرابة في أن يكفر الذين كانوا يعبدون الله على حرف، كما كفر الأعراب الذين جحدوا الزكاة، ولا غرابة في أن يضطرب أمر الناس في المدينة أشد الاضطراب.
ناپیژندل شوی مخ
فإذا فكرت في أن أبا بكر كان أحب الناس إلى رسول الله، وكان رسول الله أحب الناس إليه؛ عرفت وقع هذه المحنة في نفس أبي بكر. ولكنك تعلم كيف خرج أبو بكر من هذه المحنة دون أن تضطرب لها نفسه، ودون أن يجد الضعف أو الريب إلى نفسه سبيلا، وتعرف كذلك كيف استطاع أن يرد الصادقين من المؤمنين إلى أنفسهم أو يرد أنفسهم إليهم، حين تلا عليهم هاتين الآيتين الكريمتين، وهما قول الله - عز وجل - في سورة آل عمران:
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين .
وقوله في سورة الزمر:
إنك ميت وإنهم ميتون .
لم يجزع إذن أبو بكر ولم يرتب لوفاة النبي، بل ذاد الجزع والريب عن نفوس المؤمنين الصادقين حين ذكرهم بما أنبأ الله في القرآن من أن النبي معرض للموت وللقتل، ومن أنه ميت كما يموت غيره من الناس.
وليس إذن بد من البحث عن مصدر ما أتيح لأبي بكر من الثبات للمحن والصبر عليها، والنفوذ آخر الأمر من مشكلاتها.
3
وليس لهذا كله إلا مصدر واحد هو الذي يدل عليه لقبه: «الصديق»؛ ذلك أن أبا بكر كان رجلا من قريش، ثم رجلا من العرب، ثم إنسانا يفرح لما يفرح القرشي له ويفرق مما يفرق القرشي منه، وتتأثر نفسه بما تتأثر به النفس العربية، وتخضع طبيعته لما تخضع له الطبيعة الإنسانية من كل ما يعرض للناس من الرضى والغضب، ومن السرور والحزن، ومن اللذة والألم، ومن القوة والضعف. ثم كان أبو بكر يمتاز برقة القلب وسماحة النفس والرحمة الشديدة لكل من يصيبه ما يكره.
فكيف استطاعت طبيعته هذه أن تثبت لهذه المحن الشداد، وأن تنفذ منها في غير مشقة ولا تكلف، وهو الذي أشفقت ابنته عائشة - رحمها الله - ألا يسمع الناس صوته حين تقدم النبي يأمره أن يصلي بالناس لما ثقل عليه الوجع، فقالت: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف وإذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء.
ثم كيف استطاع أن يبلغ من النبي
ناپیژندل شوی مخ
صلى الله عليه وسلم
هذه المنزلة التي بلغها، والتي لم يبلغها عنده أحد من أصحابه، فكان النبي يعلن ذلك، فيجيب عمرو بن العاص حين سأله أي الرجال أحب إليه، بأنه أبو بكر.
ويقول يوما على المنبر فيما تحدث الرواة: لو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن إخاء وصحبة حتى يجمعنا الله عنده.
ويختلف إلى داره بمكة مصبحا وممسيا من كل يوم، ويختصه بمصاحبته حين هاجر من مكة، ويؤثره بخاصة أمره كله.
لا جواب على هذه الأسئلة إلا ما ذكرته آنفا من أنه كان الصديق، فهو أول من أسلم من الرجال وكان إسلامه صفوا خالصا، قاومه التصديق العميق، والإيمان الخالص من كل شائبة، والاطمئنان الصادق السمح إلى كل ما يحدث به النبي
صلى الله عليه وسلم ، ثم إيثاره النبي على نفسه في كل موطن، ثم البلاء الحسن كلما جد الجد واحتاج النبي أو المسلمون إلى هذا البلاء.
والرواة يتحدثون بأن النبي حين أنبأ ذات يوم بأنه أسري به من ليلته من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ كذبته قريش، وتردد بعض المسلمين في تصديقه ولم يطمئن لنبئه هذا في غير شك ولا ارتياب ولا تردد إلا رجل واحد هو أبو بكر.
ويحدثنا الرواة كذلك أنه كان الرجل الوحيد الذي اطمأنت نفسه لصلح النبي مع قريش على الهدنة يوم الحديبية، وقد اضطرب الناس لهذا الصلح وضاقوا به أول أمرهم، وثار له عمر بن الخطاب على قربه من النبي وإيثار النبي له؛ فقال للنبي: ألسنا على الحق؟ قال النبي: بلى، قال عمر: أليسوا على الباطل؟ قال النبي: بلى، قال عمر: فلم نعطى الدنية في ديننا؟ قال النبي - وقد أخذه شيء من الغضب: «أنا عبد الله ورسوله ولن يضيعني.»
وذهب عمر بعد ذلك إلى أبي بكر فحاوره كما حاور النبي، فكان جواب أبي بكر نفس الجواب الذي أجاب به النبي، قال لعمر: إنه عبد الله ورسوله ولن يضيعه.
ولم يعرف قط أن أبا بكر قال أو صنع شيئا يؤذي النبي منذ أسلم إلى أن مات، ذلك إلى إيثاره المسلمين على نفسه، وإنفاق ماله في معونتهم.
ناپیژندل شوی مخ
فالرواة يتحدثون بأنه كان رجلا تاجرا، وبأنه أسلم وعنده أربعون ألف درهم، فلما هاجر إلى المدينة مع النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يكن قد بقي له من هذا المال إلا خمسة آلاف درهم، أنفق سائر ماله في مواساة النبي والمسلمين، كان لا يرى رقيقا يعذب في الإسلام إلا اشتراه وأعتقه.
من أجل هذا كله لم يكن أسبق الرجال إلى الإسلام فحسب، بل كان أحسنهم فيه بلاء، وأثبتهم فيه قدما، وأشدهم له اطمئنانا وإذعانا.
ومعنى هذا كله: أن أبا بكر حين أسلم خلق خلقا جديدا، واكتسب شخصية لم تكن له من قبل، قوامها الإيثار والوفاء والاطمئنان والثبات الذي لا يعرف ترددا ولا اضطرابا.
ولأمر ما آثره النبي بصحبته في الهجرة، وذكره الله في القرآن بأنه كان ثاني اثنين في الغار، وكان بعض المسلمين يقولون: إنه كان ثالث ثلاثة، يتأولون الآية الكريمة من سورة براءة:
إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا .
فقد كان الله مع رسوله ومع أبي بكر في الغار، وكان أبو بكر إذن ثالث الثلاثة.
وقد أدبه الله في القرآن تأدبا رائعا قوى شخصيته وزكى نفسه، وعلمه كيف يرتفع عن الصغائر، وكيف يحمل نفسه على ما تكره، ما دام في هذا الذي تكره من البر والمعروف والإحسان ما يرضي الله عنه ويغفر له الذنوب، وذلك في قصة الإفك حين غضب أبو بكر على قاذف ابنته عائشة رحمها الله، وكان هذا القاذف من ذوي قرابة أبي بكر، وكان أبو بكر يحسن إليه ويعطيه ما يعينه على أثقال الحياة؛ فلما اقترف ما اقترف من الإثم أزمع أبو بكر أن يقبض عنه إحسانه ومعونته؛ فأنزل الله في سورة النور بعد قصة الإفك هذه الآية الكريمة:
ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم .
ناپیژندل شوی مخ
فلما سمع أبو بكر هذه الآية قال - فيما يحدث الرواة: بلى، والله إني لأحب أن يغفر الله لي. ثم عفا وصفح، وعاد إلى ما كان يصنع بقاذف ابنته من البر والمعروف والإحسان.
وكذلك صحب أبو بكر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أصدق صحبة وأبرها وأصفاها.
فلا غرابة وهو من النبي بهذه المنزلة، وهو أنصح المسلمين لله ولرسوله وللإسلام، أن يختاره النبي ليصلي بالناس حين ثقل عليه المرض، على رغم ما حاولت عائشة وحفصة من الاعتذار عنه برقة قلبه وشدة حبه للنبي.
ولا غرابة في أن يجد النبي ذات يوم خفة فيخرج للصلاة، وقد قام أبو بكر يصلي بالناس؛ فلما رآه أبو بكر أراد أن يتأخر، فأشار النبي
صلى الله عليه وسلم
إليه ألا تبرح، ثم جلس عن يساره، فكان أبو بكر يصلي بصلاة النبي، وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر.
وكان أبو بكر أفهم الناس عن النبي؛ لأنه كان أعرفهم به وأقربهم إلى قلبه، ومن أجل ذلك فطن لما أراد النبي إليه حين قال ذات يوم على المنبر: إن عبدا خيره الله بين ما عنده وبين زهرة الدنيا فاختار ما عند الله، فقال أبو بكر في صوت تقطعه العبرة: بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا، فعجب الناس لمقالته، وجعل بعضهم يقول لبعض: انظروا إلى هذا الشيخ كيف يقول! ولكن أبا بكر فطن لما أراد النبي من أن هذا العبد الذي آثر ما عند الله على زهرة الدنيا هو النبي نفسه، وكان يؤذن الناس بأن انتقاله عنهم إلى رضوان الله قريب.
والرواة يتكثرون في بعض الحديث ويختلفون فيما يتكثرون فيه باختلاف نزعاتهم السياسية، فقوم يزعمون أن النبي
ناپیژندل شوی مخ
صلى الله عليه وسلم
طلب إلى عائشة في مرضه الذي قبض فيه أن تدعو أخاها عبد الرحمن ليكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف الناس معه عليه، ثم عدل عن ذلك وقال: دعيه، فلن يختلف الناس على أبي بكر.
وقوم آخرون يزعمون أنه لم يسم أبا بكر ولم يسم عبد الرحمن، وإنما أراد أن يكتب لأصحابه كتابا لا يضلوا بعده، فاختلف من كان عنده ذلك الوقت من أصحابه، أراد بعضهم أن يكتب، وأبى بعضهم، وقال - وهو عمر فيما يروى: «إن الوجع اشتد برسول الله وعندنا كتاب الله.»
وقد بينت في غير هذا الموضع أني أشك كل الشك في هذا كله، وأكاد أقطع بأنه مما تكلفته الفرق السياسية بأخرة، ولو قد عزم الله لرسوله على أن يوصي لأبي بكر أو لغيره لما صرفه عن ذلك أحد.
ومهما يكن من شيء فقد قبض النبي
صلى الله عليه وسلم
ولم يوص لأحد لا لأبي بكر ولا لغيره، ولو قد أوصى لأبي بكر لما كانت سقيفة بني ساعدة، ولما خالفه الأنصار عن وصية رسول الله، ولو قد أوصى لعلي لكان أبو بكر أسرع الناس إلى بيعته، فكيف وقد اجتمع المسلمون من المهاجرين والأنصار على بيعة أبي بكر، إلا ما كان من شذوذ سعد بن عبادة وامتناعه عن البيعة.
وقد بايع علي - رحمه الله - أبا بكر، وعمر من بعده وعثمان من بعدهما، ولو قد علم أن النبي قد أوصى له لجاهد في إنفاذ أمر النبي ولآثر الموت على خلاف هذا الأمر.
والواقع - فيما أرجح - أن الرواة أسرفوا على أنفسهم وعلى الناس، بعد انقسام المسلمين فيما أثير من الفتنة بقتل عثمان رحمه الله، فلم يخلصوا أنفسهم للصدق في الرواية، ولم يتحرجوا من أن يصوروا أمر المسلمين إثر وفاة النبي كما كان أمر المسلمين في أيامهم. وأيسر النظر في كتب التاريخ القديمة، وفي كتب المتكلمين القدماء يبين لنا أن المسلمين انقسموا بأخرة في بيعة أبي بكر، كما انقسموا في أشياء كثيرة غيرها انقساما شديدا، فقد أكثر المتكلمون الجدال في أمر أبي بكر وعلي رحمهما الله، فكان البكريون يزعمون أن أبا بكر أفضل المسلمين وأحقهم بخلافة النبي
صلى الله عليه وسلم
ناپیژندل شوی مخ
ويلتمسون على ذلك ألوانا من الحجج يكثر فيها التكلف والتزيد، وكان المتشيعون لعلي يذهبون مذهب خصمهم، فيتكلفون ويتزيدون.
يقول البكريون مثلا: إن أبا بكر أول من أسلم من الرجال، ويأبى مخاصموهم ذلك فيقولون: إن عليا أول من أسلم من الرجال.
ويقول البكريون: إن عليا قد أسلم ولم يجاوز الصبا فلم يكن مكلفا، وأسلم أبو بكر وقد بلغ الشيخوخة أو كاد يبلغها، وفرق بين إسلام الرجل الذي كملت رجولته وإسلام الصبي الذي لما يبلغ الحلم.
ثم يختصمون في سن علي حين نبئ النبي: يذهب البكريون إلى أنه كان تسع سنين، وربما ألجأتهم الخصومة إلى الغلو، فزعموا أن عليا أسلم وهو ابن ست سنين.
وواضح ما في هذا من السرف، فعندما هاجر النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة وخلف عليا بمكة ليؤدي إلى بعض الناس ودائع كانت عند النبي، ويقال: إن النبي أمر عليا أن يشتمل ببردة كانت له، وأن ينام في فراشه؛ ليوهم الرصد الذين كانوا يتربصون به ليقتلوه أنه ما زال نائما في بيته، فلما أصبحوا تبينوا أن من كان نائما في فراش النبي إنما هو علي.
ثم كانت وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة، فأبلى فيها علي أحسن البلاء، وكل ذلك يدل على أن عليا لم يكن في أول الصبا حين أسلم، وعسى أن يكون قريبا من أول الشباب، وأكبر الظن أنه كان قد جاوز العشرين حين هاجر النبي وخلفه في مكة ليرد على الناس ودائعهم.
وإذن فأبو بكر أول من أسلم من الرجال الذي جاوزوا الشباب وبلغوا الكهولة وأوشكوا أن يبلغوا الشيخوخة، وهو بعد ذلك لم يكن ذا قرابة قريبة من النبي
صلى الله عليه وسلم ، وإنما كان رجلا من قريش، فسبقه إلى الإسلام فضيلة تقدمه على الذين أسلموا بعده، لا شك في ذلك.
ناپیژندل شوی مخ
وكان علي - كما نعلم - ربيب النبي، يعيش معه في داره، أخذه النبي من عمه أبي طالب ليخفف عنه مئونته، فلا غرابة في أن يسبق إلى الإسلام في آخر عهده بالصبا وأول عهده بالشباب.
فكلا الإمامين سابق إلى الإسلام ليس في ذلك شك، أسلم أحدهما لمكانه من النبي، ولتأثره لما كان يسمع ويرى في أكثر ساعات النهار، وكان الثاني أول من استجاب للدعوة حين تجاوز النبي بها عشيرته الأقربين.
ولا يقف اختصام الرواة باختصام الفرق عند هذا، ولكن الأحاديث التي تروى عن النبي
صلى الله عليه وسلم
تكثر وتتشعب لا لشيء إلا ليظهر أحد الفريقين على صاحبه.
يقول الشيعة مثلا: إن عليا كان وصي النبي، فيحاول مخاصموهم أن يزعموا أن النبي هم أن يوصي لأبي بكر، ثم عدل لأنه وثق بأن المسلمين لن يختلفوا عليه.
ويروون أحاديث أخرى، يروون - انظر طبقات ابن سعد - أن أبا بكر قال للنبي ذات يوم: وما أزال أراني أطأ في عذرات
1
الناس، قال: لتكونن من الناس بسبيل، قال: ورأيت في صدري كالرقمتين،
2
ناپیژندل شوی مخ
قال: سنتين، قال: ورأيت علي حلة حبرة، قال: ولد تحبر
3
به.
فقد أرى أبو بكر هذه الرؤيا وأولها النبي بأنه سيلي أمر الناس، ثم أرى أبو بكر كأن في صدره رقمتين، فأولها له النبي بأن ولايته ستتصل سنتين.
فواضح ما في هذا الحديث من التكلف.
ورؤيا أخرى أريها النبي
صلى الله عليه وسلم
وأولها له أبو بكر، ويرويها ابن سعد في طبقاته أيضا، قال النبي لأبي بكر: يا أبا بكر، رأيت كأني استبقت أنا وأنت درجة فسبقتك بمرقاتين ونصف، قال: خير يا رسول الله، يبقيك الله حتى ترى ما يسرك ويقر عينك، فأعاد عليه مثل ذلك ثلاث مرات.
فقال له في الثالثة: يا أبا بكر، رأيت كأني استبقت أنا وأنت درجة، فسبقتك بمرقاتين ونصف. قال: يا رسول الله، يقبضك الله إلى رحمته ومغفرته وأعيش بعدك سنتين ونصفا.
فقد كان أبو بكر إذن يعرف متى تنتهي حياته، ولا سيما بعد وفاة النبي
ناپیژندل شوی مخ
صلى الله عليه وسلم ، والغريب أنه انتظر باستخلاف عمر - رحمه الله - مرضه الذي توفي فيه ، واسترد من ابنته عائشة ما كان وهب لها من ماله ليجعله في الميراث حين أشرف على الموت.
وكل هذا مما تكلفه الرواة بأخرة، وليس عندي شك في أنه من الضعف بمنزلة ما رويت آنفا، من أن النبي هم أن يوصي له، ثم اطمأن إلى اجتماع الناس على أبي بكر، فعدل عن وصيته. وهذه الأحاديث إنما أريد بها إلى مخاصمة الشيعة فيما كانت ترى من أن عليا هو وصي النبي.
والذي لا أشك فيه هو أن القرآن لم ينظم للمسلمين أمر الخلافة ولا توارثها، وأن النبي لم يترك وصية أجمع عليها المسلمون، ولو قد فعلها لما خالف عن وصيته أحد من أصحابه، ولا من المهاجرين ولا من الأنصار.
وفضل أبي بكر أظهر من أن يحتاج إلى مثل هذا التكلف، وفضل علي أظهر من أن يحتاج إلى التكلف أيضا، فهو ابن عم النبي
صلى الله عليه وسلم ، وهو زوج ابنته وأبو سبطيه: الحسن والحسين رحمهما الله، وبلاؤه في الإسلام لا يشك فيه مسلم، وحب النبي له معروف، أعلنه
صلى الله عليه وسلم
غير مرة، فلا حاجة إذن إلى أن تخترع الأحاديث لإثبات ما لا حاجة إلى إثباته؛ كالحديث الذي يروى من أن العباس عرف الموت في وجه النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكان يعرف الموت في وجوه بني عبد المطلب ...
فخرج علي ذات يوم من عند النبي في مرضه الذي توفي فيه، فسأله الناس عن رسول الله، فقال: أراه بحمد الله بارئا، قال الرواة: فأخذ العباس بيد علي، فقال: ألا ترى أنك بعد ثلاث عبد العصا، وإني أرى رسول الله سيتوفى في وجعه هذا، وإني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، فاذهب إلى رسول الله، فسله: فيمن يكون هذا الأمر؟ فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا أمر به فأوصى بنا، قال علي: والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطيناها الناس أبدا، والله لا أسألها رسول الله أبدا.
والغريب أن الطبري يروي هذا الحديث من طريقين دون أن ينكر منه شيئا، مع أن التكلف فيه ظاهر، وهو إنما أريد به أن يرد على الشيعة بأن عليا لم يكن يعلم أنه وصي النبي، وأنه كان يرجو أن تساق الخلافة إليه يوما، وأنه أشفق إن سأل النبي عنها أن ينبئه النبي بأنها ليست في بني هاشم؛ فيعلم الناس بهذا المنع ثم يرونه دينا فلا يسمحون بالخلافة لهاشمي أبدا.
ناپیژندل شوی مخ
وأعتقد أن عليا كان أكرم على نفسه، وأشد حبا لرسول الله من أن يقول هذه المقالة أو يفكر هذا التفكير، وإن صح من هذا الحديث شيء فهو أن عليا كان يعلم أن النبي كان في شغل بمرضه، وربما كان يدبر رغم هذا المرض من أمور المسلمين، فكره أن يشق عليه من جهة، واستحيا من جهة أخرى أن يظهر أمام النبي مظهر المستغل لمكانته منه الراغب مع ذلك في السلطان.
وقد كان علي يعرف حب النبي له وبره به وإكباره لبلائه في الإسلام، ويعلم أن النبي إن كان موصيا له أو لغيره فلن يصرفه عن ذلك صارف، وإن كان غير موص فلن يحمله على ذلك حامل، والنبي إنما كان ينطق عن أمر السماء، فلو قد أراده الله على أن يوصي لأوصى دون أن يسأله سائل أو يرغب إليه راغب.
وقصة أخرى يرويها المؤرخون، وما أراها إلا متكلفة أيضا، فهم يزعمون أن أبا سفيان حين رأى أمر البيعة يستقيم لأبي بكر - وهو رجل من تيم ليس من بني عبد مناف ولا من بني قصي - أخذته العصبية الجاهلية، فجعل يبرق ويرعد، ويقول: لئن شئت لأملأن عليه الأرض خيلا، ويقول: فأين بنو عبد مناف؟ ثم حاول أن يغري عليا والعباس بمثل ثورته؛ فجعل يحرضهما ويسأل: أين الأذلان؟ ويتمثل بقول الشاعر:
ولا يقيم على ضيم يراد به
إلا الأذلان عير الحي والوتد
4
هذا على الخسف معقوص برمته
5
وذا يشج فما يرثي له أحد
ثم يعرض على علي بيعته، ولكن عليا يزجره قائلا له: طالما بغيت الإسلام شرا فلم تضره، ثم رفض ما كان يعرض عليه.
ناپیژندل شوی مخ
ولو قد قال أبو سفيان هذه المقالة أو دعا هذه الدعوة لعلم بها أبو بكر وعمر، كما علم بها الرواة، ولعرفا كيف يضعان أبا سفيان حيث وضعه الله.
وإنما هي قصة تكلفها المتقربون إلى بني العباس بالتشنيع على بني أمية، كما تكلفوا كثيرا من أمثالها.
ويزيد بعض الرواة في هذه القصة ما يقطع بكذبها، فيزعمون أن بعض من سمع أبا سفيان يقول هذه المقالة في أبي بكر قال له: إن أبا بكر قد ولى ابنك، هنالك رضي أبو سفيان وقال: وصلته رحم.
والواقع من أمر الخلافة أنها أطلقت ألسنة بعض الرواة المتعصبين للأحزاب السياسية بكذب كثير، وروى المؤرخون هذه الأكاذيب بأخرة من غير تحقيق ولا تمحيص، فاختلطت الأمور على الناس وذهبوا في فهمها وتأويلها واستخلاص الحق منها كل مذهب.
والذي أرجحه - وأوشك أن أقطع به - هو أن عليا والعباس كانا مشغولين بتجهيز النبي
صلى الله عليه وسلم
حين بويع لأبي بكر؛ فالرواة مجمعون على أن الأنصار لما عرفوا وفاة النبي بعد أن سمعوا مقالة أبي بكر وما تلا من القرآن ليبين للشاكين والمضطربين أن النبي قد قبض، وأن من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وأن القرآن قد أنبأ بأن النبي رجل يعرض له الموت كما يعرض لغيره من الناس.
أقول: إن الأنصار لما عرفوا وفاة النبي اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة وتشاوروا بينهم، فتم رأيهم على أن يكون السلطان فيهم؛ لأنهم أهل المدينة، ولأن غيرهم من المهاجرين طارئون عليهم فيها، وليس منهم من يوحى إليه كما كان يوحى إلى النبي، فلا ينبغي أن يلوهم بعد وفاة النبي وانقطاع الوحي، وقدموا سعد بن عبادة من الخزرج ليبايعوه. وبلغ ذلك عمر؛ فأرسل إلى أبي بكر في بيت النبي: أن اخرج إلي، ولم يستجب إليه أبو بكر، بل قال لرسوله: قل له: إني مشتغل، فأعاد عمر الرسول إليه بأن أمرا قد حدث ولا بد من أن يحضره.
فخرج إليه أبو بكر، فلما عرف منه ما أزمع الأنصار ذهب معه إليهم، ولقيا في طريقهما أبا عبيدة بن الجراح، فانطلق معهما، وأتى ثلاثتهم الأنصار وقد هموا ببيعة سعد؛ فحاوروهم، وحاجوهم في هذا الأمر، وأقنعهم أبو بكر بأن المهاجرين من قريش هم أولى بالنبي وبسلطانه من بعده؛ لأنهم عشيرته وذوو قرابته.
ثم بايع عمر وأبو عبيدة لأبي بكر، وأقبل الأنصار فبايعوه بعد أن ذكرهم رجل منهم - هو بشير بن سعد - بأنهم لم يؤووا النبي ولم ينصروه ابتغاء للدنيا، وإنما آووا ونصروا ابتغاء مرضاة الله عز وجل.
ناپیژندل شوی مخ
وكذلك بدأت بيعة أبي بكر، وعلي والعباس مشغولان بأمر النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكان هذا كله في اليوم نفسه الذي قبض فيه النبي.
ولست أطمئن إلى أكثر ما يرويه الرواة من نصوص الحوار الذي كان بين أبي بكر وصاحبيه من جهة، وبين الأنصار أوسهم وخزرجهم من جهة أخرى.
فهم يروون هذا الحوار رواية من شهد اجتماع القوم وسمع ما كان فيه من الأحاديث والخطب، ثم لم يكتف بالسماع وإنما سجل ما قيل حرفا حرفا، بل سجل حركات القوم وإشاراتهم، ولو قد استطاع لسجل نبرات الأصوات، مع أن هذا الحوار وأمثاله لم يدون إلا بأخرة، بعد انقضاء عصر الخلفاء الراشدين، وصدر من ملك بني أمية. ولم ينتقل هذا الحوار وأمثاله إلى القصاص والمؤرخين مكتوبا، وإنما نقل إليهم مشافهة، وصنعت فيه الذاكرة صنيعها وتعرض بعضه للنسيان وبعضه لتغيير اللفظ، وصنعت فيه الأهواء السياسية صنيعها أيضا.
فهم يزعمون مثلا أن الأوس تناجت بينها؛ فقال بعضها لبعض: والله لئن وليت الخزرج - وهم قوم سعد بن عبادة - هذا الأمر لكانت لهم عليكم الفضيلة إلى آخر الدهر، ثم تناصح القوم أن يبايعوا لأبي بكر حتى لا يتاح هذا السبق للخزرج.
والذي نعرفه من سيرة الأنصار - ومن سيرة المسلمين عامة - يدل على أن الإسلام قد ألغى ما كان في قلوبهم من التنافس والتباغض، ومحا ما كان في صدورهم من الضغائن الجاهلية، فغريب أن تعود إليهم جاهليتهم بكل ما كان فيها من الحقد والحسد والموجدة فجاءة في اليوم نفسه الذي قبض فيه النبي
صلى الله عليه وسلم .
وما ينبغي أن ننسى أن من الرواة من كانوا من الموالي الذين لم تبرأ قلوبهم من الضغن على العرب؛ لأنهم فتحوا بلادهم وأزالوا سلطانهم، ثم استأثروا من دونهم بالأمر أيام بني أمية، وإذا كان الكذب قد كثر على رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فأي غرابة في أن يكثر على المؤمنين من أصحابه.
والذي أستخلصه أنا من قصة السقيفة أيسر جدا مما صور المؤرخون، فقد أشفق الأنصار بعد وفاة النبي من أن يلي المهاجرون من قريش الخلافة، فيصير هذا سنة وتستأثر قريش بالأمر، فإذا ذهب الصالحون من أصحاب النبي لم يعرف من يأتي بعدهم من قريش حق الأنصار، فظلموهم وجاروا عليهم، فأراد الأنصار إذن أن يحتاطوا للمستقبل، وكأنهم أحسوا قبل أن يأتيهم أبو بكر وصاحباه أن قريشا لن ترضى منهم بهذا الأمر، فأزمعوا أن يعرضوا على المهاجرين أن يكون الأمر في المهاجرين والأنصار على سواء، فينهض بأعباء الحكم أميران: واحد من أولئك، وواحد من هؤلاء. ويكون بذلك توازن في التبعات، فإذا بغى أحدهما كفه الآخر.
ناپیژندل شوی مخ